التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١
-التحريم

تيسير التفسير

{ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. يَا أيُّها النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِمُ } المراد منع النفس عما حل مع اعتقاد أنه حلال وإِلا فتحليل الحرام وتحريم الحلال كفر، حاشاه - صلى الله عليه وسلم.
{ مَا أحَلَّ اللهُ لَكَ } هو العسل حرم شربه، كان يمكث عند زوجه زينب بنت جحش ويشربه عندها، فاتفقت عائشة وحفصة على أنه إِذا دخل على إِحداهما أن تقول له إِنى أجد منك ريح مغافير أكلت مغافير، فدخل على إِحداهما فقالت ذلك، فقال: لا بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود وقد حلفت ولا تخبرى بذلك أحدًا، فنزلت: { يَا أيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ } أقرت بذلك عائشة، والمغافير بفتح الميم جمع مغفور بضمها وبالغين المعجمة له رائحة كريهة علك العرفط، وقيل نبات له ورق عريض، وقيل هو شوك له نور يأكل منه النحل والعرفط علكه، وكان - صلى الله عليه وسلم - يكره الرائحة الكريهة، وكان - صلى الله عليه وسلم - يحب الرائحة الطيبة جداً للطافة نفسه وللملك؛ فشق عليه تلك الرائحة فحرم العسل إِذ ظن أن تلك الرائحة منه لأَكل النحل ذلك؛ وفى نفس الأَمر لا رائحة من ذلك فيما شرب من ذلك العسل، إِلا أن ظاهر رواية عن سودة أن الرائحة متحققة عليه وهى أن سودة قالت: أكلت مغافير؟ قال: لا. قالت: فما هذه الريح التى أجد منك؟ قال: سقتنى حفصة شربة عسل. فقالت: جرست نحلة العرفط. فحرم العسل فنزلت إِلا إِن توطأَت مع عائشة أن تقول ذلك أو كان من عند نفسها احتيال.
وفى البخارى ومسلم أن الشرب عند حفصة والمتواطئتين على القول عائشة وسودة وأن العسل من عكة أهدتها لحفصة إِمرأة من قومها. وعن ابن عباس شرب من شراب عند سودة من العسل فدخل على عائشة فقالت: إِنى أجد منك ريحاً، فدخل على حفصة فقالت: إِنى أجد منك ريحاً. فقال: أراه من شراب شربته عند سودة والله لا أشربه فنزلت، ومعنى أراه بفتح الهمزة وضمها بمعنى أظنه، وظاهر هذه الرواية أنه شراب ركب من عسل لا عسل وحده، وظاهر ما مر أنه عسل وحده، وتحتمله هذه على أن من للبيان، والصحيح أن الشرب عند زينب وهو المشهور وهو رواية للبخارى، وفى الأُخرى له عن عائشة أن الشرب للعسل فى بيت حفصة والقابلة سودة وصفية.
وروى عن أنس أنه كانت له - صلى الله عليه وسلم - أمة يطأَها يعنى مارية فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها على نفسه فنزلت، كما روى عن ابن عباس أن الآية نزلت فى سريته وعبارة بعض أن المشهور أنها مارية وأنه - صلى الله عليه وسلم - وطئها فى بيت حفصة فى يومها إِذ خرجت إِلى أبيها بإِذنه - صلى الله عليه وسلم - فعاتبته وبكت وقالت فعلت ذلك فى بيتى ويومى وفراشى وما رأيت لى حقاً وما تفعل ذلك بإِحدى نسائك. فقال: ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها. قالت: بلى. فحرمها وضربت الحائط بينها وبين عائشة فبشرتها وقالت: أراحنا الله منها، ومع ذلك لم تزل عائشة به - صلى الله عليه وسلم - حتى حلف أن لا يقربها. وروى أن هذا فى بيت حفصة فى يوم عائشة، وروى أنه خلا بها فى يوم عائشة وعلمت ذلك حفصة أى لأَنه كان ذلك فى بيتها فقال لها: اكتمى ذلك علىّ وقد حرمت مارية على نفسى وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدى أمر أمتى فأَخبرت بذلك عائشة وكانتا متصادقَتَين على سائر نساء النبى - صلى الله عليه وسلم - وطلق حفصة إِذ أخبرت عائشة بما استكتمها واعتزل نساءه ومكث تسعًا وعشرين ليلة فى بيت مارية فنزل جبريل عليه السلام فقال: راجعها فإِنها قوامة صوامة وإِنها من نسائك فى الجنة، ويجوز الجمع بأَنه حرم مارية وحرم العسل فنزلت الآية فيهما وما واقعة على غير العالم وهو العسل أووطوء مارية وهو المشهور فيها، ويجوز وقوعها على مارية كقوله - صلى الله عليه وسلم -
"سبحان من سخركن لنا" وشهر ذلك فى المماليك لأَنها مال كما قال الله تعالى { { وما ملكت أيمانكم } [النساء: 36].
{ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أزْوَاجِكَ } استئناف نحوى للعتاب أو بيانى كأَنه قال - صلى الله عليه وسلم - ما جهة الإِنكار علىَّ يا رب وقد فعل مثله غيرى من الأَنبياء كما قال الله جل وعلا
" { إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ } " [آل عمران: 93] فقال إِنك تبتغى مرضاة أزواجك، أو الجملة تفسير لتحرم بأَن يجعل ابتغاء مرضاتهن عين التحريم مبالغة فى كونه سبباً للتحريم وفيه تفخيم عظيم كذا قيل، وأقول لا تظهر فائدة فى المبالغة فى جعله سبباً فضلا عن أن يقال فيه تفخيم عظيم، ويجوز أن تكون الجملة حالا من المستتر فى تحريم فيكون محل العتاب هو ابتغاء المرضاة كقولك لم مشيت إِلى المسجد راكباً، ولا يلزم من الحالية ذلك لجواز أن العتاب على نفس التحريم وحده أو عليهما كقولك لم جئت إِلى المسجد آخر الوقت متكاسلا، ومرضاة مصدر ميمى بمعنى الرضا وإِضافة الأَزواج إِلى الكاف للجنس فيصدق ولو بالواحدة كحفصة إِذ اغتاظت بوطء مارية فى بيتها، والإِثنتين كحفصة اغتاظت لذلك وعائشة اغتاظت ليومها.
{ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من منع نفسه من وطء مارية أو شرب العسل أو كليهما ليس معصية بل مكروه فغفر الله سبحانه هذا الفعل المكروه أو عده معصية فى حقه لعظم شأْنه عند الله تعالى وعظم إِنعامه عليه كما يعد عليه عدم العفو معصية، وكذا ترك ما هو أولى، ففى ذكر المغفرة له على ذلك تشريف له إِذ عد عليه لعظمه ذنباً ما ليس ذنباً.