التفاسير

< >
عرض

وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱمْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ٱبْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي ٱلْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ
١١
وَمَرْيَمَ ٱبْنَتَ عِمْرَانَ ٱلَّتِيۤ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ ٱلْقَانِتِينَ
١٢
-التحريم

تيسير التفسير

{ وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ } على حد ما مر قبله إِلا أن ما مر فى أن وصلة المؤمنين لا تنفع الكفرة، وهذا فى أن وصلة الكفرة لا تضر المؤمنين، كما لا يضر كفر فرعون زوجه المسلمة آسية بنت مزاحم، هى فى أعالى الجنة وهو فى أسافل النار.
{ إِذْ قَالَتْ } متعلق بمضاف محذوف مبدل من امرأة بدل اشتمال، أى وضرب الله مثلاً لامرأة فرعون قولها إِذ قالت.
{ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ } أى فى محل رضاك، وهذا معنى العندية وهى الرتبة الشريفة وهو متعلق بابن، وكذا إِن قدر مضاف أى عند عرشك، ويجوز كونه حالاً من قوله.
{ بَيْتًا } ولو نكرة لتقدمها عليه ولو تأَخر لكان نعتاً، وعليه فقدم لمزيد التشريف بالعندية وللاهتمام بها.
{ فِي الجَنَةِ } بدل من عند، قيل أو عطف بيان وعلى تعلقهما معا بابن قيل قدم عند إِشارة إِلى قولهم الجار قبل الدار، بمعنى إِذا أردت سكنى دار أو شراءها مثلاً للسكنى فاعرف أولاً من جارها لعله جار سوء فتجتنبها أو جار خير فترغب فيه، والله الرحمن الرحيم خير جار وخير ولى.
{ وَنَجِنِي مِن فِرْعَوْنَ } جسده ونفسه الخبيثة.
{ وَعَمَلِهِ } هو الإِشراك وسائر المعاصى ومنها قتله وتعذيبه من لا يستحق ذلك، وقدمت فرعون على عمله لشدة بغضها عمله حتى كأنه شئ متجسد تلطخ به بدنه مما هو مستقذر أو اعتبرت فرعون عامًا بجسده وعمله لاشتماله على اعتقاده وما يتولد منه متضمنًا له كأَنه راسخ فى جوارحه وسائر جسده، فعطفت عليه عمله عطف خاص على عام لأَنه الطامة الكبرى من حيث وجوده خارجاً ودخل فى عمله جماعة إِياها، وليس فى شريعتها تحريم تزوج مسلمة بمشرك، ويقال هى عمة موسى آمنت بموسى حين سمعت بتلقف العصا ما سحر به فعذبها بأَربعة أوتاد فى يديها ورجليها، وإِذا تفرقوا عنها أظلتها الملائكة عليهم السلام وزادهم الله قوة على عبادته، وأضجعها على ظهرها وعلى صدرها رحا واستقبل بها عين الشمس، ورفعت رأسها إِلى السماء وقالت رب ابن لى عندك بيتاً فى الجنة، فأَجاب دعاءَها فرأته فى حينها وهو من درة بيضاء، وقيل أمر أن تلقى عليها صخرة عظيمة فرفع الله عز وجل روحها فأُلقيت على جسد لا روح فيه، وهى تأْكل وتشرب فى الجنة بروحها إِلى قيام الساعة، والآية وأمثالها دلائل على أن الدعاء بالنجاة عند الملمات مشروع.
{ وَنَجِنِي مِنَ القَوْمِ الظَالِمِينَ } القبط وغيرهم من أعوان فرعون من مصر أو غيرها { وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ } عطف على امرأة فرعون، فقد انسحب عليها ضرب المثل، إِذ كانت فى قوم كثيرين مضرين لها وباهتين لها وكافرين بحالها وحال ابنها، ولم يصدها ذلك عن عبادة الله تعالى وما ضرها كفرهم، ونالت على مقاساة أهله والتمسك بدين الله عز وجل خير الدنيا والآخرة، وفى الآية تسلية لمن لا زوج لها من النساء بعدها إِذا تمسكن بعبادة الله تعالى وتورعن.
{ التِي أحْصَنَتْ فَرْجَهَا } عن الزنى وما يقرب منه وهى بعيدة عن قرب الفحش، لكن ذكر الله عز وجل هذا ردًا على باهتيها وهذا أولى مما قيل، المعنى الكناية عن العفة كما يقال فلان نقى الجيب على أن الفرج جيب قميصها وهو مخرج رأسها وعنقها منه وهذا ولو كان أبلغ لكنه خلاف الظاهر ألا ترى إِلى قوله تعالى: { فَنَفَخْنَا فِيهِ } وهو قراءة أيضاً فى هذه السورة، وهذا أقوى مما قيل أن جبريل أراد النفخ فى جيب قميصها وقالت أعوذ بالرحمن منك إِن كنت تقياً فتباعدت عنه فنفخ فيه كارهة، والفرج منفذ فى الجسد حقيقة فى سوءة الإِنسان وغيرها، لا ما قيل ونسب للأَكثر من أنه حقيقة بين الرجلين ثم صار حقيقة فيها نعم شهر فيها.
{ فَنَفَخْنَا } أسند النفخ إِليه تعالى على طريق المجاز العقلى إِعظامًا لها رضى الله عنها ولأَثر النفخ والنافخ حقيقة جبريل عليه السلام، وهذا أولى من اعتبار التجاوز بحذف المضاف المتغير الإِعراب به، أى فنفخ رسولنا.
{ فِيهِ } أى فى فرجها، ولا مانع من أن يرسله الله إِليها حتى يقابل فرجها فينفخ فيه بحيث لا يراه ولا يمسه وهو الظاهر، وقيل نفخ فى مخرج عنقها ورأْسها من قميصها فوصل فرجها، فصح أنه نفخ فيه إِذ وصله، وهذا مجاز لعلاقة الجوار لأَن الجيب باعتبار الإِيصال إِلى الفرج كأَنه مجاور له، وأيضاً إِذا شملهما بدن واحد فكأَنهما متجاوران، وأجاز بعضهم عود الهاء إِلى الحمل المدلول عليه بالمقام على أنه كان فيها عيسى بلا روح ثم نفخ فيه الروح، وقيل وجد فيه بالنفخ حياً دفعة.
{ مِن رُوحِنَا } روح لنا بلا توسط لجبريل عليه السلام، والمراد الروح الذى خلقه الله عز وجل وجعل من بعضه عيسى والإِضافة للتشريف.
{ وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِهَا } صحف آدم وصحف إِدريس وصحف إِبراهيم وصحف موسى وسماها كلمات لقلتها بالنسبة إِلى الكتب، وقيل وعده ووعيده وأمره ونهيه.
{ وَكُتُبِهِ } هو الإِنجيل أو جنس كتب الله التوراة والزبور والإِنجيل والقرآن وغيره من كتبه، بل الإِضافة للاستغراق ردًا على من أنكر الإِنجيل وعلى من أنكر القرآن؛ والقرآن ولو تأَخر نزوله لكنه مذكور فى التوراة والإِنجيل وغيرهما فآمنت بما وجد وما سيوجد نزوله كما آمنت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لذكره فى الكتب السابقة، ويدل على أن المراد عموم الكتب قراءة وكتبه بالجمع، وقيل المراد بالكتاب الكتب والصحف وبالكلمات سائر ما يوحى إِلى الأَنبياء، وقيل اللوح المحفوظ وما فيه.
{ وَكَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ } المبالغين فى العبادة وإِخلاصها، ومر كلام فى معنى القنوت، ولم تكن التلاوة من القانتات أو كانت قانتة تعظيماً لعبادتها كأَنها من الرجال المبالغين بها، ومن للتبعيض، وقيل المعنى أنها صدرت من نسل القانتين لأَنها من ذرية هارون أخى موسى عليهما السلام، والأَصل أن الفرع يتبع الأَصل وقد قيل إِن الغالب ذلك، ومن على ذلك للإِبتداء وكونها من نسلهم مدح لها كما قال الله عز وجل:
" { والبلد الطيب يخرج نباته بإِذن ربه والذي خبث لا يخرج إِلاَّ نكدًا } " [الأعراف: 58] وذكرت فى وفاء الضمانة وغيره حديث أحمد: "سيدة نساء أهل الجنة مريم ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية ثم عائشة" ، وحديث البخارى "كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إِلا أربع آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ومريم ابنة عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد - صلى الله عليه وسلم -، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" وذلك أن الثريد لحم ومرق وخبز ممروق فيه لذيذ سهل الأَكل، فإِما أن يريد سائر نساء الأُمة غير فاطمة كما قدمت عنها فى الحديث، وإِما أن يريد عموم النساء والفضل لها من جهة حسن الخلق وحلاوة المنطق والفصاحة والبلاغة وجودة العقل والتحبب للزوج، وحفظت من الحديث ما لم يحفظ رجل وخوطبت فى الآية لكن خوطبت معها حفصة " { إِنْ تتوبا إِلى الله } "[التحريم: 4].. الخ وأنها بنت أفضل الخلق بعد الرسل الصديق رضى الله عنه فالتفضيل جهات فلعله أيضاً فضل عليها من فضل باعتبار كثرة العبادة والمصائب، كما أن تفضيل من فضل عليها فاطمة هو بذلك الاعتبار، وأنها فى نفسها أفضل النساء إِذ هى بضعة من أفضل الخلق، وفى الطبرانى عنه - صلى الله عليه وسلم - "زوجني الله مريم بنت عمران وامرأة فرعون وأخت موسى" ، والله أعلم وهو الموفق. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.