التفاسير

< >
عرض

إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ
٤
عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً
٥
-التحريم

تيسير التفسير

{ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ } يا عائشة وحفصة من اتفاقكما على قولكما فيك رائحة المغفور وليست به تنحيانه عن زينب وما لكما تنحيته عنها، وتمنعانه من الانتفاع بالعسل، وحق لكما أن تقراه على ما يحب وتزايداه، ومِنْ منعكما عن مارية سرية له يحبها مؤمنة غريبة، وكان حقاً عكس ذلك ذكر واحدة فقط بلفظ الغيبة وهو بعض أزواجه، فإِن الظاهر من قبيل الغيبة والأُخرى مضمونة فى قوله "فلما نبأَت" وهى مفعول به محذوف على طريق الغيبة بالظاهر أيضاً على صورة الإِبعاد عن صورة الخطاب، وحين يشتد العتاب يخاطب من أعرض عنه أولا.
قال ابن عباس رضى الله عنهما لم أزل حريصاً على سؤال عمر رضى الله عنه عن المخاطبتين حتى حججت معه وعدل عن الطريق وعدلت معه بإِداوة ماء ونزل وصببت الماء على يديه وتوضأَ فقلت: يا أمير المؤمنين مَنْ المخاطبتان من أزواج النبى - صلى الله عليه وسلم - فى قوله تعالى: { إِنْ تتوبا إِلى الله.. } الخ فقال واعجبا لك يا ابن عباس هما عائشة وحفصة، وحدثنى الحديث بطوله، رأيت ذلك فى البخارى وبعد مدة رأيته أيضاً فى مسلم وقوله يا عجبا تعجب من عدم معرفة ابن عباس بهما إِلى وقت سأَله، وقال الزهرى المعنى أنه كره أن يسأَله عن ذلك.
وفى الحديث عن عمر كنا معشر قريش نغلب نساءنا ولما قدمنا المدينة وجدنا قومًا تغلبهم نساؤهم فتعلمت نساؤنا منهن، وقد تهجر النبى - صلى الله عليه وسلم - إِحدى نسائه اليوم إِلى الليل فقيل له - صلى الله عليه وسلم - كنا نغلب نساءنا ولما قدمنا المدينة غلبتنا فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما رأيت فى بيته - صلى الله عليه وسلم - شيئاً إِلا أهبة ثلاثة، فقلت: ادع الله يا رسول الله أن يوسع على أُمتك فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله تعالى فقال:
"يا ابن الخطاب أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الدنيا" ، والأهبة الجلود جمع إِهاب.
{ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } أتت القلوب بتأويل الجماعة وأقلها اثنان أو ثلاثة حقيقة واثنان تجوزاً وتوسعاً وما لهما إِلا قلبان، ولم يقل قلباكما لئلا تجتمع صيغتا تثنية وهذا هو الكثير، ويليه الإِفراد وإِرادة الجنس نحو فقد صغى قلبكما وبعده التثنية نحو قلباكما وهى الأَصل، هذا كلام ابن مالك. وقال أبو حيان الإِفراد مخصوص بالشعر عند أصحابنا يعنى أهل أندلس، ومعنى صاغت مالت عن الواجب من اعانته على ما يحبه - صلى الله عليه وسلم - والجملة جواب على معنى أصبتما فى التوبة فاستعمل السبب وهو ميل القلب فى المسبب وهو كون التوبة أصابت محله أو الجواب محذوف أقامت علته مقامه فقد أديتما الواجب أو أصابت توبتكما محلها لأَنه قد صغت قلوبكما، ويجوز أن يكون صاغت بمعنى إلى الحق وهو التوبة فتكون الجملة جواباً بلا تأويل ولا حذف، إِلا أن هذا لا يتبادر ولو كان حسناً، ولأَنه ليس فيه ما فيما تقدم من الفوائد مع اختصار اللفظ ولأَنه تنافيه قراءة ابن مسعود فقد زاغت قلوبكما، وأما مسأَلة كون الجواب ماضيا لفظا ومعنى بغير مسلمة عندى سواء كان لفظ كان أو غيره لأَن الجواب منتظر فإِذا قلت إِن قام زيد قام عمرو أمس فمعناه صح قيامه أمس والصحة مترتبة لا ماضية ومنه قول الشاعر:

إِذا ما انتسبنا لم تلدنى لئيمة

أى تبين أنى لم تلدنى وهذا التبين مترتب.
{ وَإِنْ تَظَاهَرَا } تتظاهرا أُبدلت تاء الماضى ظاء وأُدغمت، أى تتعاونا عليه فيما يسوؤه كفراق مارية وترك العسل وإِظهار ما أسر ولم تتوبا أو دمتما على التظاهر.
{ عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاَهُ } أنه تعالى مولاه أى سيده تظاهرتا عليه أو لم تظاهرا، فالجواب محذوف دلت عليه علته أى انتقم الله تعالى منكما حاشاهما أو نصره الله عليكما أو لم يعدم ناصر لأَن الله هو سيده لا يترك نصرته، ويجوز أن يكون هو مولاه بمعنى ناصره عليكما أو على كل أحد فتدخلا بالأُولى فلا حذف ولا تأويل.
{ وَجِبْرِيلُ } مبتدأ خبره مع ما عطف عليه ظهير أو عطف على مستتر فى مولاه إِذا ضمناه معنى ناصر أو تالى أمره، أو مبتدأ خبره مع صالح فحذف أى وجبريل وصالح المؤمنين مولاه أو مواليه بالجمع لأَن إِضافة صالح للجنس والملائكة ظهير مبتدأ وخبر، أو صالح مبتدأ عطف عليه الملائكة وظهير خبر، وموالاة غير الله نصره أو كونه تابعاً له - صلى الله عليه وسلم.
{ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } الإِضافة للجنس فهو فى معنى الجمع، أو حذفت واو الجمع من الخط تبعاً لحذفها من النطق للساكن كيدع الإِنسان ويمح الله ويدع الداع وسندع الزبانية، وقيل صالح المؤمنين علي، روت الشيعة أنه لما نزلت الآية أخذ - صلى الله عليه وسلم - بيد علي فقال هذا صالح المؤمنين أيها الناس، وروى ابن مردويه عن أسماء بنت عميس مثله، وعن مقاتل أبو بكر وعمر وعلى، وقيل الخلفاء الأَربعة، وعن ابن عمر أبو بكر وعمر، وكذا عن ابن مسعود، وكان العباس رضى الله عنه يقرأ وصالح المؤمنين أبو بكر وعمر، ولعل مراد هؤلاء التمثيل لا التخصيص، كما روى ابن مسعود عنه - صلى الله عليه وسلم -
"مِن صالح المؤمنين أبو بكر وعمر" ، ومعنى ظهير معينون أو ناصرون وأفرد لأَنه بوزن مصدر السير والصوت أو لأن المراد فريق ظهير. { وَالمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ } النصر ممن ذكر أو بعد من ذكر والبعدية ترتيب ذكرى، أو ذلك هو الله كما قال ذلكم الله ربكم. { ظَهِيرٌ } نكر تعظيما { عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أن يُبْدِلهُ أزْوَاجًا خَيْرًا } فى الإِسلام والإِيمان والتوبة وما بعد ذلك، بمعنى ما يكون أفضل مما فيكن من الحسن الدينى والدنيوى وزيادة ما لم يكن فيكن، أو خيراً بالجمال واللذة مع هؤلاء الصفات. { مِنْكُنَّ } الخطاب لأَزواجه كلهن لأَنهن فى ساحة الوحى والحضور والعز، والمقصود بالذات عائشة وحفصة المخاطبتان، والمراد إِن طلقكن ولم يراجعكن فلا يشكل بأَنه طلق حفصة، وقال أبوها لو كان فينا خيراً ما طلقك، وأوحى الله إِليه أن راجعها فإِنها صوامة قوامة وزوج لك فى الجنة، وأيضا المراد إِن طلقكن كلكن، وقيل اجتمعت نساء النبى - صلى الله عليه وسلم - فى الغيرة عليه، وعليه فليس المقصود بالذات عائشة وحفصة فقط بل كل مقصود بالذات، نعم هما أشد. وعن عمر رضى الله عنه اجتمع نساء النبى - صلى الله عليه وسلم - فى الغيرة عليه فقلت عسى ربه إِن طلقكن أن يبدله خيراً منكن، فنزلت الآية، وعسى من الله تحقيق إِذا لم يكن شرط وهنا شرط، وأن يبدله خبر عسى أى تبديلاً أى ذا تبديل أو مبدلا أو عسى أمر ربه التبديل وما قبل إِن وبعدها مغن عن جوابها، ولم يطلقهن فهن خير نساء على الأَرض.
{ مُسْلِمَاتٍ } مقرات بالوحدانية والرسالة { مُؤمِنَاتٍ } خالصات الإِيمان بالعمل الصالح، أو منقادات. { قَانِتَاتٍ } عابدات مطلق العبادات على مواظبة أو مصليات أو مطيلات القراءة فى الصلاة أو ليلاً.
{ تَائِبَاتٍ } من الذنوب لا معصومات، كما روى عنه - صلى الله عليه وسلم -
"لو لم تذنبوا لأَتى الله تعالى بقوم يذنبون ويتوبون فيغفر لهم" . { عَابِدَاتٍ } متذللات لأَمره - صلى الله عليه وسلم - { سَائِحَاتٍ } صائمات فرضاً ونفلاً، كما جاء فى الحديث مرفوعا، وذلك أن السائح لا زاد له، وقيل ذاهبات فى الطاعات لله تعالى أى مذهب، لا يحصن شيئا ولا منتهى لهن مخصوص يقتصرن عليه، كالسائح النازع للوطن، ولا يحل هذا فى الإِسلام إِنما هو جهاد ونية وقيل مهاجرا. { ثَيِّبَاتٍ } مفارقات لأَزواج متقدمة بطلاق أو غيره زالت عذرتهن، أو لم تزل، كما تفسر به فى الفقه الثيب بأَنها التى تزوجت قبل وتعرب عن نفسها فى العقد، وقيل اللاتى زالت عذرتهن وذلك من ثاب يثوب بمثلثة بمعنى الرجوع كتاب يتوب بالمثناة إِذ رجعت عن زوجها المتقدم ووزن ثيب فيعل، الأَصل ثيوب قلبت الواو ياء وأُدغمت فيها الياء لإِجتماعها مع ياء قبلها ساكنة، وقيل فعيل أى سويد وقدمت الياء ساكنة فكان القلب والإِدغام { وأبْكَارًا } جمع بكر وهى من لم تتزوج ولم تزل عذرتها أو زالت، وذلك من البكرة وهى أول النهار، إِذ حالها قبل حال الثيب، لم تعطف الصفات الأَوائل لأَنهن يجتمعن فى واحدة وعطف أبكاراً لأَنه لا يجتمع معناه مع معنى ثيبات فى واحدة، ولأَن المعنى أزواجا بعضهن ثيبات وبعضهن أبكاراً، وقيل هذه واو الثمانية زائدة مثل " { والنَّاهُونَ عَنِ المُنْكَر } ِ" [التوبة: 112] " { وفُتِحَتْ أبوَابُهَا } " [الزمر: 73]، " { وثَامِنُهُمُ كَلْبُهُمْ } " [الكهف: 22] واعترض بأَن واو الثمانية على القول بها إِنما تكون حيث لم يحتج إِليها الكلام، وافتخرت عائشة رضى الله عنها بأَنه - صلى الله عليه وسلم - لم يتزوج بكراً غيرها، وردت عليها فاطمة رضى الله عنهن بأَنه - صلى الله عليه وسلم - بكر مع أُمى خديجة لم يتزوج قبلها غيرها وذلك بأَمره - صلى الله عليه وسلم - أن ترد عليها بذلك.