التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ
٢
ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ
٣
-الملك

تيسير التفسير

{ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ والْحَيَاةَ } بدل من الذى بيده الملك، والموت صفة وجودية تضاد الحياة، وقيل زوال القوة الحيوانية وإِبانة الروح عن الجسد، والحياة القوة الحساسة مع وجود الروح فى الجسد، ويدل على أنه وجودى إِيقاع الخلق عليه لأَن الخلق إِيجاد والإِيجاد يحصل الوجود وفى معناه عد التروك أَفعالا، كما سمى الله تعالى ترك الواجب كسباً وفعلا وعملا وأيضاً العدم أزلى لا أول له، وحدث الوجود بإِيجاد الله عز وجل، وأما ما ورد فى الحديث أن الله عز وجل يحضر الموت يوم القيامة بصورة كبش يعرفه أهل المحشر أنه الموت فيذبح فيأيسون من الموت، وفى كلام ابن عباس أن الموت فى صورة كبش أملح لا يمر بشئ إلا مات، وخلق الحياة بصورة فرس أبلق لا يمر بشئ إِلا وجد ريحه وحيى تمثيل، وقال قومنا ذلك على ظاهره،وأن هذا الفرس هو الذى أخذ السامرى من أثره تراباً وألقاه على صورة العجل فحيى بإِذن الله عز وجل، وأن الأَنبياء يركبونه، وقيل الموت أمر عدمى وهو عدم الحياة عما شأْنه الحياة، واختاره بعض وأجاب قائله عن إِيقاع الخلق بأَن الخلق بمعنى التقدير وهو يتعلق بالأَمر العدمى كما يتعلق بالوجودى، ويبحث بأَن فى إِيقاع الخلق على العدم نفى الأَزل فيقال: لم يزل الله يخلق عدماً فلا أول لخلقه فلا أزل، وذلك لا يجوز كما لا يجوز أن يقال لم يزل الله يخلق الأَشياء بلا أول لخلقه. وإِن قال الموت ليس عدماً مطلقاً صرفاً بل عدم شئ مخصوص ومثله يتعلق به الإِيجاد والخلق فذلك رجوع إِلى كونه وجودياً، وقال أيضاً الخلق بمعنى الإِنشاء والإِثبات ويبحث بأَن الإِنشاء أَو الإِثبات هو نفس الإِيجاد، فإِن الإِنشاء أو الإِثبات لا يتصور إِلا بحصول شئ أنشئ أو أثبت وذلك إِيجاد. وقال أيضاً لعل الكلام على حذف مضاف أى خلق أسباب الموت ويرده أن لا دليل على الحذف قيل ولعل المراد خلق زمان الموت والحياة، ويبحث أيضاً بَان الأَصل عدم الحذف والحياة صفة وجودية وهى ما يصح بوجوده الإِحساس. قيل أو معنى زائد على العلم والقدرة يوجب للموصوف به حالا لم يكن قبله من صحة العلم والقدرة وإِطلاق الموت على ما لم تسبق له حياة مجاز وفى ذكر الموت زجر عن الكسل والمعصية وحث على الطاعة وجاء: "أكثروا ذكر هادم اللذات" لأن الموت باب الجزاء وفى ذكر الحياة دعاء إِلى الشكر وقدم ذكر الموت لأَنه رجوع إِلى الأَصل الذى هو العدم ولأَنه زجر من أعظم الزواجر كما هو قاهر، ولأَن تذكره داع إِلى العمل ولأَنه نعمة يتوصل بها إِلى ثواب ما عمل فى الحياة من الخير، كما أن الحياة نعمة يتوصل بها إِلى عبادة الله عز وجل ولينغص ما ذكر بعده من الحياة فلا يغتر بها.
{ لِيَبْلُوَكُمْ } ليعاملكم معاملة المختبر فالكلام إِستعارة تمثيلية وهى أبلغ من الاستعارة المفردة التى هى تشبيه التكليف المترتب عليه الوفاء أو عدم الوفاء، بأَمر أحد من دونه بشئ أو نهيه ليعلم هل يمتثل، ولم أحمل الابتلاء على ظاهره لاستلزامه الجهل تعالى الله عنه، وإِنما صح أن يقولوا أبلغ ببناء اسم التفضيل من بالغ بناء على جواز بنائه من الرباعى بالزيادة مع أنه لا مانع من بنائه من بلغ الثلاثى بمعنى بلغ رتبة عظيمة، ويقال ثلاثة يُسَاوِمْنَ العبد كل يوم؛ بلية نازلة ومنية قاضية ونعمة زائلة.
{ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } جملة استفهامية علق الاستفهام فيها وعما يستحقه من التعدية بالباء. وهكذا التعليق يكون أنواعاً أو عن عمل النصب فى مفرد لتضمن معنى يعلم أَى ليعلمكم أيكم أحسن عملاً. والحق أن التعليق يكون عن المفعول الثانى كما يكون عنهما نحو علمت زيداً هل قام، وغفل الزمخشرى ومتابعوه فى منع تسمية ذلك تعليقاً ثم رأيته مذهباً لأهل أندلس، والمراد بالعمل عمل القلب والجوارح. ودخل فى العمل الترك الذى هو طاعة كترك الرياء، فإِن الترك متفاوت بعض أشد من الآخر فيه وأبعد عن المفارقة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
"أيكم أحسن عقلاً وأورع عن محارم الله تعالى وأسرع في طاعة الله عز وجل" ، وحاصله أيكم أحسن أخذاً عن الله وفهماً وامتثالا، والأَجر يتفاوت بتفاوت: ما ذكر، وجاءت الآية طبق قوله تعالى " { ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } "[الذاريات: 56] فالمعصية بما نزل عن خلق الجن والإِنس وعن الصواب، حتى كأَنها لا تكون البتة أو إِلا شذوذاً فلم يثن التلاوة أيكم يطيع وأيكم يعصى، فكأَنه لا يكون إِلا الطاعة وأنه لا بد منها أصالة فجعل التفضيل فيها بين الكاملة والكملى.
{ وَهُوَ العَزِيزُ } الغالب الذى لا يرد عما أراد. { الغَفُورُ } لمن تاب. { الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } خبر ثالث لهو.
{ طِبَاقاً } نعت لسبع لجواز نعت العدد كما يجوز نعت ما أضيف إِليه العدد وهو فى الأَصل مصدر طابَقَ نعت به مبالغة أو لتقدير ذوات طباق أو للتأْويل بمطابقات بفتح الباء وكسرها أى طابق بعضها بعضاً، فكل واحدة مطابقة ومطابقة أو طابقها الله عز وجل أى جعلها متطابقة، أو مفعول مطلق نعت لمحذوف أى طوبقت طباقاً فطوبقت نعت لسماوات أو لسبع، وقيل ما لا يوجد إِلا مع ما عمل فيه هو مفعول مطلق ولو كان جسماً نحو خلق السماوات والأَرض وحفرت البئر ونسجت الثوب وبنيت الدار، ومعنى طباقاً بعض فوق بعض لا متلاصقة كما زعم الفلاسفة وبعض الإِسلاميين، والحديث يرد عليهم لنصه أن بين كل واحدة وأُخرى خمسمائة عام وانظر من أين ثبت للفلاسفة الإِيمان بالسماوات السبع وهم مشركون غير كتابيين، ولعل المراد فلاسفة الإِسلام.
{ مَّا تَرَى } يا من يصلح للرؤية عموماً النبى - صلى الله عليه وسلم - وغيره وهذا هنا أولى أو الخطاب للنبى - صلى الله عليه وسلم - والوجهان فيما بعد وما نافية ومن زائدة فى المفعول به أو استفهامية إِنكارية مفعول به لترى ومن للبيان فى قوله عز وجل.
{ فِي خَلْق الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ } والجملة مستأْنفة على الاستفهام ونعت لسبع على النفى والرابط خلق لأنه وضع موضع الضمير، أى ما ترى فيهن فوضع خلق موضع الهاء وأُضيف للرحمن، والذوق يقبل ذلك ولا فرق بين الخبر والنعت فى ذلك، ولو منع ابن هشام فى النعت أن يربط بظاهر موضوع موضع المضمر، والمراد بخلق الرحمن سبع السماوات، وإِذا لم تجعل الجملة نعتاً جاز أن يراد به السماوات وأن يراد به عموم الخلق، قيل وهو أولى فتكون الإِضافة للجنس وعلى الأَول للعهد والظاهر إِرادة السماوات لقوله من فطور أى انشقاق، وتفسيره بالخلل مطلقاً خلاف الأَصل، وعلى كل حال فهو مصدر بمعنى مفعول والتفاوت هنا تخالف يوجب نقصاً بعدم التناسب والاستواء وذلك عيب واضطراب، واستدل بعض علىأن البصر أفضل لقوله تعالى: { مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ } إِلى قوله تعالى:
" { حَسِيرٌ } " [الملك: 4] وقوله تعالى: " { أَفلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبلِ كَيْفَ خُلِقَتْ } " [الغاشية: 17] إِلى قوله تعالى: " { كيْفَ سُطِحَتْ } "[الغاشية: 20] وغير ذلك كثير فامتن علينا بالأَبصار لمخلوقاته استدلالا عليه تعالى، وقيل السمع أفضل لقوله تعالى: " { لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } "[الملك: 10]. وقوله تعالى " { الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } " [الزمر: 18] قيل وللإِبتداء به فى قوله تعالى: " { وعلى سمعهم وعلى أبصارهم } "[البقرة: 7] ويرده أن على أبصارهم من جملة أُخرى وأنه أخر فى قوله تعالى: " { أم لهم أعين يبصرون بها } " واختار بعضهم الأَول لأَن منافع البصر أكثر { فَارْجِعِ البَصَرَ } بسبب إِخبارى لك بعدم التفاوت، يظهر لك صدقه سبحان أصدق القائلين أو إِن كنت فى ريب فارجع البصر إِلى خلق الرحمن يزل ريبك، والمراد بالرجع استئناف النظر لا بقيد تقدم نظر وذلك وارد وإِن اعتبرنا تقدم نظر فى قوله تعالى: { ما ترى في خلق الرحمن } لأَن الإِنسان خلق له النظر واستعمله بلا أمر له من الله فهو قد نظر ثم أمره الله بالنظر { هَلْ ترَى مِن فُطُورٍ } من صلة للتأكيد فى المفعول به والفطور مطلق الشق ولو كان أصله الشق طولاً وفسره بعض بمطلق الخلل مجازاً وابن عباس بالوهن مجازاً والجملة مستأنفة أو معلق عنها انظر محذوفاً أو معلق عنها ارجع البصر لتضمنه معنى انظر.