التفاسير

< >
عرض

وَإِن يَكَادُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ ٱلذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ
٥١
-القلم

تيسير التفسير

{ وإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا } إِن مخففة { لَيُزْلقُونَكَ } يصرعونك واللام للفرق بين الإِثبات المراد والنفى وقيل إِن نافية خفيفة واللام للاستثناء، يكادون يزلقونك فى الأَرض كالزلق فى سبخة مبتلة لشدة عداوتهم. { بِأَبْصَارِهِمْ } ينظرون إِليه نظراً شديداً نظر بغض، وذلك مبالغة فى وصف بغضهم له -صلى الله عليه وسلم- لأَن النظر ولو اشتد ببغض لا يصرع أحداً فحاصله لو أمكن أن يزلقوه بأَبصارهم لأَزلقوه كأَنه سرت عداوتهم له - صلى الله عليه وسلم - من قلوبهم إِلى عيونهم، والزلق على ظاهره ويكاد مجاز عن الشدة لأَن شدة بغضهم ونظرهم يزلق ولا يقرب من الإِزلاق، وفى كلام الغرب والعجم ذلك يقال نظر إِلى نظراً يكاد يصرعنى ويكاد يأْكلنى وذكر ذلك بلا لفظ القرب من قال:

يتقارضون إِذا التقوا فى موطن نظراً يزل مواطئ الأَقدام

وقيل يكاد على حقيقته والإِزلاق مجاز عن الإِهلاك وأنه كان فى بنى أسد عيانون فأَراد بعض منهم أن يعين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونجاه الله عز وجل فنزلت الآية، وكان رجل من العرب يمكث يومين أو ثلاثة فيرفع جانب الخمار، فيقول: لم ار كاليوم إِبلاً ولا غنماً أحسن من هذه فتسقط طائفة منها وتموت، طلبه الكفار أن يعين رسول الله -صلى الله صلى الله عليه وسلم- فأَجابهم وشرع فى ذلك بأَن قال:

قد كان قومك يحسبونك سيداً وأخال أنك سيد معيون

لم يؤثر فيه شئ، فأَنزل الله تعالى الآية. وقالت قيش ليعينوه ما رأينا مثله ولا مثل حججه ولم يؤثر فيه، وقراءة هذه الآية تدفع ضرر العين بإِذن الله تعالى والعين حق كما قال -صلى الله عليه وسلم - "العين حق لو كان شيء يسبق القدر لقلت العين" . وقال - صلى الله عليه وسلم- "لا تزال العين بالجمل حتى تورده القدر ولا بالنخلة حتى توردها التنور" ، وأمر المعيان أن يغتسل وتصب غسالته على المعين، وقال - صلى الله عليه وسلم - "إِن العين لتولع بالرجل بإِذن الله تعالى حتى يصعد حالقاً ثم يتردى منه. فقالت أسماء بنت عميس: يا رسول الله إِن ولد جعفر تسرع إِليهم العين فهل أسترقي لهم. قال: نعم. ولو كان شئ سابق القدر لسبقته العين" ، وفى ذلك أحاديث كثيرة. قال الحسن دواء من أصابته العين أن تقرأ عليه هذه الآية، ولا يختص العين بالنفس الخبيثة وقد يكون من النفوس الزكية، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأْمر الصحابة بالتحرز عن العين بذكر الله، ويمكن أن يكون العين مختصاً بالنفس الخبيثة أصالة حتى أن النفس الزكية يصدر منها بحسب خبثها الأَصلى عين ولا يختص العين بمن يبغض بل يكون ايضاً فيمن يحب، ولا يختص أن يكون فى الأَمر الحسن بل يكون أيضاً فى القبيح، وقيل يختص بالمستحسن ونسب هذا إِلى الشهرة، ويعارضه أخبار الناس أنه وقع فى المستقبح والمستحسن وفى غير ذلك، فالكفار يبغضون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وارادوا أن يعينوه، ولا دليل على عدم اختصاص العين بما يستحسن فى ذلك لأَنهم قد استحسنوا منه أشياء مع كفرهم وبغضهم كبلاغته وجماله وصدقه فى سائر كلامه وأحواله، وما يذكر من القرآن والقرآن بليغ كما قال الله تعالى: { لما سمعوا الذكر } وأيضاً قد يتعاطون عينه ولو لم يستحسنوا منه شيئاً، ويحبس العائن لئلا يضر الناس فإِن لم يكن له مال فنفقته من بيت المال. ومن قال العين تستقل عن الله فى التأثير أشرك كإِشراك من قال باستقلال النوء بالمطر، ومن قال تضر بإِذن الله تعالى فلا كفر، ولو قال: تنبعث قوة سمية من عين المعيان إِلى من ينظر إِليه، ولكن يكون العين أيضاً بلا نظر إِلى شئ، وروى أن سليمان بن عبد الملك أعجبه جماله فى المرآة فقال: كان محمد نبينا - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر صديقاً، وعمر فاروقاً، وعثمان حبيباً، ومعاوية حليماً، ويزيد صبوراً، وعبد الملك سائساً، والوليد جباراً، وأنا الملك الشاب، وأنا الملك الشاب فمات قبل تمام الشهر، فلعله عان نفسه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - "إِذا رأى أحدكم ما يعجبه من نفسه، فليقل: ما شاء الله، لا قوة إِلاَّ بالله" . { لَ‍مَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ } القرآن لشدة بغضهم وحسدهم، ولما ظرف لا يتصرف متعلق بيكاد أو بيزلق، ومن قال لما الوجودية حرف. قال: يقدر جوابها بعد لدلالة ما قبل وأقول بل أغنى ما قبلها عن جوابها. { وَيَقُولُونَ } لشدة حسدهم على بلاغة القرآن وبدائعه ولحيرتهم ولتنفير الناس عنه - صلى الله عليه وسلم - { إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ } مع أنه ليس من شأن الجنون البلاغة والصدق دائماً وحسن السيرة وملازمة الصواب، وجملة يقولون معطوفة على يكاد لا على يزلقونك لأَنهم قالوا لا قربوا من القول بلا فعل.