التفاسير

< >
عرض

أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىۤ أَن يَكُونَ قَدِ ٱقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ
١٨٥
مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
١٨٦
يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَٰهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللَّهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
١٨٧
-الأعراف

تيسير التفسير

{ أَوَ لَمْ يَنْظُرُوا } نظر استدلال، أى كذبوا ولم ينظروا، أَو أَلم يتفكروا ولم ينظرو { فِى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ وَمَا } أَى وفيما { خَلَقَ اللهُ مِنْ شَىْءٍ } كائن ما، وذلك عطف على خاص، وذكر الخاص لظهور عظم الملك فيه، وهو السماوات والأَرض، ويجوز عطف ما على السماوات والأَرض، والملكوت الملك مطلقاً، أَو الملك العظيم لزيادة الواو والتاءَ، أَو الملك الغائب يسمعون به وينعون إِليه كالعرش أَو الغاضب الضمنى الذى يشاهدون ما خرج منه كالنار فى ضمن الشجر الأَخضر والحجارة و الثمار فى ضمن الأَرض والماء والخشب. وقوله: وما خلق الله من شئٍ يشمل ذرات الأَجسام والأَعراض، ففى كل ذرة دلالة على الله وكمال قدرته إِذ لا يخلقها سواه، ولا يقصرها على ما هى عليه من شكل أَو لون أَو طعم أَو غير ذلك من الصفات مع إِمكان غيرها - إِلا الله. أَمرهم الله سبحانه وتعالى أَن ينظروا فى ملكوت السماوات والأَرض، وفى كل شئ، وفى أَجلهم لعله قد اقترب فيبادروه بالإِيمان والصلاح قبل نزول العذاب أَو الموت كما قال { وَأَنْ عَسى } وفى أَنه عسى { أَنْ يَكُونَ } أَى الشأْن، فقد تكرر ضمير الشأْن ومسماهما واحد، كقولك زيد عسى أَن يقوم زيد، فى مجر التكرير، وأَجاز بعض، بل سيبويه، وارتضاه ابن هشام أَن يكون اسم أَن ضميرهم، أَى وأَنهم عسى أَن يكون { قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ } فاعل اقترب والجملة خبر يكون، أَو اسم يكون ضمير الأَجل على أَنه واقترب، تنازعا فى أَجل، أَو أَجل اسمه، وفى اقترب ضميره، وفيه تقديم الخبر الفعلى بحال يلبس بالفاعلية إِلا أَن يغتفر بطلب الفعل الأَول للمرفوع إِذ لا بد له منه { فَبأَىِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ } بعد القرآن وهو أَفضل حديث وأَصدقه ونهايته فى البيان، أَو بعد هذا الحديث وهو القرآن، أَو بعد الرسول أَى بعد حديثه، وهو القرآن، والرسول أَصدق الناس، أَو بعد أَجلهم كيف يؤمنون بعد انقضاءَ أَجلهم { يُؤمِنُونَ } إِذ هو الغاية فى البيان والصدق، وكل كلام هو دونه، فلا يتصور إِيمانهم بما هو دونه، وهذا إِقناط من إِيمانهم، للطبع عليهم، فقد انسحب على هذا ما فى قوله "أَو لم ينظروا" من التوبيخ، ويجوز كونه مرتبطاً بقوله عسى أَن يكون قد اقترب أَجلهم، أَى لم لا يتوقعون اقتراب الأَجل ويتركون الإِعراض عن الإِيمان بالقرآن، وقرر ضلالهم وعلله بالضلال المطلق الذى لا هادى له. فى قوله:
{ مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلاَ هَادِى لَهُ } إِلى دين الحق { وَيَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } يترددون، والنون فى نذرهم على طريق الالتفات إِلى المتكلم من الغيبة، والواو عاطفة على جملة الشرط والجواب عطف قصة على أُخرى، لأَن الواو لا تكون حرف استئناف إِذ لا وجه لقولك أَن هذه الواو جاءَت لتدل على أَن ما بعدها مستأَنف بخلاف من الابتدائية فإِنها وضعت لتدل أَن مبدأ الفعل مدخولها، وكذلك لا تكون الواو للاعتراض، إِذ لا وجه لقولك أَن هذه الواو وضعت لتدل على أَن هذه الجملة معترضة، فلتحمل الواو فى المسأَلتين على ما يمكن من العطف أَو الحال مثلا، ولو قلت فى الاعتراضية أَنها عاطفة قبل تمام الجملة المعطوف عليها لجاز، لأَن الجمل يتوسع فيها ما لا يتوسع فى المفردات، وفى المقام مناسبة كأَنه قيل: نذرهم فى طغيانهم يعمهون لأَنهم ممن أَضل الله عز وجل.
سأَل بعض اليهود كحمل بن أَبى قشير وسموأَل بن زيد وبعض قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم: متى قيام الساعة؟ فنزل قوله تعالى:
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ } يوم القيامة سمى ساعة لوقوعه بغتة، أَو لأَنه للسعيد كساعة، أَو لسرعة الحساب فيه؛ إِذ لا يشغل الله شأن عن شأن، زعم اليهود أَنهم يعلمون متى الساعة، وهم لا يعلمونها متى هى، لكن أَرادوا إِيهامه صلى الله عليه وسلم، وقريش قالوا له: أَخبرنا بها سراً لقرابتنا، ونزلت الآية ردا عليهم، والمراد بيوم القيامة المعبر عنه بالساعة وقت موت الحيوانات كلها، وهذا أَولى من تفسير الساعة بوقت البعث، أَو ما بين موتهم وبعثهم، وعليه فقلته لمجيئه بغتة، أَو لأَنه مدهش فيقل أَو يقل ما قبله، أَو لأَنه يسير عند الله تعالى أَو لسرعة حسابه، والآية مناسبة لقوله تعالى { وأَن عسى أَن يكون قد اقترب أَجلهم } وأَيضاً من مات فقد قامت قيامته لانكشاف ماله من ثواب أَو عقاب { أَيَّانَ } متى { مُرْسَاهَا } مصدر ميمى، أَى إِرساؤها، أَى إِثباتها، وبعده أَن يكون زماناً ميمياً، ولا بأْس بظرفية عام لخاص كأَنه قيل، أَى جزء من اليوم، أَو أَى جزء من الشهر، كما تقول: أَجئ ساعة كذا من الجمعة، ويبعد أَن يكون مكاناً ميميا أَى أَين موضعها على أَن أَيان مكان، والجملة بدل من الساعة اشتمالى علق عنه يسأَل بالاستفهام { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا } علم وقت إِرسائها { عِنْدَ رَبِّى } أَخفاها عن كل ملك وكل نبى، وكل أَحد ليسارع إِلى التوبة وأَداء الواجب، ولو علم وقتها لتقوصر فيهما، إِن لم يعرف زمان علامات قربها جداً { لاَ يُجَلِّيهَا } لا يظهر وقتها على التعيين { لِوَقْتِهَا } أَى فى قرب وقتها، أَو عند وقتها، أَى عند حضور قربها كذا قيل، وهو باطل لأَنه يقتضى أَنه إِذا قرب وقتها أَظهره، وإِما بأَمارة لا بالتعيين فوارد، وإِنما المعنى لا يظهرها بإِيقاعها فى وقتها، فإِظهارها إِيقاعها، وهو تجليتها لا الإِخبار بها، نعم يعلمون بها عند حضورها، وقبل فوتهم، لكن قد يعلمون بإِحساسها إِذا حضرت ولا يعلمون أَنها هى { إِلاَّ هُو } عز وجل { ثَقُلَتْ } عظم شأنها { فِى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } على أَهلهما لكراهة الفناء، ولو عند الملائكة، ولأَنها تؤدى إِلى الحساب والثواب والعقاب والأَهوال وانكشاف الغطاء، أَو على نفس السماوات والأَرض، للانشقاق والتزلزل والإِفناء وزوال الشمس والقمر والنجوم، وتبدل الأَرض، وإِبطال البحار، أَو حصل ثقلها وشدتها، أَو للمبالغة فى إِخفائها فى السماوات والأَرض { لاَ تَأْتِيكُمْ } الخطاب لمجموع من يحضر الساعة ومن لا يحضرها، وغلب الموجودين بالخطاب. أَو الخطاب لمن يحضرها ولما يوجد، وفى الوجهين اعتبار أَن من وجد ومن سيوجد كفرد واحد { إِلاَّ بَغْتَةً } فجأَة على غفلة، روى الطبرى فى مرسل قتادة وهو فى البخارى ومسلم عن أَبى هريرة عنه صلى الله عليه وسلم
"أَن الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه" . ويروى: يلوط حوضه. والردل يسقى ماشيته، والرجل يقوم أَو يقم سلعته فى سوقه، وفى رواية إِسقاط فى سوقه، "والرجل يخفض ميزانه ويرفعه" ، ويروى: "الرجل يرفع لقمته إِلى فيه" ، وجاءَ مرفوعاً أَيضاً، "أَنها تقوم والرجلان ينشران ثوبهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، وقد انصرف الرجل بلبن ناقته فلا يطعمه" . وجاءَ أَيضاً مرفوعاً: "إِنما أَجلكم فيمن مضى قبلكم من الأُمم من صلاة العصر إِلى غروب الشمس" ، وجاءَ أَيضاً: "بعثت أَنا والساعة كهاتين. وأَشار بالسبابة والوسطى" { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا } أَى كثير الاستقصاء عنها بالسؤال حتى أَدركت معرفة وقتها، ويلزم من كثرة الاستقصاء عن الشئ وإِدراكه، ولذلك تراهم يفسرون حفى بعليم، وعن على ظاهرها متعلقة بحفى لأَن المعنى السؤال عنها أَو البحث عنها أَو الكشف عنها، أَو متعلقة بيسأَل أَو بمعنى الباء أَى عليم بها. ويجوز تعليقها بيسأَل، ويقدر مثله لحفى عن التنازع، وجاز هذا مع أَن المهمل يعمل فى ضمير المتنازع فيه، والضمير لا يعود إِلى الضمير، لأَن اتحاد معنى الضميرين يسيغ ذلك، كما تقول أَنا أَقوم، وأَنت تقوم فتربط الخبر بضمير هو نفس المبتدأ ثم إِنه قدم يقال بجواز عود ضمير لآخر مستحق للتقديم أَو متأَخر كالتنازع إِذا أَعمل المتأَخر أَو يعلق بيسأَل، ويقدر كأَنك حفى فيها، وسؤالهم إِنكار أَو استهزاء أَو تعجيز، أَو ظن منهم أَنه يعلمها كما قيل أَنه من الحفاوة، بمعنى الشفقة، وأَن قريشاً قالوا: إِن بيننا وبينك قرابة فقل لنا متى الساعة!! أَى كأَنك تشفق عليهم فتخصهم بالإِخبار عنها لقرابتهم، ولكن مثل ذلك قد يقوله المستهزئ والمستعجز فجاءَت الآية على طبق كلامهم، وقيل حفى بمعنى فرح وعنها متعلق بيسأَل، أَو كأَنك تفرح بالسؤال عنها مع أَنك تكرهه لأَنه من الغيب الذى لا يخبر الله أَحداً به، أَو كأَنك صديق لهم، وهم أَعداؤك، وأَنت عدو لهم لكفرهم، وجملة كأَنك حفى فى جميع الأَوجه حال من الكاف، ولما كان المراد يسأَلونك عن الساعة أَيان مرساها كأَنك حفى عنها، وفصل بما يناسب أَعاد لفظ السؤال، ولذلك اكتفى بذكر الساعة هناك عن ذكرها هنا وفى ذلك نوع إِجمال فكرر الجواب مجملا بقوله { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ } كرره متابعة لتكرر يسأَلونك وتأكيداً وإِشعاراً بالعلة { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } أَنه اختص الله بعملها، ولا يخبر بها أَحداً على التعيين بأَنها عقب مائة عام، أَو عقب أَلف، أَو بعد أَلف وثلاثمائة، أَو عقب أَلف وخمسمائة عام، ونحو ذلك، والإِخبار بعلامات قربها ليس إِخباراً بعينها، وذلك الإِخفاء أَدعى إِلى الانزجار، والإِخبار بعلامة قربها أَدعى لحاضر علامتها إِلى التوبة.