التفاسير

< >
عرض

فَأَنجَيْنَاهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ
٧٢
وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَاقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَـٰذِهِ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِيۤ أَرْضِ ٱللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوۤءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٧٣
-الأعراف

تيسير التفسير

{ فَأَنْجَيْنَاهُ } من الريح أَى أَنجينا هودا { وَالَّذِينَ مَعَهُ } من المؤمنين { بِرَحْمَةٍ مِنَّا } ولو شاءَ لم ينجهم من الموت بتلك الريح لكن يبعثهم على السعادة، أَو الرحمة منظور فيها إِلى أَنها السبب فى الإِنجاء أَى رحمناهم بالتوفيق إِلى الإِيمان المرتب عليه الإِنجاء، ويجوز تعليق الباء بمعه أَو بمتعلقه أَى ثبتوا معه أَو آمنوا معه برحمة منا بأَن وفقناهم { وَقَطَعْنَا دَابِر الَّذِينَ كَذَّبُوا بآيَاتِنَا } استأصلناهم كما يعم الشئ شيئاً آخر حتى يقع على آخره، فذلك استعارة تمثيلية { وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ } عطف على كذبوا بآياتنا تأكيدا فى ذمهم، فإِن المكذب غير مؤمن أَو كذبوا فى الماضى ولا يؤمنون بعد فى باقى أَعمارهم قبل الإِهلاك ولا يؤمنون أَيضاً لو أَبقاهم، ومن فوائد ذكر الإِيمان التلويح بأَن الفارق بين ما نجا ومن هلك هو الإِيمان، أَمسك الله المطر ثلاث سنين فبعثوا إِلى مكة للاستسقاء قيل بن عنز وجلهمة ابن الخبيرى ومرثد بن سعد ومع كلٍّ رهط من قومه والكل سبعون وعادة أَهل ذلك الزمان مسلمهم وكافرهم إِذا نزل بلاء قصدوا بيت الله لكشفه فنزلوا على معاوية بن بكر خارج الحرم سيد مكة وأمه كلهدة بنت الخبيرى، رجل من عاد، وأَهلها العماليق أَبوهم عمليق ابن لاود بن سام فأَكرمهم وهم أَخواله وأَصهاره وأَمه كلهدة من عاد، شهراً يشربون الخمر ويغنيهم جاريتان وردة وجرادة، فقيل الجرادتان تغليبا، ومسيرهم أَيضاً شهر، وشفق على عاد إِذ هم فى قحط، وقومهم ووفدهم مشتغلون باللذات عن الاستسقاء، وخاف أَن يظنوا أَنه ثقل عليه مقامهم فقالتا قل شعراً نغنيهم به ولا يدرون لمن هو فقال:

أَلا يا قيل ويحك قم فهينم لعل الله يسقينا غماما
فيسقى أَرض عاد إِن عادا قد أمسوا ما يبيون الكلاما
من العطش الشديد فليس نرجو به الشيخ الكبير ولا الغلاما
وقد كانت نساؤهم بخير فقد أَمست نساؤهم عياما
وإِن الوحش تأتيهم جهارا ولا تخشى لعادىٍّ سهاما
وأَنتم هاهنا فيما اشتهيتم نهاركم وليلكم التماما
فقبح وفدكم من وفد قوم ولا لقوا التحية والسلاما

فغنتاهم فانتبهوا ودخلو االحرم وطلبوا بكرا وأَباه، وكان شيخاً كبيرا أَن يمسكا مرثدا لأَنه آمن بهود، وقال لهم: والله لا تسقون إِلا أَن آمنتم بهود وحينئذ أَظهر إِسلامه فقال:

عصت عاد رسولهم فأَمست عطاشا ما تبلهم السماء
لهم صنم يقال له صمود يقابله صداء والهباء
فبصرنا الرسول سبيل رشد فأَبصرنا الهدى وجلا العماء
وإِن الله ليس سواه ربى على الله التوكل والرجاء

وقال رئيسهم قيل عند الكعبة: يا إِلهنا إِن كان هود على الحق فاسقنا قد هلكنا. وقد قالوا: اللهم أَعط قيلا سولا واقض سؤالنا مع سوله. فأَنشأَ الله ثلاث سحابات بيضاءَ وحمراءَ وسوداءَ، وناداه من السحاب ملك: يا قيل اختر إِحدى السحابات لك ولقومك، فقال: اخترت السوداءَ لأَنها أَكثر ماء فنودى: اخترت لقومك رماداً ومددا لا يبقى من عاد أَحداً. فطلعت عليه السوداء من واد يقال له المغيث، فقالوا: مستبشرين هذا عارض ممطرنا، فقال الله عز وجل: بل هو ما استعجلتم إِلخ: فأهلكوا بالريح فى سبع ليال وثمانية أَيام وأَموالهم، وأَولادهم ترفع الحيوان وتدقه والمتاع فتمزقه ورأَوها ترفع الإِبل وما عليها والرجال فتدقهم على الأَرض وبالحجارة، فنادوا البيوت وأَغلقوها عليهم فغلقت الأَبواب وقتلتهم فيها وأَخرجتهم، وكانوا تحت الرمال فى تلك الأَيام والليالى يسمع لهم أَنين، وأَلقتهم بعد ذلك الريح أَو طير سود فى البحر، وهود وأَصحابه عند البحر فى حظيرة يصيبهم من الريح ما يلين أَجسادهم، وإِذا أَهلك الله قوم نبى مضى هو ومن آمن معه إَلى مكة وعبدوا الله عز وجل وماتوا فيها، وعن على أَن قبر هود بحضرموت فى كثيب أَحمر فيه أَراك وسدر كثير، وقيل بين الركن والمقام وزمزم قبر تسعة وتسعين نبياً، وإِن قبر هود وشعيب وصالح مع إِسماعيل فى تلك البقعة، وخرج الوفد من مكة فنزلوا على معاوية بن بكر فأَقبل رجل على ناقة فى ليلة مقمرة من أَمصار عاد فأَخبرهم بهلاك عاد، فقالوا له: أَين فارقت هودا وأَصحابه. قال: فارقتهم بساحل البحر، فشكوا فقالت هرملة بنت بكر أُخت معاوية المذكور: صدق ورب الكعبة، وقيل لقيل: اختر لك فاختار ما أَصاب قومه فقيل له إِنه هلاك فقال: لا أُبالى لا حاجة لى فى البقاء بعد قومى، فهلك بالريح، وقيل لمرثد: اختر فقال اللهم أَعطنى برا وصدقاً فأعطيهما.. وقيل للقمان اختر بقاءَ سبع بقرات سمن من أَظب عفر لا يمسها قط، أَو عمر سبعة أَنسر، واستحقر الأَبعار واختار النسور فكان يأخذ الفرخ الذكر منها لقوته فيربيه حتى إِذا مات أَخذ غيره، وكل يعيش ثمانين سنة فلما بقى السابع قال ابن أَخ للقمان: يا عم لم يبق من عمرك إِلا هذا النسر، فقال: يا ابن أَخى هذا لبد، ولبد بلسانهم الدهر، ولما انقضى عمر لبد طارت النسور غداة من رأس الجبل ولم ينهض لبد، وكانت نسور لقمان لا تغيب عنه، وطلع لقمان الجبل فقال: انهض لبد فأَراد النهوض فسقط، وقد وجد لقمان فى نفسه وهو لم يجده فمات مع لبد، ولم يبق من عاد أَحد إِلا قوم سكنوا مكة لم يحضروا سخطهم، وهم عاد الثانية وهم ثمود أَرسل الله إِليهم سيدنا صالحاً عليه السلام كما قال الله تعالى:
{ وَإِلَى ثَمُودَ } هو الأَكبر ثمود من عامر بن إِرم ابن سام بن نوح وقيل ثمود بن عاد بن عوض بن إِرم بن سام { أَخَاهُمْ } بينه وبين هود مائة سنة { صَالِحًا } صالح بن عبيد بن أَسفا بن ماشج بن عبيد بن خادر بن ثمود بن غامر بن سام بن عبيد بن جابر بن سام ابن نوح، وصالح أَخوهم فى النسب وكانوا بين الحجاز والشام إِلى وادى القرى، وفى هذا النسب قال جلهمة بن الخبيرى من قوم هود خال معاوية المذكور حين أَظهر مرثد إِيمانه بهود:

أَبا سعد رأَيتك من قبيل ذوى كرم وأُمك من ثمود
فإِنا لا نطيعك ما بقينا ولسنا فاعلين لما تريد
أَتأْمرنا لنترك دين رفد ورمل والصمود أَو العبود
ونترك دين آباءٍ كرام ذوى رأى ونتبع دين هود

وتريد بالضم وسائر القوافى بالكسر وذلك يسمى إِجازة، قيل بعث الله صالحا إِليهم حين راهق الحلم وهو مخالف لما شهر من البعث على الأربعين، وأقام فيهم أربعين عاماً، وعبارة بعض بعث شاباً ودعا قومه حتى شمط وكبر، وقيل أَقام فيهم عشرين سنة ومات بمكة وهو ابن ثمانية وخمسين، وثمود مأخوذ من الثمد وهو الماء القليل، وكأَنه قيل فماذا قال لهم فقال:
{ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِهِ } قالوا: أَلَك حجة فقال بعد خروج الناقة { قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ } على صدقى { مِنْ رَبِّكُمْ } قالوا أَين بينتك فقال { هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ } نسبها إِلى الله لأَنها أَرسلت حجة الله عليهم، ولأَنها لم تكن من اَم وأَب بل من صخرة وتعظيماً لها كبيت الله وروح الله، ولأَنها لم يملكها أَحد، وذلك كله بعد نصح وكلام طويل فى مدة طويلة { لَكُمْ } خبر ثان أَو حال من ناقة أَو يقدر هى لكم أَو حال من قوله { آيَةٌ } حال من ناقة لأَن المبتدأَ اسم إِشارة يتضمن معنى أشير ومعه ها - تتضمن معنى أنبه فقيل العامل أنبه أَو أشير، قيل أَو يقدر: انظروا إِليها آية أَو ناقة بدل والخبر لكم عمل هو أَو متعلقه فى الحال بعده، سألوا صالح آية يوم عيد لهم فخرج معهم وقد قالوا ندعو آلهتنا وتدعو آلهتك فدعوها ولم تستجب لهم، فدعا الله صالح فأجاب له بالناقة من الصخر على ما وصفوا له، عينوا له صخرة تسمى الكاتبة فى ناحية الجبل، فقالوا له: أَخرج لنا من هذه الصخرة ناقة على شكل البخت عشراءَ وبراءَ جوفاءَ ومعنى عشراءَ مضى عليها عشرة أَشهر حين حملت وجوفاءَ عظيمة الجوف ووبراءَ كثيرة الوبر، فدعا الله عز وجل فتمخضت بحفرتهم الصخرة كالمرأَة فخرجت منها كما وصفوا، ولما خرجت ولدت مثلها فى العظم وخصوا بها فى قوله لكم مع أَن الإِيمان بها نافع لكل من آمن بها إِلى يوم القيامة، لأَنهم الطالبون لها والمنتفعون بلبنها ونسلها، وبالإِيمان بها لو آمنوا { فَذَرُوهَا تَأْكُلْ } وتشرب كما ذكر الشرب فى آية أُخرى أَو تأكل تنتفع فتعم الأَكل والشرب { فِى أَرْضِ اللهِ } هى ناقة لله لم يجر عليها ملك أَحد تأْكل فى الأَرض التى هى ملك لله تعالى نفسها ونباتها لا وجه لكم فى منعها، وفى ذلك تأْكيد لعدم التعرض لها، ويجوز تنازع ذر وتأْكل فى قوله فى أَرض الله ومأْكولها العشب { وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ } ما من الأَسواء، والنهى عن المس مبالغة إِذ لم يقل لا تسيئوا إِليها أَو لا تسوءوها وأَشد مبالغة أَن يقول لا تقربوها بسوء، ولم يقل ذلك والله أَعلم لأَن قربها بسوء بلا فعل له لا يوجب به الله الرجفة والإِيذاء بلا مس أَو غيره ممكن كالمنع من الرعى والغالب بالمس، فجاءَت الآية به والمس بلا سوء لم يحرم عليهم، وحاصل الآية لا تنالوها بسوء { فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } رجفة وصيحة.