التفاسير

< >
عرض

وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَٰبَ ٱلنَّارِ إِلاَّ مَلَٰئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ وَيَزْدَادَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِيمَٰناً وَلاَ يَرْتَابَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَٱلْكَٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ
٣١
-المدثر

تيسير التفسير

{ وَمَا جَعَلْنَا أصْحَابَ النَّارِ } القائمين عليها الذين هم تسعة عشر أعينهم كالبرق الشديد وأنيابهم كالقرون يخرج اللهب من أفواههم بين كتفى أحدهم مسيرة سنة يدفع أحدهم فى النار سبعين ألفاً دفعة واحدة، قال عمرو بن دينار يدفع مرة أكثر من ربيعة ومضر. { إِلاَّ مَلاَئِكَةً } غير جنس الإِنس والجن لئلا يستريح أصحاب النار المعذبين بها إِليهم لو كانوا من جنسهم ولأَن ذلك أبعد من أن ترق قلوبهم على المعذبين بالنار ولو جعلهم من جنسهم لجعلهم لا يرقون عليهم ولأَن الملائكة أقوى الخلق ولأَنهم أشد غضباً لله عز وجل لأَنهم أعرف بحق الله ومقتضى الظاهر وما جعلناهم إِلا ملائكة بالهاء عائدة إِلى تسعة عشر لكن أظهر ليصفهم بصحبة النار تنبيها على أنهم قائمون بها ولا يخفى من تعميم العذاب والكفرة أن المراد بسقر طبقات النار كلها لا خصوص طبقة تسمى سقر.
{ وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهمْ } وهى تسعة عشر. { إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا } باستقلالهم واستهزائهم بهم كما مر، والمعنى خلقناهم تسعة عشر ليصل خبرهم الكفار فيفتتنوا، أو المراد بالجعل الإِخبار وقيل الأَصل وما جعلنا عدتهم إِلا تسعة عشر فعبر بالمسبب وهو الفتنة عن السبب وهو العدد، وفيه أنه لا فائدة فى قولك وما جعلنا عدتهم إِلا تسعة عشر للذين كفروا بعد قوله عليها تسعة عشر فضلا عن أن يقال هو الأَصل ولا كبير فائدة فى التنبيه على عدم التخلف المذكور، وقيل أيضاً تنبيهاً على عدم تخلف المسبب عن سببه هنا. { لِيَسْتَيْقِنَ } بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ورسالته. { الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } اليهود والنصارى والكتاب التوراة والإِنجيل والزبور والصحف وكل كتاب نزل قبل نبى فقد أوتيه هو وأمته واللام متعلق بجعلنا أى حصرنا عدتهم من حيث الإِخبار بها فى الفتنة ليستيقن الذين أوتوا الكتاب وذلك أنه ذكر فى التوراة والإِنجيل أن الله تعالى يبعث نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - ويخبره بعددهم فيفتتن به قومه فيكون - صلى الله عليه وسلم - قد اخبر بما فى كبتهم فيوقنوا رسالته وقدر بعض فعلنا ذلك ليستيقن وبعض عطف ليستيقن على الذين كفروا بحذف العاطف ولا يقبل هذا وأولى من هذا المعنى أن يجعل ليستيقن إِلخ بدل فتنة إِذ تضمنت فتنتهم استيقان أهل الكتاب إِذ ذكرت فى كتابهم علامة لرسالته وبدل الاشتمال قد يستعمل بلا رابط كما هنا وقد يقال إِيجادهم تسعة عشر علة للاستيقان لأَن الإِيجاد سبب للإِخبار والإِخبار سبب للاستيقان فهو سبب بعيد لكن فيه تكلف، وقيل المراد بأَهل الكتاب اليهود لأَن اليهود سأَلوا رجلاً من أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - عن خزنة جهنم فقال الله ورسوله أعلم فأَخبر الرجل النبى - صلى الله عليه وسلم - فنزل فى حينه عليها تسعة عشر والسورة مكية فلعل الرجل لقى اليهود فى سفر أو فى المدينة أو دخل اليهود مكة لأَنهم قد يدخلونها قبل الفتح وقبل الهجرة.
{ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً } مِن غير أهل الكتاب وإِن كان قد آمن بعض أهل الكتاب قبل نزولها دخل ها. { وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أوتُوا الكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ } تأْكيد لما قيل هذا من ازدياد الإِيمان والاستيقان ونفى لأَن تبقى شبهة أو تحدث ولم يقل ويزداد الذين آمنوا إِيماناً ولا يرتابوا وليقول الذين فى قلوبهم مرض بِرَدْ واو يرتابوا إِلى أهل الكتاب والمؤمنين لأَن نفى الارتياب عن أهل الكتاب مقابل لجحودهم ونفيه عن المؤمنين مقابل لإِيمانهم ولئلا يتوهم رجوع الواو إِلى المؤمنين فقط لقرب ذكرهم. { وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } شك أو نفاق على أن السورة كلها مكية فيكون ذلك إِخباراً بالغيب بأَنه سيكون النفاق فىالمدينة أو هذا مدنى جعل فى سورة مكية ولا مانع من أن يكون فى أهل مكة قبل النزول من قرب من الإِسلام فشك. { وَالكَافِرُونَ } المصرون على الشرك بلا شك فى الوحى فى مكة أو فى المدينة. { مَاذَا } اسم واحد مركب مفعول به لا راد من قوله: { أرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً } أو مبتدأ وخبر وما بعده صلة ذا والرابط محذوف أى أراده ومثلا تمييز أو حال، والمراد أن هذا العدد مستغرب استغراب المثل أو المراد ما شبه مضر به بمورده بأَن يكون قد عدوه مثلا لاستغرابه ونسبوه إِلى الله تهكماً والإِشارة للتحقير وغرضهم نفى أن يكون ذلك من الله تعالى على أبلغ وجه وافرد قولهم هذا بقوله وليقول مع أنه من فتنتهم للإِشعار باستقلاله فى الشناعة، وروى أن أبا جهل قال: أما لرب محمد أعوان إِلا تسعة عشر. فقال الله عز وجل مع هؤلاء التسعة عشر جنود للتعذيب لا يعلمها إِلا الله عز وجل وأعيد اللام للفرق بين العلتين لأَن مرجع الأُولى بالهداية وهى مقصودة بالذات ومرجع هذه الضلال المقصود بالعرض الناشئ من سوء اختيار الضالين. { كَذَلِكَ } قيل قدم للحصر. { يُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِى مَن يَشَاءُ } يضل الله من يشاء إِضلاله ويهدى من يشاء هدايته عند مشاهدة الآيات بحسب اختيارهما إِضلالاً وهداية ثابتين كإِضلال من ذكر وهداية من ذكر لا غيرهما على أنها اسم.
{ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ } مخلوقاته التى تشبه حصون القتال وناسب ذلك أن الملائكة مسلطون فى النار على أعداء الله عز وجل وذلك قيل من الجند وهى الأَرض الغليظة التى فيها الحجارة، أو المراد مطلق جموع خلقه ومنها ملائكته المذكورون وعلى كل حال لا يعلم أنواعها وأفرادها وأحوالها وصفاتها. { إِلاَّ هُوَ } عز وجل، قال أبو جهل: أما لرب محمد أعوان إِلا تسعة عشر فنزلت كما مر فالظاهر أن المراد العدد فقط لأَن كلامه لعنه الله عز وجل فيه لكن لا مانع من الزيادة فى الجواب بل قد تستحسن وقد تكون لا بد منها وأكثر الخلق الملائكة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
"أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إِلاَّ وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد" أى صاتت بثقل الحمل وذلك كناية، والمراد أنه لم يفرغ منها قدر قدم ففى موضع قدم كل ملك عدد أقدام مثلا يصدق عليها أن فيها ملكاً ويحتمل أنها تنطوى حتى يكون فى مقدار قدم واحد ملك ويقال مخلوقات البر عُشر مخلوقات البحر والمجموع عُشر مخلوقات الجو والمجموع عشر ملائكة السماء الأولى والمجموع عشر ملائكة السماء الثانية وهكذا والمجموع عُشر ملائكة الكرسى والمجموع عُشر ملائكة الحافين بالعرش والمجموع اقل قليلا بالنسبة إِلى الملائكة الهائمين الذين لا يعلمون أن الله تعالى خلق سواهم والمجموع أقل قليلا بالنسبة إِلى مالا يعلمه إِلا الله تعالى وعز وجل. { وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى } تذكرة. { لِلْبَشَرِ } كل ما ذكر الإِنس فالجن مثلهم إِلا ما لم يمكن والعطف على سأصليه سقر والضمير لسقر فإِن ذكرها عظة للكافرين والفاسقين على كفرهم وفسقهم ولا سيما قد ذكر صفاتها وأحوالها، وقيل للآيات الناطقة بأَحوال سقر، وقيل لعدة خزنتها، وقيل للجنود.