التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَآءَتِ ٱلْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنْكُمْ إِنَّيۤ أَرَىٰ مَا لاَ تَرَوْنَ إِنَّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
٤٨
-الأنفال

تيسير التفسير

{ وَإِذْ زَيَّنَ } واذكروا بواو الجمع ليطابق قوله ولا تكونوا أَو اذكر يا محمد، وتذكيره تذكيرا لهم.. والتزيين بالوسوسة فى الصدور كما هو المتبادر والغالب من الشياطين { لَهُمُ الشَّيْطَانُ } إِبليس { أَعْمَالَهُمْ } فى إِبطال دين الله، وإِهلاك رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وذلك التزيين تشجيعهم على قتال المسلمين بأَن المسلمين ضعاف قليل فاستعدوا لهم بالرجال والنفقة، وذلك لما خافوا أَن يجيئهم أَعداؤهم بنو بكر من كنانة فيخلفوهم فى مكة على أَولادهم ونسائهم وأَموالهم، أَو يقاتلوهم من خلفهم إِذا نشب القتال بينهم وبين المسلمين { وَقَالَ } بالوسوسة، أَو بلسانه فى صورة رجل وهو أَولى هنا ويجوز صرف التزيين إِلى هذا بحمله على اللسان { لاَ غَالِبَ لَكُمْ } خبر لا، وليس متعلقا بقوله غالب ولا حال من الضمير فيه إِذ لو كان ذلك لنون غالب لشبهه بالمضاف كما فى قولك لا حول عن معاصى الله إِلا بعصمة من الله، ولا قوة على طاعة الله إِلا بعون من الله بتنوين حول وقوة، لتعلق عن وعلى بهما، وقيل بالتعليق باسم لا فى مثل ذلك، وعدم التنوين ليس للبناءِ، بل تشبيه بالمضاف، وعليه البغداديون، ويجوز كون التزيين والقول واحدا، فيكون العطف للتفسير كما قال تعالى " { قال إِنما أَشكو بثى وحزنى إِلى الله } " [يوسف: 86] { الْيَوْمَ } متعلق بلكم أَو بمتعلقه { مِنَ النَّاسِ } لقوتكم وكثرتكم فلا يغلبكم المؤمنون { وَإِنِّى جَارٌ لَكُمْ } مانع أَن تجيئكم بنو بكر، وكافل لكم أَلاَّ يأتوكم، وإِن أَتوا يأتوا لكم لا عليكم، أَتاهم فى سورة سراقة بن مالك من تلك الجهة جهة بنى بكر فى جند من الشياطين ومعه راية، وكانوا يقولون: اللهم انصر أَهدى الفئتين وأَفضل الدينين { فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ } رأَت كل من فئة المسلمين وفئة المشركين الأُخرى، وحضرتا للقتال ومعناه تلاقت لأَنه نكص عند التلاقى لا عند رؤية كل واحدة الأُخرى، وقيل عند الرؤية على أَنه رأَى الملائكة فى جهة المؤمنين، على وجه الإِعانة قبل التلاقى ولا خفاءَ فى هذا { نكَصَ } رجع { عَلَى عَقِبَيْهِ } فى عقبيه أَى خلفه، وإِن قلنا أَن أَصل النكوص الرجوع خلف لا مطلق الرجوع واستعمل على أَصله كان قوله على عقبيه تجريدا وهو أَن يجرد اللفظ عن بعض معناه فيعبر عن ذلك البعض بلفظ آخر، أَو يبقى على أَصله فيكون على عقبيه توكيدا { وَقَالَ إِنِّى بَرِئٌ مِنْكُمْ } مخالف لكم، لا تطمعوا أَن أَنفعكم، وكانت يده فى يد الحارث بن هشام وهو فى صورة سراقة رضى الله عن سراقة وإِسلامه بعد، ولما رأَى الملائكة تنزل على صورة إِمداد المؤمنين نزع يده ونكص، فقال له: إِلى أَين أَتخذلنا فى هذه الحالة، فقال: إِنى برئٌ منكم { إِنِّى أَرَى مَالاَ تَرَوْنَ } من نزول الملائكة لقتالكم ودفع فى صدر الحارث وانطلق، ولما انهزموا ودخلوا مكة قالوا: هزم الناس سراقة، وبلغ ذلك سراقة فقال: والله ما علمت بمسيركم حتى سمعت بهزيمتكم، ولما أَسلم من أَسلم أَيقنوا أَن الشيطان تصور بصورته، { إِنِّى أَخَافُ اللهَ } عليكم أَن يبطش بكم ويبطش بى بطشة فى الدنيا قبل بطشة الآخرة الآتية إِذا قامت القيامة، مثل أَن يقبضه جبريل فيعذبه، قال بعض: وليس يقول لهم: إِنى أَخاف على نفسى لأَنهم لا يعذرونه بذلك، وليس كذلك فإِنه يقوله بطريق أَن يقول: الأَمر شديد لا أطيقه إِلا بالفرار، فكيف أَنتم؟ روى مالك فى الموطأَ بسنده: ما رؤى الشيطان يوما أَصغر ولا أَحقر ولا أَدحر ولا أَغيظ منه فى يوم عرفة لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله تعالى عن الذنوب العظام إِلا ما رؤى يوم بدر، فإِنه قد رأَى جبريل عليه السلام يزع الملائكة، وإِما أَن يقال: المعنى أَخاف أَن تقوم الساعة، وأَن هذا الوقت هو الوقت الموعود لى وهو يوم البعث فيمنع لعلمه، أَن يوم بدر ليس يوم القيامة، ويبعد أَن يقال أَخاف أَن أَعصى الله لأَنه لا يخافها، ولأَنه لا يليق أَن يقوله للكفرة، ولو أَجاز ذلك قتادة، وكان والعياذ بالله منه متلذذا بالمعصية وإِغراء الناس كتلذذ الملائكة بالطاعة، فهو يغويهم ولا يمل ولو فى آخر الدنيا المتصل بقيام الساعة مع قرب عذابه جدا { وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } هذا آخر كلامه والعياذ بالله منه معتذرا به إِليهم، أَو هو من كلام الله عز وجل بين به سبب خوف اللعين حيث إِنه علم ذلك.