التفاسير

< >
عرض

أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجِّ وَعِمَارَةَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ
١٩
ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَائِزُونَ
٢٠
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ
٢١
خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
٢٢
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُوۤاْ آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْكُفْرَ عَلَى ٱلإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ
٢٣
-التوبة

تيسير التفسير

{ أَجَعَلْتُمْ } توبيخ وإِنكار للياقة الجعل وإِنكار لصحته شرعا، والخطاب على الصحيح، وهو مذهب الجمهور للمشركين التفات من غيبتهم فى قوله تعالى " { ما كان للمشركين } " [التوبة: 17] إِلخ.. إِذ قالوا: عمارة المسجد الحرام والسقاية خير من الإِيمان والجهاد كما مر فى محاورة العباس وعلى، وفى رواية أَنه قال له: يا عم لو هاجرت إِلى المدينة، فقال: أَو لست فى أَفضل من الهجرة؟ أَو لست أَسقى الحاج وأَعمر البيت، وهذا ظاهر فى أَنه كان مسلما. وقيل: الخطاب لجماعة من المؤمنين اختلفوا عند المنبر عند الجمعة، قال بعض: أَفضل الأَعمال بعد الإِسلام سقى الحاج، وقال بعض: عمارة البيت، وقال بعض: الجهاد فى سبيل الله، فقال عمر: إِذا صليتم الجمعة دخلتم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأَسأَله. فنزلت الآية إِلى قوله تعالى { الظالمين } ومقتضى الظاهر: أَجعلوا، بفتح الجيم ولكن خوطبوا تغليظا عليهم، { سِقَايَةَ } سقى فهو مصدر { الْحَاجِّ } اسم جنس جمعى، وأَل فيه للجنس، كانوا يشترون الزبيب من الشام إِذا سافروا إِليه، أَو من الطائف أو غيرهما، وينبذونه فى ماء زمزم فى جلود يحفر لها وتبسط فى أَيام الموسم ويشرب منها الحجاج، وكان العباس يلى هذا السقى فى الجاهلية والإسلام، وأَقرها صلى الله عليه وسلم للعباس، وكانت لآل العباس ما دام منهم أَحد، وجاءَ رواية مشهورة أَنه رضى الله عنه طلبها والحجابة فمنعهما عنه. ولم يقل وإِيمانه لأَن إِيمان الكافر بمجرد ذكر الله كلا إِيمان، بل يقال: هو غير مؤمن. وعلى أَن الخطاب للمؤمنين فلم يقل وإِيمانه لأَن نزاع المسلمين إِنما هو فى غير الإِيمان وللعلم به وذكره فى المشبه به مع العلم به تقوية للإِنكار وتذكيراً لأَسباب الرجحان ومبادئ الأَفضلية وإِذانا بكمال التلازم بين الإِيمان والجهاد { وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } بالأَبدان مع المعصية فيه بالعرى وعبادة الأَصنام أَو بعبادة لله باطلة بالشرك وغير ذلك { كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ } إِيمانا مستلحقا للإِيمان برسوله والإِخلاص، أَى كإِيمان من آمن بالله { واليَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِى سَبِيلِ اللهِ } أَو يؤول سقاية بالساقين استعمالا للمصدر فى معنى اسم الفاعل، أَو يقدر: أجعلتم أَهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله، ويدل لهذين الوجهين قراءة: أجعلتم سقاية الحاج وعمرة المسجد الحرام بضم السين وفتح العين والميم وإِسقاط الأَلف بعدها: جمع ساق، كقاض وقضاة، وجمع عامر كسافر وسفرة، وبار وبررة، وكافر وكفرة، ويدل لهما أَيضا قراءة سقاية الحاج وعمرة بضم السين وفتح العين والميم جمع ساق بوزن فعال بالضم جمع أَنث بالتاء فصار بوزن فعالة كحجارة بالضم، وفى هذا الوجه مقابلة كل بكل. إِلا أَن الحذف من الآخر أَولى. وفى الوجه الأَول مقابلة السقاية والعمارة بالإِيمان فقط مقيدا بالجهاد، والمعنى: كيف يكون المشركون بأَعمالهم المبطلة وأَعمالهم المعاقب عليها كالمؤمنين فى أعمالهم المثبتة المثاب عليها؟ أَو كيف تكون أَعمالهم كأَعمال المؤمنين فى الاعتبار، وإِذا لم يستووا تبين ولو للمشركين أَن المؤمنين أَفضل فلا يبقى أَنهم دون أَهل الشرك، وهم فى هذا المقام لا يطلبون إِلا أَن يساووا المؤمنين، أَو نفى المساواة نفى لأَن يكونوا أَفضل من المؤمنين من باب أَولى، ومعلوم أَنه إِذا قال خصم: لا نستوى، إِنما أَراد: إِنى أَفضل. وقد قال الله عز وجل عن المسلمين لا يستوون، وأَكد ذلك بقوله: { لاَ يَسْتوُونَ عِنْد اللهِ } لأَن نفى الاستواء مستفاد من الإِنكار والتوبيخ فى قوله{ أَجعلتم }وعلل نفى الاستواء بقوله { واللهُ لاَ يَهْدِى القَوْمَ الظَّالِمِينَ } وبقوله:
{ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِى سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } وقوله{ والله لا يهدى القوم الظالمين }نزلت فيمن قال بالجعل والاستواءِ، والظالمون المشركون، نزلت ردا على على من قال بهما كالعباس وغيره، والعباس رضى الله عنه كان مشركا لا هدى له، وكان أَمره مختلطا بين كفر وإِيمان، ثم خلص فإِن أُريد بالكافرين ما يعم من يتوب فالمعنى أَن كفرك شاغل لك عن الهدى ما دام فيه، وإِن أُريد كافرون أَشقياء فقد خوفه بهم. أَو الظالمون بمعنى ظلموا أَنفسهم و المؤمنين دعوى للاستواءِ. ومعنى أَعظم درجة أَن من جمع بين الإِيمان والهجرة والجهاد بالمال والنفس أَعظم كرامة ورتبة ممن آمن وهاجر ولم يجاهد، أَو جاهد بنفسه دون ماله، أَو بماله دون نفسه، أَو أَن الجامعين بين تلك الصفات أَعظم درجة من المشركين على زعمهم أَن لهم درجة عند الله فى الدنيا، وهم لا يقرون بالبعث، أَو أَعظم خارج عن التفضيل أَى عظيمون درجة قابل به أَن المشركين خسيسون، كما قابل بالفائزين المشركين الهالكين الخاسرين. وفى يبشرهم ربهم من التعظيم ما ليس فى بشرهم يا محمد، ولا سيما مع لفظ الرب المشعر بالإِنعام والرحمة فى الدنيا، والرحمة عند الموت، وفى القبر والبعث والحشر والرضوان، قضاؤه الأَزلى بأَنهم سعداء وأَنه لا يسخط عليهم أَبدا، كما جاءَ أَن الله عز وجل يقول لأَهل الجنة: أَرضيتم؟ فيقولون: ما لنا لا نرضى وقد أَنجيتنا من النار، وأَعطيتنا ما لم تعط أَحدا فيقول: أَعطيكم أَكبر من ذلكم. فيقولون: ما هو؟ فيقول: نعيم مقيم. والرضوان نعيم الآخرة، ولا يتكرر مع قوله نعيم مقيم لأَن فيه زيادة الإِقامة بمعنى الدوام وعدم الارتحال، قيل: استعار ما هو المطلق الحصول والمكث للمكث والحصول الدائمين استعارة المطلق للمقيد، كما إِذا تعمد إِطلاق الرجل مختصا برجل مخصوص والأَولى أَن ذلك مجاز مرسل من إِطلاق المطلق على المقيد، ولا بأس بالإِطناب فى هذا المقام حتى أَنه لو جعلت الرحمة والرضوان واحدا لكان حسنا، أَو الرحمة رحمة الدنيا والآخرة كلها، والرضوان عطف خاص على عام، ولا يحسن تفسير الرحمة بكون العبد راضيا بقضاء الله، والرضوان بكونه مرضيا عند الله، على أَن يطابق قوله تعالى
" { يَٰأَيَّتُهَا النفس المطمئنة * ارجعى إِلى ربك راضية مرضية } "[الفجر: 27 - 28] لأَن الرحمة فعل الله والمقام ليس مقاما لأَن يذكر أَنه يبشرهم بأَنكم راضون بقضائى، وأَن كونكم راضين به رحمة منى، وقابل الإِيمان بالرحمة، وبدأَ بها لتوقفها عليه، ولأَنها أعم النعم وأَسبغها.. وقد قال الله عز وجل:
"رحمتى سبقت غضبى" .. وقابل الجهاد الذى فيه بذل الأَنفس والأَموال وهو الغاية بالرضوان الذى هو نهاية الإِحسان، وقابل الهجرة عن الوطن بالجنة العظمى الدائمة لا هجرة عنها، وخالدين حال مقدرة، لأَن الخلود لم يقارن ثبوت النعيم، بل يقارن المكث فى النعيم، ولما أَمر الله بالتبرى من المشركين ولو كانوا آباء وإِخوانا ومثلهم الأَبناء والبنات ومن دونهم قالوا: كيف نتركهم ولا بد منهم نزل قوله تعالى:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكمْ وَإِخْوَانَكُمْ } الآية تلويح إِلى غيرهم أَيضا كالابن ودخلت الأُم والأَجداد والجدات فى الآباءِ وفسر بعضهم الإِخوان بالأَقرباءِ { أَوْلِيَاءَ } أَصدقاءَ لئلا يردوكم عن الإِسلام وتفشوا إِليهم أَسرار المسلمين والمراد بالإِخوان الجنس لا مقابلة فرد بفرد لأَنه قد يكون للواحد أَب أَو جد أَو أَجداد، وأُم وجدة أَو جدات، أَو أَخوان اثنان فصاعدا، إِلا أَن يقال: الفرد حصة كل واحد من ذلك، ولو تعددت أَفرادها { إِن اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ } بقوا عليه حبا له أَو ارتدوا إِليه كما ارتد طائفة وهربوا إِلى مكة، وذلك كله بعد فتح مكة لأَن السورة بعد الفتح، ويروى أَنهم تسعة. والآية فى ذم الكافرين والنهى عن أَن يجعلهم أَحد أَولياءَ لا فى شأن الهجرة { عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ } راعى لفظ من فى يتول فأَفرد ومعناه فى قوله { فَأُولَئِك هُمُ الظَّالِمُونَ } وذكر بعض أَن الآية فى العباس وطلحة أَسلما وامتنعا. وعن ابن عباس لما أَمر النبى صلى الله عليه وسلم الناس بالهجرة تعلق بمن أَرادوا الهجرة أَهلهم وأَولادهم، وقالوا: إِلى من تكلوننا، فتركوا الهجرة رقة لهم، وقيل: الآية في قوم أَسلموا وامتنعوا من الهجرة، وقد أمروا بها، وقالوا إِن هاجرنا ضاعت أَموالنا وخربت ديارنا وتعطل تجرنا، وفيه أَن السورة بعد الفتح ولا هجرة بعد إِلا أَن يقال: الآية قبله. والظلم وضع الموالاة فى غير موضعها، أَو ظلم أَنفسهم بالذنب، أَو ظلم المسمين بالموالاة لأنها مضرة لهم، وأَنهم يغتاظون بذلك.