التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ يَتُوبُ ٱللَّهُ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٢٧
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
٢٨
-التوبة

تيسير التفسير

{ ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ } بالتوفيق للإِسلام { مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ } منهم، والتعذيب بالأَسر والإِيجاع والجروح لا ينافى التوفيق. وتوبة الله تطلق على التوفيق وعلى قبول توبة العاصى { وَاللهُ غَفُورٌ } لمن تاب { رَحِيمٌ } له بالجنة وما دونها. { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } ناداهم ليتحفظوا على ما يذكر من الحكم بعد النداء { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } مصدر أَى ذوو نجس، أَو وصف فيكون على التشبيه، أَى كنجس أَى كشئ نجس كحسن الشئ فهو حسن، فهم كالعذرة والبول فى النجاسة، أَو أَفرد على أَن أَصله مصدر بلا تشبيه كعدل، والآية شاملة لأَهل الكتاب، وقيل: بطهارة بلل أَهل الكتاب إِلا ما ينجس من غيرهم إِن أَعطوا الجزية، وقيل ولو لم يعطوها، وقيل: بكراهتها، وعن ابن عباس: أَبدان المشركين نجسة كالكلب والخنزير ولو غسلوا، وقيل نجسة لأَنهم لا يجتنبون الأَنجاس ففيه الحكم بالغالب، فلو غسلوا أَو جانبوا النجاسة لكانوا طاهرين كالدجاجة لما غلب أَكلها الأَنجاس حكم بنجاستها حتى تحبس ثلاثة أَيام، وقيل: لا ينجس من المشرك ولو غير كتابى أَو كتابيا محارباً إِلا ما ينجس من غيره، وإِن الآية فى خستهم بالشرك سماها نجساً، وهو مذهب جمهور قومنا فيجنبون كما تجنب الأَنجاس، وعن الحسن بن صالح والزيدية من الشيعة: من صافح مشركاً توضأَ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صافح مشركاً فليتوضأ أَو ليغسل كفه" ، وأَو منه صلى الله عليه وسلم للتخيير، واختار التوضأ وهو بعد غسل الكف، وروى أَن جبريل استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فناوله يده فلم يقبلها، فقال: يا جبرائيل ما منعك أَن تأخذ بيدى. فقال: إِنك أَخذت بيد يهودى فكرهت أَن تمس يدى يداً قد مستها يد كافر، فدعا صلى الله عليه وسلم بماء فتوضأَ فناوله يده فتناولها. والآية فى حصر المشركين فى النجس حصر موصوف على صفة حصراً إِضافياً منظوراً فيه إِلى الطهر، أَى هم نجسون لا طاهرون. ووهم الفخر إِذ قال: المعنى لا نجس من الناس إِلا مشرك، وإِنما ذلك لو قال: إِنما النجس المشركون { فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } نهى عن قربه تأْكيدًا فى النهى عن دخوله، وكذا سائر مساجد الإِسلام قياساً عليه، ولأَنه إِمامها، أَى لا تتركوهم للدخول لخبثهم بالشرك وبالنجاسة، ولا يدخل المشرك مسجداً من مساجد المسلمين ولو ذمياً يعطى الجزية، ولو غسل النجس والثياب. قال بعض: إِلا بإِذن له فى دخول مسجدنا، ولا مسجد قومنا، ولا يحل أَن تتركوهم يدخلون مسجدنا ولا مسجد قومنا أَو قرب المسجد الحرام دخول الحرم، فإِن أَرسلوا للإِمام أَرسل إِليهم رسولا إِلى خارج الحرم، أَو خرج إِليهم، وإِن دفن مشرك فى الحرم قلع إِلى الحل ولو ذمياً أَو معاهداً، وأَجاز أَبو حنيفة وأَهل الكوفة دخول المعاهد والذمى الحرم، ويدخل المشرك الحجاز لأَمر كتجر بالإِذن ولا يقيم أَكثر من ثلاثة أَيام، وعزم صلى الله عليه وسلم على إِجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب، ومات قبل إِجلائه، وفى مسلم عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب فلا أَترك فيها إِلا مسلماً" ، وروى: أَوصى فقال: أَخرجوا المشركين من جزيرة العرب، ولم يتفرغ لذلك أَبو بكر، وأَجلاهم عمر، وأَجل لمن يدخله لتجر ثلاثة أَيام. قال صلى الله عليه وسلم: "لا يجتمع دينان فى جزيرة العرب" . رواه مالك، مرسل، وفى مسلم عن جابر عنه صلى الله عليه وسلم "إِن الشيطان قد يسر أَن يعبده المصلون فى جزيرة العرب" ، وجزيرة العرب من أَقصى عدن أَبين إِلى ريف العراق فى الطول، ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إِلى أَطراف الشام عرضاً، وقيل ما بين اليمامة واليمن أَنجد والمدينة الشريفة كلها حجازية، وقيل: جلها حجازى، ونصفها تهامى، وقال ابن الكلبى: الحجاز ما بين جبل طيئ وطراق العراق، وعن سعيد ابن عبد العزيز: ما بين الوادى إِلى أَقصى اليمن إِلى تخوم العراق، إِلى البحر. وقيل: المسجد الحرام هو الحرم لقوله تعالى " { سبحان الذى أَسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إِلى المسجد الأَقصى } "[الإِسراء: 1]. وقد أسرى به من بيت أم هانئ، لكن قد قيل أَيضاً: من تحت الميزاب، فيجمع بأَن الإِسراءَ منه، ثم من بيتها، وزعم أَبو حنيفة أَن المراد منعهم عن الحج والعمرة { بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } أَى بعد انسلاخ تسعة من الهجرة وهو عام نزول السورة والنداء بالبراءَة فى الحج، وقيل: عام حجة الوداع وانسلاخ عامهم تمام ذى الحجة من سنة تسع أَو سنة عشر وهى سنة حجة الوداع، ويدل على أَن المراد بالمسجد الحرم كله لا المسجد قوله تعالى { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } لأَنهم لا يخافون بعدم دخول المسجد فقط، فإِنه إِذا منعوا منه فقط دخلوا بأَموالهم الحرم وأَسواقه وراسمه، وأَيضاً سمى الله الحرم المسجد الحرام إِلى المسجد الأَقصى مع أَنه سرى من بيت أَم هانئ، لكن ليس إِجماعاً، بل فيه قول من الحجر الحطيم، والعيلة الفقر، خافوا الفقر بقطع المشركين عن الحرم، وفضل الله عطاؤه، وقد أَرسل السماءَ عليهم مدراراً، وأَسلم أَهل جدة وصنعاءَ، وهى قاعدة اليمن، وجرش وهو موضع باليمن، وتبالة وهى بلدة حصينة فيه، فحملت إِليهم الأَرزاق من هذه البلاد وغيرها، وفتحت البلاد وكثرت الغنائم والجزية وتوجه، الناس إِليهم من كل فج عميق، وقيد بالمشيئة ليتحققوا أَن الأَمر إِلى الله، ويقصروا آمالهم عليه، وأَنه لا واجب عليه، وكل نعمة فضل منه، وأَنه إِن شاءَ أَعطى هذا ومنع هذا، وأَعطى عاماً دون عام، وأَخبرهم أَنه عليم بأَحوالهم من يصلح للإِعطاء ومن لا يصلح، حكيم فى إِعطائه ومنعه، وسلاهم أَيضاً من مفارقة أَحبائهم من المشركين، وعن خوف العيلة بالجزية أَيضاً.