التفاسير

< >
عرض

إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ ٱللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ
٣٦
-التوبة

تيسير التفسير

{ إِنَّ عَدَّةَ الشُّهُورِ } أَى العربية القمرية { عِنْدَ اللهِ } أَى فى حكمه أَو علمه أَو اللوح المحفوظ، وقيل القرآن لهذه الآية نفسها، وقيل لأَن فيه آيات على الحساب ومنازل القمر لا ابتداع الناس، فكيف يغيرونها بالنسىءِ، كما جعل الأَيام سبعة. وإلا فالشهور والأَيام فى أَنفسها متماثلة لا حصر لها، هى سيالة لا يحدها حد بخلاف شهور الشمس، فإِنها تعد بقطع الفلك إِلى موضع ابتدأَت منه، إِلا أَن الله جل وعلا قرب العربية إِليها، وبنى عليها إِذ حدث وزاد بعشرة أَيام أَو أَحد عشر تقريباً، وبهذه الزيادة تنتقل الشهور القمرية فى الشمسية فيكون رمضان مثلا تارة في يناير وتارة في فبراير وهكذا، أَو أَمرهم الله من زمان إِبراهيم بناءَ العبادات على القمرية، واعتبروا الشمسية لمصالح دنياهم فذمهم الله، إِذ أَخروا حرمة شهر إِلى آخر وذكر قول عند الله لبيان كما قبح النسىءِ وهو متعلق بعدة. وصح التعلق به مع أَنه بمعنى العدد لأَن الظروف ومعمولات ضعيفة يكفيها أَذى رائحة الحدث، ويدل على أَنه ليس مصدراً بمعنى العد الإِخبار عنه بقوله { اثْنَا عَشَر شَهْراً } ولو كان فى الأَصل مصدراً مؤكداً لتقدم قوله عدة الشهور، دفعاً لاحتمال التجوز بالشهور، بأَن يراد بها السنة. ولو قيل اثنى عشر عاماً أَو يوماً لصح لأَنه قال عند الله كما { وَإِن يوماً عند ربك كأَلف سنة } [الحج: 47] لذلك الدفع قيل غير مؤكد وأَولها المحرم وآخرها ذو الحجة. وهما من عام واحد، وقيل أَولها رجب فهى من عامين. قال ابن عمر خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حجة الوداع بمنى فى وسط أَيام التشريق فقال "يا أَيها الناس إن الزمان قد استدار، فهو اليوم كهيئة يوم خلق الله السماوات والأَرض، وإِن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً منها أَربعة حرم، أَولهن رجب مضر بين جمادى وشعبان وذو القعدة وذو الحجة والمحرم" ، وقيل أَولها ذو القعدة، روى البخارى ومسلم: أَلا إِن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأَرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ورجب مضر، وأُضيف رجب لضر، لأَن ربيعة كانوا يحرمون رمضان ويسمونه رجبا، وذلك مبنى على أَن أَول السنة المحرم، وعرض على عمر تاريخ الأَكاسرة بمن كان غالباً من ملوكهم وتاريخ اليهود واستحسن التاريخ بالهجرة، وأَرخوا فى أَول الإِسلام بربيع الأَول سنة القدوم، وبأَول شهر منها، وهو ربيع الأَول. وأول هلال المحرم فى التاريخ الهجرى ليلة الخميس بالحساب وبالرؤية ليلة الجمعة، والشهر الحقيقى معتبر برؤية الهلال أَو إِكمال ثلاثين يوماً. والحقيقى معتبر من اجتماع القمر مع الشمس فى نقطة، وعوده بعد المقارنة إلى ذلك ولا مدخل للخروج من تحت شعاع إِلا فى إِمكان الرؤْية بحسب العادة الشائعة التى عليها الشرع، ومدة الحقيقى تسعة وعشرون يوماً مائة واحد وتسعون جزءاً من ثلاثمائة وستين جزءًا لليوم وليلته، فالسنة القمرية ثلاثمائة وأَربعة وخمسون يوماً وخمس يوم وسدسه وثانية، وذلك أحد عشر جزءًا من ثلاثين جزءًا لليوم وليلته، وإِذا اجتمع من هذه الأَجزاءِ أكثر من نصف يوم، عدُّوُه يوماً كاملا وزادوا فى الأَيام وتكون السنة كبيسة وأَيامها ثلاثمائة وخمسة وخمسون يوماً، واصطلحوا على جعل الاسم شهراً كاملا، وشهراً ناقصاً، وهذا هو الشهر الاصطلاحى، فالمحرم ثلاثون وصفر تسعة وعشرون، وهكذا، فالأَفراد ثلاثون وأَولها المحرم والأَزواج تسعة وعشرون، وأَولها صفر إِلا ذا الحجة من السنة الكبيسة فمن ثلاثين لجعلهم ما زاد فى أَيام السنة الكبيسة فى ذى الحجة آخر السنة، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم شهرا عيد لا ينقصان رمضان وذو الحجة، إِن ثواب تسعة وعشرين فيهما ثواب ثلاثين أَو لا يكونان فى سنة واحدة من تسعة وعشرين معا غالبا { فِى كِتَابِ اللهِ } اللوح المحفوظ أَو حكمه إِن فسرت عند الله بعلمه، وهو نعت لشهر أَو اثنى عشر { يَوْمَ خَلق السَّمَاواتِ والأَرْضَ } متعلق بمتعلق فى كتاب أَو نفى كتاب أَو بكتاب بمعنى مكتوب أَو كتابة، قيل أَو بدل من عند وهو ضعيف لأَن عند للمكان المجازى، والزمان لا يبدل من المكان ولا المكان من الزمان، وذلك فىعلم الله وحكمه قبل خلق السماوات والأَرض واللوح، ولكن الظهور يحصل بخلق السماوات والأَرض { مِنْهَا أَرْبَعةٌ حُرُمٌ } معظمة بالعبادة وتحريم القتال وتضعيف الحسنات والسيئات فيها، أَو ممنوعة عن القتال: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، والصحيح نسخ تحريم القتال فيهن، ويدل له أَنه صلى الله عليه وسلم حاصر الطائف وغزا هوازن فى شوال وذى القعدة، وقوله عز وجل " { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } "[التوبة: 5] على ما قيل إِن تعميم الأَمكنة تعميم للأَزمنة { ذَلِكَ } أَى التحريم المعلوم من حرم أَو كون العدة اثنى عشر، ورجح بأَن المراد الرد على الكفرة فى النسىءِ والزيادة وأَما التحريم فإنها محرمة فى الجاهلية أَيضاً ويترجح أَيضاً الأَول بالتفريع فى قوله تعالى: فلا تظلموا إِلخ { الدِّينُ الْقَيِّمُ } القويم المستقيم دين إِبراهيم وإِسماعيل، منهما ورثه العرب. ولو كان لا قتال لهما فإنهن محترمات عندهما بالعبادة، أَو الدين الحكم والقضاء والقيم الدائم، أَو الدين الحساب المستقيم لا ما تفعله العرب من النسىءِ { فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ } فى الأَربعة الحرم { أَنْفُسَكُمْ } بالذنوب وهتك حرمتهن، فإِن السيئات تتضاعف فيهن كما تتضاعف الحسنات وهكذا تتضاعف حيث تتضاعف الحسنات من زمان أَو مكان. كذنوب مكة ورمضان أَو الضمير للشهور الاثنى عشر والأَول أَولى لأَنه أَقرب مذكور، لأَن النهى عن الظلم فى الاثنى عشر يكفى عنه مطلق النهى عن الذنب فى العمر كله، ويدل له قول عطاءٍ لا يحل للناس الغزو فى المحرم والشهر الحرام، إِلا أَن يقاتلهم العدو، إِلا أَن الصحيح نسخ تحريم القتال فيهن كما مر، فالظلم غير القتال الحلال، وكان الرجل من العرب يلقى قاتل أَبيه أَو ابنه فلا يضره ولو بإِشارة بلسان أَو عضو، وسموا رجباً أَصم ومنصل الأَسنة حتى أَحدثوا النسىءَ فغيروا { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً } فى كل زمان وفى كل مكان، ولو فى الأَشهر الحرم أَو الحرم، وقد زعم بعض أَن عموم الأَشخاص يستلزم عموم الأَحوال والأَزمنة والأَمكنة وكافة حال، أَى جميعاً من الفاعل قبله أَو المفعول فى الموضعين، وهو مصدر كف بوزن اسم الفاعل كما قيل فى العافية والعاقبة، فإنه إذا تم الجمع لا يتصور أَن يزاد فيه، والفرض أَنه لم يبق منه شىءٌ خارج. فذلك منع وكف، وقيل كافة وصف والتاءُ فيه للمبالغة، والمعنى كافين لهم وكافين لكم، وقيل معناه جماعة ومن أَسماءِ الجماعة كافة والتاءُ للتأْنيث، والجماعة المخصوصة تكف غيرها أَن يزاد عليها وتكف عن التعرض لها، وبشر المسلمين بالنصر مع الحض على التقوى فى قوله تعالى { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } بكل خير بسبب تقواهم دنيا وأُخرى، وأَخذت العموم من إَطلاق المعية إِذ لم يقل مع المتقين لكذا، ودخل المخاطبون بالأَولى، وقيل هم المراد أَى أن الله معكم بالنصر والإِمداد.