{ إِنَّمَا النَّسِىءُ } مصدر بمعنى التأْخير لحرمة الشهر إلى آخر، أَوْ بمعنى مفعول أَى الشهر المؤخر، فيقدر إِنما زيادة النسىءِ أَو إِنما النسىءٌ ذو زيادة فى الكفر، والأَصل النسىءُ قلبت الهمزة ياءً وأُدغمت فيها الياءُ { زِيَادَةٌ فِى الْكُفْرِ } إِذا جاءهم شهر حرام وهم فى الحرب،
أَو أَرادوا إِنشاءَها فيه، أَحلوه وحرموا آخر مكانه، وقالوا: أُمرنا بتحريم أَربعة أشهر وقد وفينا بالأَربعة ولو لم تكن عين ذى القعدة وذى الحجة والمحرم ورجب، فضموا إِلى شركهم السابق كفراً آخر هو تحريم ما أَحل الله من الشهور، وإِحلال ما حرم منها، وأَعظم من
ذلك قولهم إِن الله أَمرنا بذلك، وربما جعلوا السنة ثلاثة عشر شهرا، وذلك بجمع تلك الزيادات. { يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كفَرُوا } يزيدون به ضلالا واستعمل الفعل فى الزيادة، أو يقدر يضل ضلالاً آخر أو ضلالاً زائدا { يُحِلُّونَهُ عَاماً } أَى يحلون النسىءَ بمعنى المؤَخر أَو التأْخير، والأَول أَولى، لكن لا مانع من أَن يقال أَحلوا التأْخير أَو حرموه، والجملة مستأْنفة لبيان فعلهم أَو تفسير لقوله عز وجل يضل إِلخ أَو حال { وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً } كانوا يصعب عليهم ترك الحروب والغارات ثلاثة أشهر متوالية، فيحلون المحرم ويحرمون صفراً مكانه، يمكثون زمانا على ذلك ثم يردون التحريم إلى المحرم. ينادى مناديهم فى ذى الحجة، إذا اجتمعت العرب للموسم: أَن أَحلوه وحرموا مكانه شهراً آخر. وأَول من فعل ذلك نعيم بن ثعلبة من كنانة. إِذا هم الناس بالصدور من الموسم خطب وقال: لا مرد لما قضيت أَنا الذى لا أُعاب ولا أُخاب. فيقولون: لبيك فيسأَلونه تحريم القتال فى عامهم أَو تحليله. وقيل: أَول من فعل ذلك جنادة بن عوف الكنانى. بضم الجيم. وكان مطاعا فى الجاهلية، ينادى على جمل فى الموسم: إِن آلهتكم قد أَحلت لكم المحرم فأَحلوه، ومن قابل: إِن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه، وتارة إِذا حرموا صفراً بدلا من المحرم أَحلوه وحرموا ربيعاً الأَول، وهكذا حتى يصلوا المحرم بالتحريم ويحجون فى كل شهر عامين، وحج الصديق فى السنة التاسعة فى ذى الفعدة، وحج صلى
الله عليه وسلم من قابل، وقد وصلوا المحرم بالتحريم، فنادى فى منى: أَلا إِن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأَرض. ووافق ما على عهد إِبراهيم عليه السلام. ومن قبله يحل ويحرم فى قوله عز وجل "ليواطئوا" والأَولى تعليقها بما يعمها، أَى فعلوا ذلك ليواطئُوا، بل هذا متعين لأَن معنى يحرمونه يبقونه على تحريمه، فلا يعلل بقوله ليواطئوا، إِلا أَن يتكلف بجعل اللام فى معناها الحقيقى وهو التعليل. والمجازى وهو العاقبة، ولكن لا مانع من أنهم قصدوا تحريمه من أَنفسهم لإِبقائه، فتكون للتعليل فى الجانبين { لِيُوَاطِئُوا } يوافقوا بالتحليل { عِدَّةَ } عدد { مَا حَرَّمَ اللهُ } راعوا وجوب أَربعة ولم يراعوا أَعيانها التى فرض الله عز وجل { فَيُحِلُّوا مَا حرَّم اللَّهُ } من الأَشهر { زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ } زينها الله بمعنى خذلهم وخلق فيهم إِشتهاءَها وزينها الشيطان فرأَوها حسنة { وَاللهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } لا يوفق الأَشقياء. وشرع فى حث المؤمنين على قتال المشركين بعد بيان نبذ من جنابتهم الموجبة له، وفى فضيحة المنافقين بقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ } توبيخ وتعجيب وإِنكار للياقة فى الشرع وقوله { إِذَا قِيلَ } قال الله أَو رسوله صلى الله عليه وسلم { لَكُمُ انْفِرُوا فِى سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ } حال، أو الحال اثاقلتم، مع خروج إِذا عن الشرط بجعل اثاقلتم بمعنى مضارع التكرر، فإِن معنى ما لكم تثاقلون بصيغة التجدد، كما يناسبه إِذا أَولى من معنى ما لكم تثاقلتم بدون تجدد، وانفروا اخرجوا سراعاً. وخصه بعض بما لا بد منه كما هنا، وفى سبيل الله الجهاد، فإنه سبيل الله، ويجوز كون فى للتعليل، والأَصل تثاقلتم كما قرأ به الأَعمش، أُبدلت الثناة مثلثة
فأُدغمت فجىءَ بهمزة الوصل لسكون الأَول كقوله عز وجل ادارأْتم أَو اداركوا بابدال التاء دالا وإدغامها، وهمزة الوصل والتفاعل هنا للمبالغة، أَو لأَن ثقل كل يدعو ثقل الآخر، وضمن معنى الميل فعدى بإِلى، والمعنى البطءُ والكسل، والأَرض الدنيا أى تركنون إلى الدنيا بحب الحياة والراحة، ويجوز أَن يراد أرض المدينة أَى تركنون إِلى اختيار الأَوطان عن الجهاد، والأَول أَبلغ وأَعم { أَرَضِيتُمْ } توبيخ وتعجيب وإِنكار للياقة { بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا } وغرورها وراحتها ولذاتها { مِنَ الآخِرَةِ } بدلها وبدل نعيمها { فَمَا مَتاعُ } تمتع { الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِى الآخِرَةِ } أَى فى تمتعها { إِلاَّ قَلِيلٌ } تعليل لمضمون أَرضيتم كأَنه قيل أَخطأْتم فى رضاكم بالدنيا بدل الآخرة، لأَن متاع الدنيا قليل، قال المسور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما الدنيا فى الآخرة إلا كما يجعل أَحدكم أَصبعه فى اليم ثم يرفعها، فلينظر بم يرجع" . كما رواه مسلم والترمذى والنسائى، ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذى الحليفة، فرأَى شاة شائلة برجلها، فقال: "أَترون هذه الشاة هينة على أَهلها؟ قالوا: نعم. قال صلى الله عليه وسلم: والذى نفسى بيده للدنيا أَهون على الله تعالى من هذه على صاحبها، ولو كانت تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماءٍ" ، وفى الآخرة حال من المبتدأَ أَى ثابتاً مقابلة الآخرة، أَو يقدر خاص أَى محسوباً،
ويقال لفى هذه ونحوها قياسية، لأَن المعنى بالنسبة إِلى الآخرة، ولا يتعلق بقليل، ولو سومح فى تقديم الظرف على إِلا لأَن تلك القلة ليست تقع فى الآخرة، ومعناها صغر مدتها وصغر منافعها لانقطاعها أَو حقارتها كمًّا وكيفًا، لتكدرها وانقطاعها، دعاهم صلى الله عليه وسلم فى رجب من السنة التاسعة بعد الرجوع من غزوة هوازن والطائف وفتح مكة
إلى غزوة تبوك وهم فى قحط وشدة حر وقت إِدراك الثمار مع بعدها بأَربع عشرة مرحلة وكثرة عدوها وشدتهم مع النصارى والروم، وتسمى غزوة العسرة لذلك، والفاضحة لأَنها أَظهرت حال كثير من المنافقين حتى زعم بعض أَنه تخلف عنها عشر قبائل، ولتلك الشدة لم يور صلى الله عليه وسلم عنها كما يورى عن سائر غزواته أظهرها ليستعدوا ما يليق، وبلغه أَن مقدمة هرقل من الروم والشام بلغت البلقاءَ. وبعث صلى الله عليه وسلم إِلى مكة وقبائل العرب، وحض الأَغنياءَ على النفقة، وهى آخر غزواته، وأَنفق عثمان ما لم ينفقه غيره، جهز عشرة آلاف وأَنفق عليهم عشرة آلاف دينار، وحمل على تسعمائةِ بعير ومائة فرس، وأَعطى من ما يحتاج إِليه من الزاد وغيره حتى أَوكية الأَسقية، وأَول من أَنفق الصديق جاءَ بأَربعة آلاف درهم وهى جميع ماله يومئذ، والفاروق بنصف ماله، وذلك النصف أكثر من أَربعة آلاف، وعبد الرحمن بن عوف بمائة أَوقية كالصديق، والعباس وطلحة بمال كثير، والنساءُ بما قدرن عليه من حليهن، وهم ثلاثون ألفاً أَو أَربعون أَو سبعون، والخيل عشرة آلاف، واستخلف على المدينة محمد بن مسلمة الأَنصارى أَو عليا، ورجع عبدالله ابن أُبى ومن معه من ثنية الوداع، ودفع اللواءَ الأَعظم الصديق والراية العظمى للزبير، وراية لأُسيد بن حضير من الأَوس، وراية للخباب ابن المنذر من الخزرج ولكل قبيلة أَو بطن من العرب لواءٌ وراية، ووجد ماءَ تبوك قليلا فاغترف من مائها غرفة فمضمض بها فردها فيه ففاض وأَقام بها بضع عشرة ليلة أَو عشرين فأَتاه بخنة بن رؤْية صاحب أَيلة وعرض عليه الإِسلام فأَبى، وأَهدى بغلة بيضاءَ فكساه صلى الله عليه وسلم رداءً، وعقد عليه الجزية وكتب له كتاباً ليعلموا به، واستشار صلى الله عليه وسلم الصحابة فى مجاوزة تبوك فأَبوا فقفل إلى المدينة، ولما قرب منها قال لهم: لا تكلموا أحداً ممن تخلف ولا تجالسوه حتى آذن لكم، فالرجل يعرض عن أَبيه وأَخيه ومن يعز عليه، وبالغ فى الحث على القتال بقوله تعالى: { إِلاَّ تَنْفِرُوا } معه صلى الله عليه وسلم { يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً } فى الآخرة، وقيل بحبس المطر أو غلبة العدو أَو ما شاءَ الله، أَو عذاب الدنيا والآخرة، قال ابن عباس: استنفر صلى الله عليه وسلم حياً من العرب، فتثاقلوا فأَمسك عنهم المطر فذلك عذابهم، وعلى هذا لم ينسخ وجوب خروج الكل لأَنها نزلت فى مخصوصين، وقال عكرمة والحسن: نسخ بقوله تعالى "وما كان المؤمنون" إلخ { وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } أَطوع منكم ليسوا من أَولادكم ولا من أَرحامكم، قيل: أَبناءُ فارس، وقيل: أَهل اليمن، وعلى الأَول سعيد بن جبير، وقيل ما يعم هؤلاءِ وغيرهم وهو أولى. وليست نصرته متوقفة عليكم، وهى واقعة لا محالة، وإِذا قال الله عز وجل إِن لم تفعلوا كذا كان كذا وقد قضى الله أَن يفعلوا ونحو ذلك، وقضاؤه لا يتخلف ولا يخفى عنه ما يكون وما لا يكون فمعناه احذروا، وما يدريكم بما عند الله، وبنى الله تعالى الخلق كله، بعضه بلا ترتيب على شىءٍ وبلا سبب، وبعضه على ترتيب وتسبب، ويقول إِن لم تفعلوا كذا كان، ولو علم أَنهم يفعلون، ويقول: إن فعلتم ولو علم أَنهم لا يفعلون { وَلاَ تَضَرُّوهُ } بترك نصره { شَيْئاً } ضَرًّا ما، ونصره واقع لا محالة والهاءُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدل له "إِلا تنصروه فقد نصره الله إِذ أَخرجه الذين كفروا" وقيل للذين المدلول عليه بالمقام، والأَول أَولى لأَنه المذكور
ولأَنه أَنسب بمتعلق الضر نفياً أَو ثبوتاً، وعدم مضرته عدم مضرة دينه، أَو لله وهو أَولى، إِلا أَنه يرجع إِلى القول الثانى لأَن الله لا يتضرر بشىءٍ، فالمراد لا تضروا دينه { وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } فهو قادر على نصره ونصر دينه ولو بلا واسطة، وعلى استبدال، وزاد تأْكيداً وزجراً عن الكسل بقوله: { إِلاَّ تَنْصُرُوهَ } إِن لا تنصروه { فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ } تعليل للجواب المحذوف، أَى فالله ينصره أَو فسينصره، أَو فلن يخذله لأَن الله قد نصره، لأَن الله قد قضى نصره فيما مضى، والنصرة لو كانت لا توجب نصرة بعدها إِلا أَن الله فعال لما يريد، إِلا أَن الكلام يحمل على عوائد
كرمه وعلى استصحاب كرمه، والقياس عليه والخطاب للمتثاقلين، والهاءُ للنبى صلى الله عليه وسلم وإِنما لم نجعل قد نصره جواباً لأَن نصره السابق أَو الوعد بنصره اللاحق لا يتوقف على عدم نصرهم إِياه، ولأَن سابق لا يكون جواباً مستقبلا والجواب مستقبل { إِذْ } متعلق بنصر { أَخْرَجَهُ } أهل مكة { الَّذِينَ كَفَرُوا } ضيقوا عليه حتى خرج لأَنه سمع عنهم ما ذكر الله بقوله عز وجل "وإِذ يمكر بك الذين كفروا" إِلخ، فذكر المسبب وهو الإِخراج والمراد السبب، وهو التضييق وما خرج إِلا بأَمر الله { ثَانِىَ اثْنَيْنِ } والآخر الصديق إِجماعا رضى الله عنه لا ثالث لهما من الناس، فكيف لا ينصره الآن ومعه جنود من الناس، وهذا بحسب العادة، والأَمر سواءٌ عند الله، أَو المعنى نصره حين أَخرجوه لأَنه ما أُذن له بالخروج إِلا لينصره من خارج مكة، والخروج إِنما هو للنصرة فكيف تتخلف، والمراد بعض اثنين لأَنه أَضيف لما هو من مادته لا لما تحته نحو ثالث اثنين { إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ } إذ بدل من الأُولى بدل مطابق بأَن نجعل وقت الخروج والذهاب إِلى الغار واللبث فيه واحداً، لا بدل بعض لعدم الرابط ولا تعد هذا منه أَو من ذلك الوقت ربط بالضمير فى منه عائداً إِلى إِذا، وبالإِشارة لأَنه لم يسمع عود الضمير أَو الإِشارة إِلى إذ مع ضعف رجوع الضمير من الجملة إِلى الظرف المضاف إِليها، وهو غار أَعلى ثور ـ بفتح المثلثة وإِسكان الواو ـ وهو جبل في يمين مكة، ويمينها الجنوب، وهو على سير ساعة من مكة، دخله الصديق قبله صلى الله عليه وسلم، ليلاقى هو ما فيه من ضر، ثم لما دخله سد جحره بثوبه خرقا وبقى جحرة فسدها بقدمه فنهشته حية، ولما جاءَ أَجل موته انبعث عليه سمها فمات به ليكون قد مات موت شهيد، وشهر أَنه انبعث إِليه سم أَكله فى طعام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم { إِذْ } بدل من الثانية أَو من الأُولى على جواز الإِبدال من البدل أَو تعدد البدل، وعلى المنع يقدر له اذكر أَو يقدر له نصر لا على طريق البدل، أَو يعلق إِذ الثانية بثانى لكن بضعف، قيل: لإِيهامه تطفله صلى الله عليه وسلم على الصديق فى اللبث فى الغار ومقدماته من تقدم الصديق بالدخول للتمهيد فيه واختبار هل فيه من دابة وليس كذلك، فإن معنى ثانى اثنين بعض اثنين، والإِخبار بأَنه ثان فى الغار لا يوجب أَن لا يكون ثانيا فى الذهاب إِليه، بل لا مانعاً من معنى قولك إِنه ثان لتكريمه بتقدم الصديق لإِصلاح الغار، وما دخل صلى الله عليه وسلم إِلا بعد إِصلاح الغار بخرق الثوب وبالقدم { يَقُولُ } صلى الله عليه وسلم { لِصَاحِبِهِ } أَبى بكر الصديق رضى الله عنه، إِذ قلق وحزن وقال: إِن مت أَنا: مات رجل واحد، وإن مت أَنت مات الدين وهلكت الأُمة، وقال: لو نظر أَحد تحت قدمه أَى جعل خده فى موضعها لأَبصرنا، أَو طلعوا فوق الغار فلو نظر أَسفله لأَبصرنا، ويروى أَن أَحد الفتيان المتبعين بال فى مقابلة الغار، فقال الصديق رضى الله عنه: يرانا. فقال صلى الله عليه وسلم "إِن الملائكة تسترنا، ولو كان يرانا ما كان يبول هناك" ، والمضارع لحكاية الحال الماضية { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا } بالنصر والولاية الدائمة، ومع هنا دخلت على التابع والأَصل دخولها على المتبوع، أَو يعتبر أن المباشرة تليق بالخلق فدخلت عليه مع ولا بأْس باعتبار خواص المعانى الحقيقية فى المعانى المجازية، وهنا مجازية واعتبرنا فيها خاصة المعية، قال الصديق رضى الله عنه: لو أَن أَحدهم رفع قدمه لأَبصرنا تحت قدمه، وقصدت فتيان الغار فسبق أَحدهم ورأَى حمامة على فم الغار، وبينه وبين الغار قدر أَربعين خطوة فرجع وقال: ارجعوا، لو كان فيه أَحد ما كانت هناك حمامة، ويروى أَنهم رأَوا بيضها فى فم الغار،
ورأَوا نسج العنكبوت فرجعوا قائلين: لو كان فيه ما باضت فى فم الغار ولا نسج العنكبوت، وأَنه لأَقدم من ميلاد محمد، ويروى على فمه حمامتان، وخرق الصديق كساءَه فأَلقمه الجحر وبقى جحر فأَلقمه قدمه فلدغ، وحيث الذهاب من مكة يكون الصديق أمامه وخلفه ويمينه ويساره، فقال صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟ قال: أَذكر الرصد فأَتقدم، والطلب فأَتخلف وأكون جانباً لآمن عليك. قال صلى الله عليه وسلم له: " ما ظنك باثنين ثالثهما الله بالحفظ والنصر" ، قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم لأَبى بكر رضى الله عنه:" "أَنت صاحبى
فى الغار، أَنت صاحبى على الحوض" . وعن أَنس قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم لحسان: "هل قلت فى أَبى بكر شيئاً؟ قال: نعم. قال: قل وأَنا أسمع" . فقال: وثانى اثنين فى الغار المنيف وقد طاف العدو به إذ صاعد الجبلا
وكان حب رسول الله قد علموا من البرية لم تعْدِل به رجلا
"فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، قال:
صدقت يا حسان هو كما قلت،" وروى أَن أَبا بكر قال:
قال النبى ولم يجزع يوقرنى ونحن فى سدف فى ظلمة الغار
لا تخش شيئاً فإِن الله ثالثنا وقد تكفل لى منه بإِظهار
وإِنما كيد من تخشى بـوادره كيد الشياطين قد كادت لكفار
والله مهلكهم طرا بما صنعوا وجاعل المنتهى منهم إِلى النار
ومن فضائِله أَنه أَسلم على يده عثمان وطلحة والزبير وغيرهم، ومنها أَنه حضر معه فى جميع مشاهده ولم يغب عنه فى سفر ولا حضر. قيل: ومنها أَنه عاتب الله تعالى أَهل الأَرض إِلا إِياه فى قوله: { إِلا تنصروه فقد نصره الله }، ويبحث بأَن الخطاب لم تثاقل عن الخروج فقط { فَأَنْزَلَ اللهُ } عطف على يقول والترتيب ذكرى { سَكَينَتَهُ } طمأنينته التى تسكن معها القلوب ويحصل بها اليقين { عَلَيْهِ } على رسول الله صلى الله عليه وسلم الثانى فى الغار القائل لصاحبه، فالضمائر له ولو أَعادها (عليه) إِلى الصديق لتفككت الضمائر فإِن الهاءَ أيضا فى قوله { وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا } للنبى صلى الله عليه وسلم أَولى من أَن تكون للصديق رضى الله عنه، ولو كان أنسب بإِنزال السكينة، لأَنه هو الذى قلق لا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أَنه لا مانع من أَن يراد بِإنزال السكينة عليه صلى الله عليه وسلم زيادتها فى محل يقلق فيه غيره أَو دوامها، ففى آية أُخرى " { ثم أَنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } "[التوبة: 26] لكن لا يضر تفكيك الضمائر، وعن أَنس أَنه صلى الله عليه وسلم قال للصديق رضى الله عنه: إِن الله تعالى أَنزل سكينته عليك وأَيدك. والمراد أَنه أَنزل ملائِكةً ليحرسوه فى الغار ويصرفوا وجوه الكفار عنه ويرعبوهم حين رجعوا أَو ليعينوه فى بدر وأُحد وحنين وغيرهن، وليس المراد لم تروها حين الغار، فإِنهم لم يحضروه اللهم إلا باعتبار المجموع فإِن الصديق والرسول صلى الله عليه وسلم حضراه، والعطف على نصرة الله إِذا قلنا أَنزلها ليعينوه فى بدر إِلخ. وعلى أَنزل الله إِذا قلنا أَنزلها للحرس فى الغار ترددوا حول الغار وصرفهم عن أَن يروه، وقال قائِفهم: انتهت هنا، فصعدا إِلى السماءِ أَو نزلا فى باطن الأَرضِ يعنى الجبل. أَمره الله عز وجل بالهجرة فجاءَ إِلى دار الصديق رضى الله عنه فى الظهيرة، فرأَته امرأَة منها، فقالت له: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءَ، فقال بأَبى وأَمى ما جاءَ به فى وقت لا يعتاده؟ فدخل بإِذن، فقال: أُمرت بالهجرة. فقال: الصحبة يا رسول الله، فقال: نعم: فقال: خذ إِحدى الراحلتين. فقال: بالثمن. فأَخذ القصوى بثمانمائة درهم، وهى التى يخرج عليها للجهاد والحج، وماتت فى زمان الصديق، وزوده الخبز واللحم والتمر، وخرجا أَول الليل إِلى الغار وخلف عليا فى فراشه، ليظنه المشركون رسول الله، واستأْجر الصديق عبدالله بن أُريقط ودفع له الراحلتين وواعده أَن يجىءَ بهما بعد ثلاث ليال يلبثان فى الغار، وكان عامر بن فهيرة يختلف إِليهما بِالطعام، وعلى يجهزهما واشترى ثلاثة أَباعر من إِبل البحرين، واستأْجر لهما دليلا وأَتاهما على فى الليلة الثالثة بالإِبل والدليل، وكان عبدالله بن أَبى بكر غلاما ثقفا لقنا يبيت معهما أَو يخرج سحرا، فيصبح فى مكة كبائت، ويأْتيهما بأَخبار قريش إِذا اختلط الظلام، ويأْتيهما عامر بن فهيرة بلبن غنم ليلا، ويروى أَنه صلى
الله عليه وسلم استأَجر مشركا من دئل من بنى عبد بن عدى وهو خريت ودفعا إِليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث فأَتاهما براحلتيهما صبح ثلاث، فأَخذ بهم طريق الساحل ويسمى طريق أَذاخر، ورجع الرصد سود الوجوه حزنين هم ومن أَرسلهم. إِذ لم يجدوه، وبكى الصديق رضى الله عنه فى الغار حين أَحس بالرصد، فقال صلى الله عليه وسلم له: "ما يبكيك؟ قال: بكيت للدين ينقطع بموتك لا لموتى" ، وكذا بكى حين لحقهم سراقة فقال: ما يبكيك؟ فأَجابه بذلك، وبسطت القصة فى العميان وغيره. { وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا } كفار قريش { السُّفْلَى } وهى دعوة الشرك أَو الكفار مطلقا أَو الشرك مطلقا، كقول النصارى ثالث ثلاثة، أَو الكلمة اعتقاد الشرك. { وَكَلِمَةُ اللهِ هِىَ الْعُلْيَا } وهى الدعاء إِلى الإِيمان أَو اعتقاده برفع كلمة لا بالنصب، ليكون اللفظ فى معنى أَنها عليا فى نفسها لا بالجعل، وإِن كان النصر بها بالجعل. وحصر العلو فيها بضمير الفصل، وبتعريف الطرفين وكلمة الكفر السفلى بجعل الله إِياها نفسها السفلى، فهى مغلوبة لخستها ولو غلب أَهلها حينا فإِن غلبتها كلا غلبة { واللهُ عَزِيزٌ } فى ملكه فيعز من والاه ويذل من عصاه { حَكِيمٌ } فى صنعه، أَو لا يفعل إِلا الصواب.