التفاسير

< >
عرض

ٱلْقَارِعَةُ
١
مَا ٱلْقَارِعَةُ
٢
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْقَارِعَةُ
٣
يَوْمَ يَكُونُ ٱلنَّاسُ كَٱلْفَرَاشِ ٱلْمَبْثُوثِ
٤
وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ ٱلْمَنفُوشِ
٥
فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ
٦
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ
٧
وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ
٨
فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ
٩
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ
١٠
نَارٌ حَامِيَةٌ
١١
-القارعة

صفوة التفاسير

اللغَة: { ٱلْقَارِعَةُ } اسم من أسماء القيامة، سميت بها لأنها تقرع الخلائق بأهوالها وأفزاعها، وأصلُ القرع الضرب بشدة وقوة، تقول العرب: قرعتهم القارعة وفقَرتهم الفاقرة، إِذا وقع بهم أمر فظيع { ٱلْمَبْثُوثِ } المنتشر المتفرق { ٱلْعِهْنِ } الصوف ذو الألوان أو المصبوغ { الهَاوِيَةٌ } اسم لجهنم سميت بذلك لأنَّ الناس يهْوون بها أي يسقطون.
التفسِير: { ٱلْقَارِعَةُ * مَا ٱلْقَارِعَةُ } أي القيامة وأيُّ شيء هي القيامة؟ إِنها في الفظاعة والفخامة بحيث لا يدركها خيال، ولا يبلغها وهمُ انسان فهي أعظم من أن توصف أو تصوَّر، ثم زاد في التفخيم والتهويل لشأنها فقال { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْقَارِعَةُ }؟ أي أيُّ شيء أعلمك ما شأن القارعة في هولها على النفوس؟ إِنها لا تُفزع القلوب فحسب، بل تؤثّر في الاجرام العظيمة، فتؤثر في السماوات بالإِنشقاق، وفي الأرض بالزلزلة، وفي الجبال بالدكّ والنسف، وفي الكواكب بالانتثار، وفي الشمس والقمر بالتكوير والانكدار إِلى غير ما هنالك قال أبو السعود: سميت القيامة قارعة لأنها تقرع القلوب والأسماع بفنون الأهوال والأفزاع، ووضع الظاهر موضع الضمير { مَا ٱلْقَارِعَةُ } تأكيداً للتهويل، والمعنى أيُّ شيء عجيب هي في الفخامة والفظاعة، ثم أكد هولها وفظاعتها بقوله { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْقَارِعَةُ }؟ ببيان خروجها عن دائرة علوم الخلق، بحيث لا تكاد تنالها دراية أحد.. وبعد هذا التخويف والتشويق إِلى معرفة شيءٍ من أحوالها، جاء التوضيح والبيان بقوله تعالى { يَوْمَ يَكُونُ ٱلنَّاسُ كَٱلْفَرَاشِ ٱلْمَبْثُوثِ } أي ذلك يحدث عندما يخرج الناسُ من قبورهم فزعين، كأنهم فراش متفرق منتشر هنا وهناك، يموج بعضهم في بعض من شدة الفزع والحيرة قال الرازي: شبه تعالى الخلق وقت البعث هٰهنا بالفراش المبثوث، وفي آية أُخرى بالجراد المنتشر، أما وجه التشبيه بالفراش، فلأن الفراش إِذا ثار لم يتجه إِلى جهةٍ واحدة، بل كل واحدة منها تذهب إِلى غير جهة الأُخرى، فدلَّ على أنهم إِذا بُعثوا فزعوا، وأما وجه التشبيه بالجراد فهو في الكثرة، يصبحون كغوغاء الجراد يركب بعضه بعضاً، فكذلك الناس إِذا بُعثوا يموج بعضُهم في بعض كالجراد والفراش كقوله تعالى
{ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } [الكهف: 99] { وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ ٱلْمَنفُوشِ } هذا هو الوصف الثاني من صفات ذلك اليوم المهول أي وتصير الجبال كالصوف المنتثر المتطاير، تتفرق أجزاؤها وتتطاير في الجو، حتى تكون كالصوف المتطاير عند الندف قال الصاوي: وإِنما جمع بين حال الناس وحال الجبال، تنبيهاً على أن تلك القارعة أثَّرت في الجبال العظيمة الصلبة، حتى تصير كالصوف المندوف مع كونها غير مكلفة ، فكيف حال الإِنسان الضعيف المقصود بالتكليف والحساب!! ثم ذكر تعالى حالة الناس في ذلك اليوم، وانقسامهم إِلى شقي وسعيد فقال { فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ } أي رجحت موازين حسناته، وزادت حسناتُه على سيئاته { فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } أي فهو في عيش هنيءٍ رغيد سعيد، في جنان الخلد والنعيم { وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ } أي نقصت حسناته عن سيئاته، أولم يكن له حسناتٌ يُعتدُّ بها { فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ } أي فمسكنه ومصيره نار جهنم يهوي في قعرها، سَّماها أُماً لأن الأم مأوى الولد ومفزعه، فنار جهنم تؤوي هؤلاء المجرمين، كما يأوي الأولاد إِلى أمهم، وتضمهم إِليها كما تضم الأم الأولاد إِليها قال أبو السعود: { هَاوِيَةٌ } اسم من أسماء النار، سميت بها لغاية عمقها وبعد مهواها، روي أن أهل النار يهوون فيها سبعين خريفاً { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ }؟ استفهام للتفخيم والتهويل أي وما أعلمك ما الهاوية؟ ثم فسَّرها بقوله { نَارٌ حَامِيَةٌ } أي هي نار شديدة الحرارة، قد خرجت عن الحد المعهود، فإِن حرارة أي نارٍ إِذا سُعرت وأُلقي فيها أعظم الوقود لا تعادل حرارة جهنم، أجارنا الله منها بفضله وكرمه.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البديع والبيان نوجزها فيما يلي:
1- الاستفهام للتفخيم والتهويل { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْقَارِعَةُ }؟ { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ }؟
2- وضع الظاهر مكان الضمير للتخويف والتهويل { ٱلْقَارِعَةُ * مَا ٱلْقَارِعَ }؟ والأصل أن يقال: القارعة ما هي؟
3- التشبيه المرسل المجمل { يَوْمَ يَكُونُ ٱلنَّاسُ كَٱلْفَرَاشِ ٱلْمَبْثُوثِ } ذكرت أداة التشبيه وحذف وجه الشبه أي في الكثرة والانتشار، والضعف والذلة، ومثله { كَٱلْعِهْنِ ٱلْمَنفُوشِ } أي في تطايرها وخفة سيرها فيسمى مرسلاً مجملاً.
4- المقابلة { فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } ثم قابلها بقوله { وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ } وهو من المحسنات البديعية.
5- المجاز العقلي { فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } أي راضٍ بها صاحبها ففيه اسناد مجازي.
6- الاحتباك وهو أن يحذف من كل نظير ما أثبته في الآخر فقوله تعالى { فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ } حذف من الأول (فأمه الجنة) وذكر فيها { عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } وحذف من الآية الثانية (فهو في عيشة ساخطة) وذكر { فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ } فحذف من كلٍ نظير ما أثبته في الآخر، وهو من المحسنات البديعية كذلك.
7- توافق الفواصل في الحرف الأخير، وهو واضح في السورة الكريمة.
تنبيه: الجمهور على أن الميزان حقيقي له كفتان ولسان، توزن فيه الصحف المكتوب فيها الحسنات والسيئات، وروي عن ابن عباس أنه يؤتى بالأعمال الصالحة على صور حسنة، وبالأعمال السيئة على صور قبيحة، فتوضع في الميزان، فمن رجحت حسناته سعد، ومن رجحت سيئاته شقي، والله أعلم.