التفاسير

< >
عرض

أَلْهَاكُمُ ٱلتَّكَّاثُرُ
١
حَتَّىٰ زُرْتُمُ ٱلْمَقَابِرَ
٢
كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ
٣
ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ
٤
كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ ٱلْيَقِينِ
٥
لَتَرَوُنَّ ٱلْجَحِيمَ
٦
ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ ٱلْيَقِينِ
٧
ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ ٱلنَّعِيمِ
٨
-التكاثر

صفوة التفاسير

اللغَة: { أَلْهَاكُمُ } الإِلهاء: الشغل والانصراف عن الشيء الهام إِلى ما يدعو إِليه الهوى، وأصل اللهو الغفلةُ ثم شاع في كل شاغلٍ قال الراغب: اللهو ما يشغلك عما يعني ويهمُّ { ٱلتَّكَّاثُرُ } التباهي بكثرة المال والجاه وهو بمعنى المكاثرة { ٱلْمَقَابِرَ } القبور جمع مقبرة، والقبور جمع القبر قال الشاعر:

أرى أهل القُصور إِذا أُميتوا بَنَوْا فوق المقابر بالصخور
أبو إِلاّ مباهاةً وفخراً على الفقراء حتى في القبور

التفسِير: { أَلْهَاكُمُ ٱلتَّكَّاثُرُ } أي شغلكم أيها الناسُ التفاخر بالأموال والأولاد والرجال عن طاعة الله، وعن الاستعداد للآخرة { حَتَّىٰ زُرْتُمُ ٱلْمَقَابِرَ } أي حتى أدرككم الموت، ودفنتم في المقابر، والجملةُ خيرٌ يراد به الوعظ والتوبيخ قال القرطبي: المعنى شغلكم المباهاة بكثرة المال والأولاد عن طاعة الله، حتى مُتُّم ودفنتم في المقابر { كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } زجرٌ وتهديدٌ أي ارتدعوا أيها الناس وانزجروا عن الاشتغال بما لا ينفع ولا يفيد، فسوف تعلمون عاقبة جهلكم وتفريطكم في جنب الله، وانشغالكم بالفاني عن الباقي { ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } وعيدٌ إِثر وعيد، زيادة في الزجر والتهديد أي سوف تعلمون عاقبة تكاثركم وتفاخركم إِذا نزل بكم الموت وعاينتم أهواله وشدائده قال ابن عباس: { كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } ما ينزل بكم من العذاب في القبر { ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } أي في الآخرة إِذا حلَّ بكم العذاب { كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ ٱلْيَقِينِ } أي ارتدعوا وانزجروا فلو علمتم العلم الحقيقي الذي لا شك فيه ولا امتراء، وجواب { لَوْ } محذوفٌ لقصد التهويل أي لو عرفتم ذلك لما ألهاكم التكاثر بالدنيا عن طاعة الله، ولما خُدعتم بنعيم الدنيا عن أهوال الآخرة وشدائدها كما قال صلى الله عليه وسلم: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً" الحديث قال في التسهيل: وجوابُ { لَوْ } محذوفٌ تقديره: لو تعلمون لازدجرتم واستعددتم للآخرة، وإِنما حذف لقصد التهويل، فيقدر السامع، أعظم ما يخطر بباله كقوله تعالى { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى ٱلنَّارِ } [الأنعام: 27] { لَتَرَوُنَّ ٱلْجَحِيمَ } أي أُقسم وأؤكد بأنكم ستشاهدون الجحيم عياناً ويقيناً قال الألوسي: هذا جواب قسم مضمر، أكد به الوعيد، وشدَّد به التهديد، وأوضح به ما أنذروه بعد إِبهامه تفخيماً أي والله لترون الجحيم { ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ ٱلْيَقِينِ } أي ثم لترونها رؤية حقيقية بالمشاهدة العينية قال في البحر: زاد التوكيد بقوله { عَيْنَ ٱلْيَقِينِ } نفياً لتوهم المجاز في الرؤية الأولى { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ ٱلنَّعِيمِ } أي ثم لتسألنَّ في الآخرة عن نعيم الدنيا من الأمن والصحة، وسائر ما يُتلذذ به من مطعم، ومشرب، ومركب، ومفرش.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البديع والبيان نوجزها فيما يلي:
1- الوعظ والتوبيخ { أَلْهَاكُمُ ٱلتَّكَّاثُرُ } فقد خرج الخبر عن حقيقته إِلى التذكير والتوبيخ.
2- التكرار للتهديد والإِنذار { كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } وعطفه بـ { ثُمَّ } للتنبيه على أن الثاني أبلغ من الأول، كما يقول العظيم لعبده: أقول لك ثم أقول لك لا تفعل، ولكونه أبلغ نُزّل منزلة المغايرة فعطف بثم.
3- حذف جواب { لَوْ } للتهويل { لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ ٱلْيَقِينِ } أي لرأيتم ما تشيب له الرءوس، وتفزع له النفوس من الشدائد والأهوال.
4- الإِطناب بتكرار الفعل { لَتَرَوُنَّ } { ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا } لبيان شدة الهول.
5- الكناية { حَتَّىٰ زُرْتُمُ ٱلْمَقَابِرَ } كنَّى عن الموت بزيارة القبور والمراد حتى مُتُّم.
6- المطابقة بين { ٱلنَّعِيمِ.. ٱلْجَحِيمَ }.
7- توافق الفواصل مراعاة لرءوس الآيات وهو من المحسنات البديعية.
تنبيه: روى الترمذي عن عبد الله بن الشخِّير قال:
"انتهيت إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية { أَلْهَاكُمُ ٱلتَّكَّاثُرُ } فقال: يقول ابن آدم مالي، مالي، وهل لك من مالك إِلا ما أكلت فأفنيتَ، أو لبستَ فأبليتَ، أو تصدقتَ فأمضيت"
؟ لطيفَة: روى مسلم عن أبي هريرة قال: "خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة، فإِذا هو بأبي بكر وعمر، فقال صلى الله عليه وسلم ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟ قالا: الجوعُ يا رسول الله، قال: وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما! فقوموا فقاموا معه، فأتى رجلاً من الأنصار فإِذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة قالت: مرحباً وأهلاً، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين فلان! قالت: ذهب يستعذب لنا الماء، إِذ جاء الأنصاري فنظر إِلى رسول الله وصاحبيه ثم قال: الحمد لله ما أحدٌ اليوم أكرم أضيافاً مني، فانطلق فجاءهم بعذق - عنقود - فيه بسر وتمر ورطب فقال: كلوا، وأخذ المدية - السكين - فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِياك والحلوب! فذبح لهم شاة فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذْق وشربوا، فلما شبعوا ورَووْا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: والذي نفسي بيده لتسألنَّ عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم" .