التفاسير

< >
عرض

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ
١
مَلِكِ ٱلنَّاسِ
٢
إِلَـٰهِ ٱلنَّاسِ
٣
مِن شَرِّ ٱلْوَسْوَاسِ ٱلْخَنَّاسِ
٤
ٱلَّذِى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ ٱلنَّاسِ
٥
مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ
٦
-الناس

صفوة التفاسير

اللغَة: { ٱلْوَسْوَاسِ } الشيطان الموسوس، مشتق من الوسوسة وهي الكلام الخفي وحديث النفس قال الأعشى:

"تسمعُ لِلحَلْي وسْواساً إِذا انصرفت"

{ ٱلْخَنَّاسِ } الذي عادته أن يخنس أي يتوارى ويختفي ويتأخر يقال: خنس الظبي إِذا اختفى، وسمي الشيطان خناساً لأنه يتوارى ويختفي إِذا ذكر العبد ربه، فإِذا غفل عن ذكر الله عاد فوسوس له والخنوس: التأخر { ٱلْجِنَّةِ } بكسر الجيم الجنُّ جمع جني، وبضم الجيم الوقاية وفي الحديث "الصوم جُنة" أي وقاية من عذاب الله.
التفسِير: { قُلْ أَعُوذُ } أي قل يا محمد أعتصم وألتجىء وأستجير { بِرَبِّ ٱلنَّاسِ } أي بخالق الناس ومربيهم ومدبر شئونهم، الذي أحياهم وأوجدهم من العدم، وأنعم عليهم بأنواع النعم قال المفسرون: إِنما خصَّ الناس بالذكر - وإِن كان جلت عظمته رب جميع الخلائق - تشريفاً وتكريماً لهم، من حيث إِنه تعالى سخَّر لهم ما في الكون، وأمدهم بالعقل والعلم، وأسجد لهم ملائكة قدسه، فهم أفضل المخلوقات على الإِطلاق { مَلِكِ ٱلنَّاسِ } أي مالك جميع الخلق حاكمين ومحكومين، ملكاً تاماً شاملاً كاملاً، يحكمهم، ويضبط أعمالهم، ويدبّر شئونهم، فيعز ويذل، ويغني ويُفقر { إِلَـٰهِ ٱلنَّاسِ } أي معبودهم الذي لا ربَّ لهم سواه قال القرطبي: وإِنما قال { مَلِكِ ٱلنَّاسِ * إِلَـٰهِ ٱلنَّاسِ } لأن في الناس ملوكاً فذكر أنه ملكهم، وفي الناس من يعبد غيره فذكر إِنه إِلههم ومعبودهم، وأنه الذي يجب إن يستعاذ به ويُلجأ إِليه، دون الملوك والعظماء، وترتيب السورة بهذا الشكل في منتهى الإِبداع، وذلك لأن الإِنسان أولاً يعرف أن له رباً، لما يشاهده من أنواع التربية { رَبِّ ٱلنَّاسِ } ثم إِذا تأمل عرف أن هذا الرب متصرفٌ في خلقه، غني عن خلقه فهو الملك لهم { مَلِكِ ٱلنَّاسِ } ثم إِذا زاد تأمله عرف أنه يستحق أن يُعبد، لأنه لا عبادة إِلا للغني عن كل ما سواه، المفتقر إِليه كل ما عداه { إِلَـٰهِ ٱلنَّاسِ } وإِنما كرر لفظ الناس ثلاثاً ولم يكتف بالضمير، لإِظهار شرفهم وتعظيمهم والاعتناء بشأنهم، كما حسن التكرار في قول الشاعر:

لا أرى الموتَ يسبقُ الموتَ شيء نغَّص الموتُ ذا الغِنَى والفقيرا

قال ابن كثير: هذه ثلاث صفات من صفات الرب عز وجل "الربوبية" و"الملك" و"الإِلهية" فهو ربُّ كل شيء ومليكه وإِلهه، وجميع الأشياء مخلوقة ومملوكة له، فأُمر المستعيذُ أن يتعوذ بالمتصف بهذه الصفات { مِن شَرِّ ٱلْوَسْوَاسِ } أي من شر الشيطان الذي يلقي حديث السوء في النفس، ويوسوس للإِنسان ليغريه بالعصيان { ٱلْخَنَّاسِ } الذي يخنس أن يختفي ويتأخر إِذا ذكر العبد ربه، فإِذا غفل عن الله عاد فوسوس له وفي الحديث "إِن الشيطان واضح خطمه - أنفه - على قلب ابن آدم، فإِذا ذكر الله خنس، وإِذا نسي الله التقم قلبه فوسوس" " { ٱلَّذِى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ ٱلنَّاسِ } أي الذي يلقي لشدة خبثه في قلوب البشر صنوف الوساوس والأوهام قال القرطبي: ووسوستُه هو الدعاء لطاعته بكلام خفي يصل مفهومه الى القلب من غير سماع صوت { مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ } { مِنَ } بيانية أي هذا الذي يوسوس في صدور الناس، هو من شياطين الجن والإِنس كقوله تعالى { شَيَاطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً } [الأنعام: 112] فالآية استعاذة من شر الإِنس والجن جميعاً، ولا شك أن شياطين الإِنس، أشدُّ فتكاً وخطراً من شياطين الجن، فإِن شيطان الجن يخنس بالاستعاذة، وشيطان الإِنس يزين له الفواحش ويغريه بالمنكرات، ولا يثنيه عن عزمه شيء، والمعصوم من عصمه الله.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البديع والبيان نوجزها فيما يلي:
1- الإِضافة للتشريف والتكريم { أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ } وفي الآيتين بعدها.
2- الأطناب بتكرار الاسم { رَبِّ ٱلنَّاسِ * مَلِكِ ٱلنَّاسِ* إِلَـٰهِ ٱلنَّاسِ } زيادة في التعظيم لهم، والاعتناء بشأنهم، ولو قال (ملكهم، إِلههَم) لما كان لهم هذا الشأن العظيم.
3- الطباق بين { ٱلْجِنَّةِ } و{ ٱلنَّاسِ }.
4- جناس الاشتقاق { يُوَسْوِسُ..و.. ٱلْوَسْوَاسِ } ثم ما في السورة من الجرس الموسيقي، الذي يفضل الألحان بعذوبة البيان، وذلك من خصائص القرآن.
تنبيه: عن عائشة رضي الله عنها قالت:
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا أوى إِلى فراشه جمع كفيه ونفث فيهما وقرأ { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } والمعوذتين، ثم مسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ برأسه ووجهه وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاثاً" .