التفاسير

< >
عرض

وَرَاوَدَتْهُ ٱلَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ ٱلأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ إِنَّهُ رَبِّيۤ أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّالِمُونَ
٢٣
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوۤءَ وَٱلْفَحْشَآءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُخْلَصِينَ
٢٤
وَٱسْتَبَقَا ٱلْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى ٱلْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوۤءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٢٥
قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ
٢٦
وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ
٢٧
فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ
٢٨
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَا وَٱسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ ٱلْخَاطِئِينَ
٢٩
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي ٱلْمَدِينَةِ ٱمْرَأَةُ ٱلْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٣٠
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ ٱخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَـٰذَا بَشَراً إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ
٣١
قَالَتْ فَذٰلِكُنَّ ٱلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَٱسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّن ٱلصَّاغِرِينَ
٣٢
قَالَ رَبِّ ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِيۤ إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ ٱلْجَاهِلِينَ
٣٣
فَٱسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
٣٤
ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ ٱلآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىٰ حِينٍ
٣٥
وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيۤ أَرَانِيۤ أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ ٱلآخَرُ إِنِّي أَرَانِيۤ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ
٣٦
قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيۤ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ
٣٧
وَٱتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـيۤ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِٱللَّهِ مِن شَيْءٍ ذٰلِكَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ
٣٨
يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ
٣٩
مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
٤٠
يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا ٱلآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ
٤١
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا ٱذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ ٱلشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي ٱلسِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ
٤٢
-يوسف

صفوة التفاسير

المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى ما أكرم به يوسف من الإِقامة في القصر مع عزيز مصر، ذكر هنا ما تعرّض له عليه السلام من أنواع الفتنة والإِغراء من زوجة العزيز، وصموده أمام تلك الفتنة العارمة، وما ظهر منه من العفة والنزاهة حتى آثر دخول السجن على عمل الفاحشة، وكفى بذلك برهاناً على عفته وطهارته.
اللغَة: { وَرَاوَدَتْهُ } المراودة: الطلب برفقٍ ولين مأخوذة من راد يرود إذا جاء وذهب ومنه الرائد لطلب الكلأ، يقال في الرجل: راودها عن نفسها، وفي المرأة راودته عن نفسه أي طلبت منه مضاجعتها { هَيْتَ } اسم فعل أمر بمعنى تعال وهلُمّ { مَثْوَايَ } مقامي، والثواء الإِقامة مع الاستقرار { هَمَّتْ } الهمُّ يأتي بمعنى العزم والقصد، ومنه
{ { وَهَمَّتْ كُـلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ } [غافر: 5] ويأتي بمعنى الخاطر وحديث النفس دون عزم قال الشاعر:

هممتُ بهمٍّ من بثينةَ لو بدا شفيتُ غليلاتِ الهوى من فؤاديا

فالهمُّ من امرأة العزيز كان هم عزمٍ وتصميم، والهمُّ من يوسف كان مجرد حديث نفس { ٱلسُّوۤءَ } المنكر، والفجور، والمكروه { وَٱلْفَحْشَآءَ } ما تناهى قبحه والمراد به الزنى { قَدَّتْ } القدُّ: الشق والقطع وأكثر ما يستعمل في الطول، والقطُّ يستعمل في العرض { أَلْفَيَا } وجدا { كَيْدِكُنَّ } الكيد: المكر والحيلة { ٱلْخَاطِئِينَ } المتعمدين للذنب قال الأصمعي: خطئ الرجل فهو خاطئ إذا تعمد الذنب، وأخطأ يخطئ إذا غلط ولم يتعمد { شَغَفَهَا حُبّاً } وصل حبه إلى سويداء قلبها قال الزجاج: الشغاف سويداء القلب { أَصْبُ } أملْ يقال: صبا إلى اللهو إذا مال إليه.
التفسِير: { وَرَاوَدَتْهُ ٱلَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ } هذه هي المحنة الثالثة بعد محنة الجب والاسترقاق، والمراودةُ الطلبُ برفقٍ ولين كما يفعل المخادع بكلامه المعسول المعنى: طلبت امرأة العزيز التي كان يوسف في بيتها منه أن يضاجعها، ودعته برفق ولين أن يواقعها، وتوسَّلت إليه بكل وسيلةٍ { وَغَلَّقَتِ ٱلأَبْوَابَ } أي غلّقت أبواب البيوت عليها وعلى يوسف وأحكمت إغلاقها قال القرطبي: كانت سبعة أبواب غلّقتها ثم دعته إلى نفسها { وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ } أي هلُمَّ وأسرع إلى الفراش فليس ثمة ما يُخشى قال في البحر: أمرته بأن يسرع إليها { قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ } أي عياذاً بالله من فعل السوء قال أبو السعود: وهذا إشارة إلى أنه منكر هائل يجب أن يعاذ بالله تعالى للخلاص منه، لما أراه الله من البرهان النيِّر على ما فيه من غاية القبح ونهاية السوء { إِنَّهُ رَبِّيۤ أَحْسَنَ مَثْوَايَ } أي إن زوجك هو سيدي العزيز الذي أكرمني وأحسن تعهدي فكيف أسيء إليه بالخيانة في حَرَمه؟ { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّالِمُونَ } أي لا يظفر الظالمون بمطالبهم، ومنهم الخائنون المُجازون الإِحسانَ بالسوء، ثم أخبر تعالى ان امرأة العزيز حاولت إيقاعه في شراكها، وتوسَّلت إليه بكل وسائل الإِغراء، ولولا أنَّ الله جلَّ وعلا حفظه من كيدها لهلك فقال { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } أي همَّت بمخالطته عن عزمٍ وقصدٍ وتصميم، عزماً جازماً على الفاحشة لا يصرفها عنها صارف، وقصدت إجباره على مطاوعتها بالقوة، بعد أن استحكمت من تغليق الأبواب، ودعوته إلى الإِسراع، مما اضطره إلى الهرب إلى الباب { وَهَمَّ بِهَا } أي مالت نفسه إليها بمقتضى الطبيعة البشرية، وحدثته نفسُه بالنزول عند رغبتها حديث نفسٍ، دون عزمٍ وقصد، فبين الهمين فرق كبير قال الإِمام الفخر: الهمُّ خطورُ الشيء بالبال أو ميلُ الطبع، كالصائم في الصيف يرى الماء البارد فتحمله نفسُه على الميل إليه وطلب شربه، ولكنْ يمنعه دينُه عنه { لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } جوابه محذوفٌ أي لولا حفظ الله ورعايتُه ليوسف، وعصمتُه له لخالطها وأمضى ما حدثته نفسه به، ولكنَّ الله عصمه بالحفظ والتأييد فلم يحصل منه شيءٌ البتَّة قال في البحر: نسب بعضُهم ليوسف ما لا يجوز نسبتُه لآحاد الفُسَّاق، والذي أختاره أن "يوسف" عليه السلام لم يقع منه همٌّ البتَّة، بل هو منفيٌّ لوجود رؤية البرهان كما تقول: "قارفتَ الذنبَ لولا أن عصمك الله" وكقول العرب: "أنتَ ظالمٌ إن فعلتَ" وتقديره: إن فعلتَ فأنتَ ظالم وكذلك هنا التقدير: لولا أن رأى برهان ربه لهمَّ بها ولكنه وجد رؤية البرهان فانتفى الهمُّ، وأمّا أقوال السلف فنعتقد أنه لا يصح عن أحدٍ منهم شيءٌ من ذلك، لأنها أقوالٌ متكاذبة يناقضُ بعضُها بعضاً مع كونها قادحة في بعض فساق الملل فضلاً عن المقطوع لهم بالعصمة وقال أبو السعود: إن همَّه بها بمعنى ميله إليها بمقتضى الطبيعة البشرية، ميلاً جبلياً، لا أنه قصدها قصداً اختيارياً، ألا يرى إلى ما سبق من استعصامه المنبئ عن كمال كراهيته له ونفرته عنه، وحكمه بعدم إفلاح الظالمين، وهل هو إلا تسجيلٌ باستحالة صدور الهمّ منه تسجيلاً محكماً؟ وما قيل: إنه حلَّ الهميان، وجلس مجلس الختان، فإنما هي خرافاتٌ وأباطيل، تمجها الآذان، وتردّها العقول والأذهان { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوۤءَ } أي ثبتناه على العفة أمام دوافع الفتنة والإِغراء لنصرف عنه المنكر والفجور، وهذه آيةٌ بيِّنة، وحجةٌ قاطعة على أنه عليه السلام لم يقع منه همٌّ بالمعصية، ولو كان كما زعموا لقال "لنصرفه عن السوء والفحشاء" فلما قال { لِنَصْرِفَ عَنْهُ } دلَّ على أن ذلك شيء خارج عن الإرادة فصرفه الله عنه، بما منحه من موجبات العفة والعصمة { وَٱلْفَحْشَآءَ } أي لنصرف عنه الزنى الذي تناهى قبحُه { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُخْلَصِينَ } بفتح اللام أي الذين أخلصهم الله لطاعته، واصطفاهم واختارهم لوحيه ورسالته، فلا يستطيع أن يغويهم الشيطان .. ثم أخبر تعالى بما حصل من المفاجأة العجيبة بقدوم زوجها وهما يتسابقان نحو الباب، ولا تزال هي في هياجها الحيواني { وَٱسْتَبَقَا ٱلْبَابَ } أي تسابقا نحو باب القصر، هو للهرب، وهي للطلب { وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ } أي شقت ثوبه من خلف لأنها كانت تلحقه فجذبته فشقت قميصه { وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى ٱلْبَابِ } أي وجدا العزيز عند باب القصر فجأة وقد حضر في غير أوان حضوره، وبمهارة فائقة تشبه مهارة إبليس انقلب الوضع فأصبح الظالم مظلوماً، والبريء متهماً { قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوۤءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي ما جزاؤه إلا السجن أو الضرب ضرباً مؤلماً وجيعاً { قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي } أي قال يوسف مكذباً لها: هي التي دعتني إلى مقارفة الفاحشة لا أني أردت بها السوء { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ } قال ابن عباس: كان طفلاً في المهد أنطقه الله، وكان ابن خالها قال في البحر: وكونُه من أهلها أوجب للحجة عليها، وأوثقُ لبراءة يوسف، وأنفى للتهمة { إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ } أي إن كان ثوبُه قد شُقَّ من أمام فهي صادقة وهو كاذب { وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ } أي وإن كان ثوبه قد شُقَّ من الوراء فهي كاذبة وهو صادق، لأن الأمر المنطقي أن يُشق الثوب من خلف إن كانت هي الطالبة له وهو الهارب { فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ } أي فلما رأى زوجها أن الثوب قد شُقَّ من الوراء { قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ } أي إن هذا الأمر من جملة مكركن واحتيالكنَّ أيتها النسوة { إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } تأكيد لما سبق ذكره أي مكركنَّ معشر النسوة واحتيالكنَّ للتخلص مما دبرتُنَّ شيءٌ عظيم { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَا } أي يا يوسف أكتم هذا الأمر ولا تذكره لأحد، يقول سيد قطب عليه الرحمة والرضوان: وهنا تبدو صورةٌ من "الطبقة الراقية" في المجتمع الجاهلي، رخاوةٌ في مواجهة الفضائح الجنسية، وميلٌ إلى كتمانها عن المجتمع، فيلتفت العزيز إلى يوسف البريء ويأمره بكتم الأمر وعدم إظهاره لأحد، ثم يخاطب زوجُه الخائن بأسلوب اللباقة في مواجهة الحادث الذي يثير الدم في العروق { وَٱسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ } أي توبي واطلبي المغفرة من هذا الذنب القبيح، وكأن هذا هو المهم محافظة على الظواهر { إِنَّكِ كُنتِ مِنَ ٱلْخَاطِئِينَ } أي من القوم المتعمدين للذنب، وفي هذا إشارة إلى أن العزيز كان قليل الغَيْرة حيث لم ينتقم ممن أرادت خيانته، وتدنيس فراشه بالإِثم والفجور قال ابن كثير: كان زوجها ليِّن العريكة سهلاً، أو أنه عذرها لأنها رأت ما لا صبر لها عنه { وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي ٱلْمَدِينَةِ } أي قال جماعة من النساء في مدينة مصر، روي أنهن خمس نسوة: امرأة ساقي العزيز، وامرأة الحاجب، وامرأة الخباز، وامرأة صاحب الدواب، وامرأة صاحب السجن قاله ابن عباس وغيره، والأظهر أن تلك الواقعة شاعت في البلد، واشتهرت وتحدث بها النساء { ٱمْرَأَةُ ٱلْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ } أي امرأة عزيز مصر تطلب من خادمها وعبدها أن يواقعها وتخادعه وتتوسل إليه لقضاء وطرها منه قال أبو حيان: وتصريحهن بإضافتها إلى العزيز مبالغة في التشنيع، لأن النفوس أميل لسماع أخبار ذوي الجاه، وعبَّرن بـ { تُرَاوِدُ } للدلالة على أن ذلك صار سجيَّةً لها فهي دائماً تخادعه عن نفسه لأن المضارع يفيد التجدد والاستمرار { قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً } أي بلغ حبُّه شَغَاف قلبها - وهو حجابه - وشقَّه حتى وصل إلى فؤادها { إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي إنا لنعتقد أنها في ضلال عن طريق الرشد واضح بسبب حبها إيّاه { فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ } أي فلما سمعت بحديثهن، وسماه مكراً لأنه كان في خفية، كما يخفي الماكر مكره { أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ } أي أرسلت إليهنَّ تدعوهنَّ إلى منزلها لحضور وليمة قال المفسرون: دعت أربعين امرأةً من الذوات منهن النساء الخمس المذكورات { وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً } أي هيأت لهنَّ ما يتكئن عليه من الفرش والوسائد { وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً } في الكلام محذوف أي قدمت لهن الطعام وأنواع الفاكهة ثم أعطت كل واحدةٍ منهنَّ سكيناً لتقطع به { وَقَالَتِ ٱخْرُجْ عَلَيْهِنَّ } أي وقالت ليوسف وهنَّ مشغولات بتقشير الفاكهة والسكاكين في أيديهن: اخرجْ عليهنَّ فلم يشعرن إلا ويوسف يمرُّ من بينهن { فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ } أي فلما رأين يوسف أعظمنْه وأجللنْه، وبُهتن من جماله ودُهشن { وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } أي جرحن أيديهن بالسكاكين لفرط الدهشة المفاجئة { وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ } أي تنزَّه الله عن صفات العجز، وتعالت عظمته في قدرته على خلق مثله { مَا هَـٰذَا بَشَراً } أي ليس هذا من البشر { إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } أي ما هو إلا مَلَك مِن الملائكة، فإن هذا الجمال الفائق، والحسن الرائع مما لا يكاد يوجد في البشر { قَالَتْ فَذٰلِكُنَّ ٱلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ } صرَّحت عند ذلك بما في نفسها من الحب ليوسف لأنها شعرت بأنها انتصرت عليهن فقالت قولة المنتصرة: هذا الذي رأيتموه هو ذلك العبد الكنعاني الذي لمتُنَّني في محبته، فانظرن ماذا لقيتنَّ منه من الافتتان والدهش والإِعجاب!! { وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَٱسَتَعْصَمَ } أي أردت أن أنال وطري منه، وأن أقضي شهوتي معه، فامتنع امتناعاً شديداً، وأبى إباءً عنيفاً قال الزمخشري: والاستعصام بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد { وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّن ٱلصَّاغِرِينَ } أي ولئن لم يطاوعني ليعاقبنَّ بالسجن والحبس وليكوننَّ من الأذلاء المهانين قال القرطبي: عاودته المراودة بمحضر منهنَّ، وهتكتْ جلباب الحياء، وتوعدتْ بالسجن إن لم يفعل، ولم تعد تخشى لوماً ولا مقالاً، خلاف أول أمرها إذ كان ذلك سراً بينها وبينه { قَالَ رَبِّ ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِيۤ إِلَيْهِ } لجأ يوسف إلى ربه وجعل يناجيه في خشوع وتضرع فقال: ربّ السجن آثرُ عندي وأحبُّ إلى نفسي من اقتراف الفاحشة، وأسند الفعل إليهن لأنهن جميعاً مشتركات في الدعوة بالتصريح أو التلويح، وقيل إنها لما توعدته نصحته وزيَّن له مطاوعتها، ونهينه عن إلقاء نفسه في السجن { وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ } أي وإن لم تدفع عني شرهن وتعصمني منهن { أَصْبُ إِلَيْهِنَّ } أي أملْ إلى إجابتهن بمقتضى البشرية { وَأَكُن مِّنَ ٱلْجَاهِلِينَ } أي بسبب ما يدعونني إليه من القبيح، وهذا كله على سبيل التضرع والاستغاثة بجناب الله تعالى كعادة الأنبياء والصالحين { فَٱسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ } أي أجاب الله دعاءه فنجّاه من مكرهن، وثبَّته على العصمة والعفة { إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ } أي لدعاء الملتجئين إليه { ٱلْعَلِيمُ } بأحوالهم وما انطوت عليه نياتهم .. وهكذا اجتاز يوسف محنته الثالثة بلطف الله ورعايته { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ ٱلآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىٰ حِينٍ } هذه بداية المحنة الرابعة وهي الأخيرة من محن الشدة في حياة يوسف الصّديق وهي "محنة السجن" وكل ما بعدها فرخاء والمعنى ثم ظهر للعزيز وأهله ومن استشارهم بعد الدلائل القاطعة على براءة يوسف، سجنه إلى مدة من الزمن غير معلومة، روي ان امرأة العزيز لما استعصى عليها يوسف وأيست منه، احتالت بطريق آخر، فقالت لزوجها: إن هذا العبد العبراني قد فضحني في الناس يقول لهم: إني راودته عن نفسه وأنا لا أقدر على إظهار عذري، فإما أن تأذن لي فأخرج وأعتذر، وإما أن تحبسه، فعند ذلك بدا له سجنه قال ابن عباس: فأمر به فحمل على حمار، وضُرب بالطبل، ونُودي عليه في أسواق مصر، إن يوسف العبراني أراد سيدته فجزاؤه أن يسجن، قال أبو صالح ما ذكر ابن عباس هذا الحديث إلى بكى { وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجْنَ فَتَيَانِ } أي أُدخل يوسف السجن واتفق أنه أُدخل حينئذٍ آخران من خدم الملك الخاص أحدهما خبازه، والآخر ساقيه، أُتهما بأنهما أرادا أن يسماه فحبسهما { قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيۤ أَرَانِيۤ أَعْصِرُ خَمْراً } أي قال الساقي إني رأيت في المنام أني أعصر عنباً يئول إلى خمر وأسقي منه الملك { وَقَالَ ٱلآخَرُ إِنِّي أَرَانِيۤ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِنْهُ } أي وقال الخباز: إني رأيت في منامي أني أحمل على رأسي طبقاً فيه خبز، والطيرُ تأكل من ذلك الخبز { نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } أي أخبرنا بتفسير ما رأينا إنا نراك من الذين يحسنون تفسير الرؤيا، أخبراه عن رؤياهما لما علما أنه يجيد تفسير الرؤيا { قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا } أي لا يأتيكما شيء من الطعام إلا أخبرتكما ببيان حقيقته وماهيته وكيفيته قبل أن يصل إليكما، أخبرهما بمعجزاته ومنها معرفة "المغيبات" توطئةً لدعائهما إلى الإِيمان قال البيضاوي: أراد أن يدعوهما إلى التوحيد ويرشدهما إلى الدين القويم قبل أن يسعفهما إلى ما سألاه عنه، كما هو طريقة الأنبياء في الهداية والإِرشاد، فقدَّم ما يكون معجزة له من الإِخبار بالغيب ليدلهما على صدقه في الدعوة والتعبير { ذٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيۤ } إن ذلك الإِخبار بالمغيبات ليس بكهانة ولا تنجيم، وإنما هو بإلهامٍ ووحيٍ من الله { إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ } أي خصني ربي بذلك العلم لأني من بيت النبوة وقد تركت دين قومٍ مشركين لا يؤمنون بالله { وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } أي يكذبون بيوم القيامة، نبّه على أصلين عظيمين: الإِيمان بالله، والإِيمان بدار الجزاء، إذ هما أعظم أركان الإيمان، وكرر لفظه { هُمْ } على سبيل التأكيد { وَٱتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـيۤ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } أي اتبعت دين الأنبياء، لا دين أهل الشرك والضلال، والغرضُ إظهار أنه من بيت النبوة، لتقوى رغبتهما في الاستماع إليه والوثوق بكلامه { مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِٱللَّهِ مِن شَيْءٍ } أي ما ينبغي لنا معاشر الأنبياء أن نشرك بالله شيئاً مع اصطفائه لنا وإنعامه علينا { ذٰلِكَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى ٱلنَّاسِ } أي ذلك الإيمان والتوحيد من فضل الله علينا حيث أكرمنا بالرسالة، وعلى الناس حيث بعث الرسل لهدايتهم وإرشادهم { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } أي لا يشكرون فضل الله عليهم فيشركون به غيره ... ولما ذكر عليه السلام ما هو عليه من الدين الحنيف الذي هو دين الرسل، تلطَّفَ في حسن الاستدلال على فساد ما عليه قوم الفتيين من عبادة الأصنام فقال { يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ } أي يا صاحبيَّ في السجن أآلهة متعددة لا تنفع ولا تضر ولا تستجيب لمن دعاها كالأصنام، خيرٌ أم عبادة الواحد الأحد، المتفرد بالعظمة والجلال؟! { مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ } أي ما تعبدون يا معشر القوم من دون الله إلا أسماءً فارغة سميتموها آلهة وهي لا تملك القدرة والسلطان لأنها جمادات { مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ } أي ما أنزل الله لكم في عبادتها من حجة أو برهان { إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ } أي ما الحكم في أمر العبادة والدين إلا لله رب العالمين { أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ } أي أمر سبحانه بإفراد العبادة له، لأنه لا يستحقها إلا من له العظمة والجلال { ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ } أي ذلك الذي أدعوكم إليه من إخلاص العبادة لله هو الدين القويم الذي لا اعوجاج فيه { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } أي يجهلون عظمة الله فيعبدون ما لا يضر ولا ينفع .. تدرّج عليه السلام في دعوتهم وألزمهم الحجة بأن بيَّن لهم أولاً رجحان التوحيد على اتخاذ الآلهة المتعددة، ثم برهن على أن ما يسمونها آلهة ويعبدونها من دون الله لا تستحق الألوهية والعبادة، ثم نصَّ على ما هو الحق القويم والدين المستقيم وهو عبادة الواحد الأحد الفرد الصمد، وذلك من الأسلوب الحكيم في الدعوة إلى الله، حيث قدَّم الهداية والإِرشاد، والنصيحة والموعظة، ثم شرع في تفسير رؤياهما فقال { يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا ٱلآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ } أي يا صاحبيَّ في السجن أمّا الذي رأى أنه يعصر خمراً فيخرج من السجن ويعود إلى ما كان عليه من سقى سيده الخمر، وأمّا الآخر الذي رأى على رأسه الخبز فيُقتل ويُعلَّق على خشبة فتأكل الطير من لحم رأسه، قال المفسرون: روى أنه لما أخبرهما بذلك جحدا وقالا ما رأينا شيئاً فقال { قُضِيَ ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } أي انتهى وتمَّ قضاء الله صدقتما أو كذبتما فهو واقع لا محالة { وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا } أي قال يوسف للذي اعتقد نجاته وهو الساقي { ٱذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ } أي اذكرني عند سيّدك وأخبره عن أمري لعلّه يخلصني ممّا ظُلمتُ به { فَأَنْسَاهُ ٱلشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } أي أنسى الشيطان الساقي أن يذكر أمر يوسف للملك { فَلَبِثَ فِي ٱلسِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ } أي مكث يوسف في السجن سبع سنين، قال المفسرون: وإنما لبث في السجن بضع سنين، لأنه اعتمد ووثق بالمخلوق، وغفل أن يرفع حاجته إلى الخالق جل وعلا قال القرطبي: قال وهب ابن منبه: أقام أيوب في البلاء سبع سنين، وأقام يوسف في السجن سبع سنين.
البَلاَغة: 1- بين { صَدَقَتْ } و{ كَذَبَتْ } و{ الصَّادِقِينَ } و{ الكَاذِبِينَ } طباقٌ وهو من المحسنات البديعية.
2- { مِنَ ٱلْخَاطِئِينَ } من باب تغليب الذكور على الإِناث.
3- { سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ } استعير المكر للغيبة لشبهها له في الإِخفاء.
4- { وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } كذلك فيه استعارة حيث استعار لفظ القطع عن الجرح أي جرحن أيديهن.
5- { أَعْصِرُ خَمْراً } مجاز مرسل باعتبار ما يكون أي عنباً يئول إلى خمر.
فَائِدَة: روي أن جبريل جاء إلى يوسف وهو في السجن معاتباً له فقال له: يا يوسف من خلصك من القتل من أيدي إخوتك؟ قال: الله تعالى، قال: فمن أخرجك من الجب؟ قال: الله تعالى، قال: فمن عصمك من الفاحشة؟ قال: الله تعالى، قال: فمن صرف عنك كيد النساء؟ قال: الله تعالى، قال: فكيف تركتَ ربك فلم تسأله ووثقت بمخلوق!؟ قال: يا رب كلمةٌ زلَّتْ مني أسألك يا إله إبراهيم وآله والشيخ يعقوب عليهم السلام أن ترحمني فقال له جبريل: فإن عقوبتك أن تلبث في السجن بضع سنين.
تنبيه: قال العلماء في قوله تعالى { وَٱسْتَبَقَا ٱلْبَابَ } هذا من اختصار القرآن المعجز، الذي يجمع المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة، وذلك أنها لما راودته عن نفسه وأبى، عزمت على أن تجبره بالقسر والإِكراه، فهرب منها فتسابقا نحو الباب هي لترده إلى نفسها وهو يهرب منها فاختصر القرآن ذلك كله بتلك العبارة البليغة { وَٱسْتَبَقَا ٱلْبَابَ }.
(شطحات بعض المفسرين في تفسير الهمّ)
لقد شطَّ القلم، وزلقت القدم ببعض المفسرين حين زعموا أن يوسف عليه السلام قد همَّ بمقارفة الفاحشة، وشُحنت بعضُ كتب التفسير بكثير من الروايات الإِسرائيلية الواهية، بل المنكرة الباطلة في تفسير "الهمّ" و "البرهان" حتى زعم بعضهم أن يوسف حلَّ رباط السروال، وجلس منها مجلس الرجل من امرأته، ثم رأى صورة أبيه "يعقوب" عاضاً على أصبعه، فقام عنها وتركها خجلاً من أبيه إلى غير ما هنالك من أقوال واهية، لا زمام لها ولا خطام. ولستُ أدري كيف دخلت تلك الروايات المنكرة إلى بعض كتب التفسير، وتقبّلها بعضهم بقبول حسن، وكلُّها - كما يقول العلامة أبو السعود - خرافات وأباطيل، تمجّها الآذان، وتردها العقول والأذهان!؟ ثم كيف غاب عن أولئك المفسرين أن "يوسف الصدّيق" نبيٌ كريم، ابن نبيٍ كريم، وأن العصمة من صفات الأنبياء!! يا قوم اعقلوا وفكروا، ونزّهوا هذه الكتب عن أمثال هذه التَّرهات والأباطيل، فإن الزنى جريمة من أبشع الجرائم فكيف يرتكبها نبيٌ من الأنبياء المكرمين؟ وهاكم الأدلة أسوقها من كتاب الله فقط على عصمته عليه السلام من عشرة وجوه:
الأول: امتناعه الشديد ووقوفُه أمامها بكل صلابه وعزم { قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ إِنَّهُ رَبِّيۤ أَحْسَنَ مَثْوَايَ.. }.
الثاني: فراره منها بعد أن غلَّقت الأبواب وشدّدت عليه الحصار { وَٱسْتَبَقَا ٱلْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ... }.
الثالث: إيثاره السجن على الفاحشة { قَالَ رَبِّ ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِيۤ إِلَيْهِ... }.
الرابع: ثناء الله تعالى عليه في مواطن عديدة { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُخْلَصِينَ }
{ { آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً } [يوسف: 22] فهل يكون مخلصاً لله من همَّ بفاحشة الزنى؟.
الخامس: شهادة الطفل الذي أنطقه الله وهو في المهد بالحجة الدامغة { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ... } الآية.
السادس: اعتراف امرأة العزيز ببراءته وعفته { وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَٱسَتَعْصَمَ... }.
السابع: استغاثته بربه لينجيه من كيد النساء { فَٱسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ.. }.
الثامن: ظهور الأمارات الواضحة والبراهين الساطعة على براءته وإِدخالِهِ السجن لدفع مقالة الناس { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ ٱلآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىٰ حِينٍ }.
التاسع: عدم قبوله الخروج من السجن حتى تبرأ ساحته من التهمة { ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ ٱلنِّسْوَةِ ٱللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ... }؟.
العاشر: الاعتراف الصريح من امرأة العزيز والنسوة ببراءته { قَالَتِ ٱمْرَأَتُ ٱلْعَزِيزِ ٱلآنَ حَصْحَصَ ٱلْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّادِقِينَ }. وكفى بذلك برهاناً على عفته ونزاهته!! والله يقول الحقَّ وهو يهدي السبيل.