التفاسير

< >
عرض

ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْعَظِيمُ
٢٥٥
لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ لاَ ٱنفِصَامَ لَهَا وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
٢٥٦
ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَاتِ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
٢٥٧
-البقرة

صفوة التفاسير

المنَاسَبَة: لمّا ذكر تعالى تفضيل بعض الأنبياء على بعض، وبيّن أن الخلائق قد اختلفوا من بعدهم وتنازعوا وتقاتلوا بسبب الدين، ذكر أن هذا التفضيل بين الأنبياء لا يستدعي الصراع بين الأتباع ولا الخصام والنزاع، فالرسل صلوات الله عليهم وإِن كانوا متفاوتين في الفضل إِلا أنهم جميعاً جاءوا بدعوةٍ واحدة هي "دعوة التوحيد" فرسالتهم واحدة ودينهم واحد، وأنه لا إِكراه في الدين فقد سطع نور الحق وأشرق ضياؤه.
اللغَة: { ٱلْحَيُّ } ذو الحياة الكاملة ومعناه الباقي الدائم الذي لا سبيل للفناء عليه { ٱلْقَيُّومُ } القائم بتدبير الخلق { سِنَةٌ } بكسر السين النعاس وهو ما يسبق النوم من فتور قال الشاعر:

وسنان أقصده النعاس فرنَّقت في عينه سِنةٌ وليس بنائم

{ يَؤُودُهُ } يثقله ويتعبه { ٱلْعَلِيُّ } المراد علو المنزلة والشأن الذي تعالى في جلاله وعظم في سلطانه { إِكْرَاهَ } الإِكراه: حمل الشخص على ما يكره بطريق القسر والجبر { ٱلطَّاغُوتُ } من الطغيان وهو كل ما يطغي الإِنسان ويضله عن طريق الحقِ والهدى { ٱلْوُثْقَىٰ } مؤنث الأوثق وهو الشيء المحكم الموثق { ٱنفِصَامَ } الانفصام: الانكسار قال الفراء: الانفصام والانقصام لغتان وبالفاء أفصح وقال بعضهم: الفصم انكسار بغير بينونة والقصم انكسار ببينونة.
سَبَبُ النّزول: كان لرجلٍ من الأنصار ابنان تنصّرا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ثم قدما المدينة في نفرٍ من التجار يحملون الزيت، فلزمهما أبوهما وقال: لا أدعكما حتى تسلما فنزلت { لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ }. الآية.
التفسِير: { ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ } أي هو الله جل جلاله الواحد الأحد الفرد الصمد، ذو الحياة الكاملة، الباقي الدائم الذي لا يموت، القائم على تدبير شئون الخلق بالرعاية والحفظ والتدبير { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } أي لا يأخذه نعاسٌ ولا نوم كما ورد في الحديث
"إنَّ الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه" ، { لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } أي جميع ما في السماوات والأرض ملكه وعبيده وتحت قهره وسلطانه { مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } أي لا أحد يستطيع أن يشفع لأحد إِلا إِذا أذن له الله تعالى قال ابن كثير: وهذا بيانٌ لعظمته وجلاله وكبريائه بحيث لا يتجاسر أحد على الشفاعة إِلا بإِذن المولى { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } أي يعلم ما هو حاضر مشاهد لهم وهو الدنيا وما خلفهم أي أمامهم وهو الآخرة فقد أحاط علمه بالكائنات والعوالم { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ } أي لا يعلمون شيئاً من معلوماته إِلا بما أعلمهم إِيّاه على ألسنة الرسل { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ } أي أحاط كرسيّه بالسماوات والأرض لبسطته وسعته، والسماواتُ السبع والأرضون بالنسبة للكرسي كحلقةٍ ملقاةٍ في فلاة، وروي عن ابن عباس { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ } قال: علمه بدلالة قوله تعالى { { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً } [غافر: 7] فأخبر أن علمه وسع كل شيء وقال الحسن البصري: الكرسي هو العرش قال ابن كثير: والصحيح أن الكرسي غير العرش وأن العرش أكبر منه كما دلت على ذلك الآثار والأخبار { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْعَظِيمُ } أي لا يثقله ولا يعجزه حفظ السماوات والأرض ومن فيهما وهو العلي فوق خلقه ذو العظمة والجلال كقوله { { ٱلْكَبِيرُ ٱلْمُتَعَالِ } [الرعد: 9] { لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ } أي لا إِجبار ولا إِكراه لأحد على الدخول في دين الإِسلام، فقد بان ووضح الحق من الباطل والهدى من الضلال { فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ } أي من كفر بما يعبد من غير الله كالشيطان والأوثان وآمن بالله فقد تمسك من الدين بأقوى سبب { لاَ ٱنفِصَامَ لَهَا } أي لا انقطاع لها ولا زوال { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي سميع لأقوال عباده عليم بأفعالهم { ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } أي الله ناصر المؤمنين وحافظهم ومتولي أمورهم، يخرجهم من ظلمات الكفر والضلالة إِلى نور الإِيمان والهداية { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَاتِ } أي وأما الكافرون فأولياؤهم الشياطين يخرجونهم من نور الإِيمان إِلى ظلمات الشك والضلال { أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أي ماكثون في نار جهنم لا يخرجون منها أبداً.
البَلاَغَة: 1- في آية الكرسي أنواعٌ من الفصاحة وعلم البيان منها حسنُ الافتتاح لأنها افتتحت بأجل أسماء الله تعالى، وتكرار اسمه ظاهراً ومضمراً في ثمانية عشر موضعاً، والإِطناب بتكرير الصفات، وقطعُ الجمل حيث لم يصلها بحرف العطف، والطباقُ في { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } أفاده صاحب البحر المحيط.
2- { ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ } استعارة تمثيلية حيث شبه المستمسك بدين الإِسلام بالمستمسك بالحبل المحكم، وعدم الانفصام ترشيحٌ.
3- { مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } استعارة تصريحية حيث شبه الكفر بالظلمات والإِيمان بالنور قال في تلخيص البيان: وذلك من أحسن التشبيهات لأن الكفر كالظلمة التي يتسكع فيها الخابط ويضل القاصد، والإِيمان كالنور الذي يؤمه الجائر ويهتدي به الحائر، وعاقبة الإِيمان مضيئة بالنعيم والثواب، وعاقبةُ الكفر مظلمة بالجحيم والعذاب.
فَائِدَة: أفرد النور وجمع الظلمات لأن الحق واحد لا يتعدد وأما طرق الضلال فكثيرة ومتشعبة.
تنبيه: آية الكرسي لها شأن عظيم وقد صحّ الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها أفضل آية في كتاب الله وفيها اسم الله الأعظم كما جاء في الحديث الشريف:
"اسم الله الأعظم الذي إِذا دُعى به أجاب في ثلاث: سورة البقرة وآل عمران وطه" قال هشام: أما البقرة فقوله { ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ } وفي آل عمران { { الۤمۤ * ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ } [الآيات: 1 - 2] وفي طه { { وَعَنَتِ ٱلْوُجُوهُ لِلْحَيِّ ٱلْقَيُّومِ } [الآية: 111] قال ابن كثير: وقد اشتملت على عشر جملٍ مستقلة، متعلقة بالذات الإِلهية وفيها تمجيد الواحد الأحد.