التفاسير

< >
عرض

أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ ٱلْكِتَٰبَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
٤٤
وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَٰوةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَٰشِعِينَ
٤٥
ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـٰقُواْ رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ
٤٦
يَٰبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِي ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَٰلَمِينَ
٤٧
وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَٰعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ
٤٨
-البقرة

صفوة التفاسير

اللغَة: { بِٱلْبِرِّ } البِرُّ: سعة الخير والمعروف ومنه البرُّ والبِّرية للسعة، وهو اسم جامع لأعمال الخير، ومنه بر الوالدين وهو طاعتهما وفي الحديث "البِرُّ لا يبلى والذنب لا ينسى" { وَتَنْسَوْنَ }: تتركون والنسيان يأتي بمعنى الترك كقوله { { نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [التوبة: 67] وهو المراد هنا ويأتي بمعنى ذهاب الشيء من الذاكرة كقوله { { فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [طه: 115] { تَتْلُونَ }: تقرءون وتدرسون { ٱلْخَاشِعِينَ } الخاشع: المتواضع وأصله من الاستكانة والذل قال الزجاج: الخاشع الذي يُرى أثر الذل والخشوع عليه، وخشعت الأصوات: سكنت { يَظُنُّونَ } الظنُّ هنا بمعنى اليقين لا الشك، وهو من الأضداد قال أبو عبيدة: العرب تقول لليقين ظنٌّ، وللشك ظن وقد كثر استعمال الظن بمعنى اليقين ومنه { { إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ } [الحاقة: 20] { { فَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا } [الكهف: 53]، { شَفَاعَةٌ } الشفاعة مأخوذة من الشَّفع ضد الوتر، وهي ضم غيرك إِلى جاهك ووسيلتك ولهذا سميت شفاعة، فهي إِذاً إِظهارٌ لمنزلة الشفيع عند المشفّع { عَدْلٌ } بفتح العين فداء وبكسرها معناه: المِثْل يقال: عِدْل وعديل للذي يماثلك.
المنَاسَبَة: لا تزال الآيات تتحدث عن بني إِسرائيل، وفي هذه الآيات ذمٌ وتوبيخ لهم على سوء صنيعهم، حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، ويدعون الناس إِلى الهدى والرشاد ولا يتبعونه.
سَبَبُ النّزول: نزلت هذه الآية في بعض علماء اليهود، كانوا يقولون لأقربائهم الذين أسلموا: اثبتوا على دين محمد فإِنه حق، فكانوا يأمرون الناس بالإِيمان ولا يفعلونه.
التفسِير: يخاطب الله أحبار اليهود فيقول لهم على سبيل التقريع والتوبيخ { أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ } أي أتدعون الناس إِلى الخير وإِلى الإِيمان بمحمد { وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } أي تتركونها فلا تؤمنون ولا تفعلون الخير { وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ ٱلْكِتَابَ } أي حال كونكم تقرءون التوراة وفيها صفة ونعت محمد عليه السلام { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أي أفلا تفطنون وتفقهون أن ذلك قبيح فترجعون عنه؟! ثم بيَّن لهم تعالى طريق التغلب على الأهواء والشهوات، والتخلص من حب الرياسة وسلطان المال فقال { وَٱسْتَعِينُواْ } أي اطلبوا المعونة على أموركم كلها { بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلاَةِ } أي بتحمل ما يشق على النفس من تكاليف شرعية، وبالصلاة التي هي عماد الدين { وَإِنَّهَا } أي الصلاة { لَكَبِيرَةٌ } أي شاقة وثقيلة { إِلاَّ عَلَى ٱلْخَاشِعِينَ } أي المتواضعين المستكينين الذين صفت نفوسهم لله { ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ } أي يعتقدون اعتقاداً جازماً لا يخالجه شك { أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمْ } أي سيلقون ربهم يوم البعث فيحاسبهم على أعمالهم { وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } أي معادهم إِليه يوم الدين. ثم ذكّرهم تعالى بنعمه وآلائه العديدة مرة أخرى فقال { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِي ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } بالشكر عليها بطاعتي { وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ } أي فضلت آباءكم { عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } أي عالمي زمانهم بإِرسال الرسل، وإِنزال الكتب، وجعلهم سادة وملوكاً، وتفضيل الآباء شرفٌ للأبناء { وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً } أي خافوا ذلك اليوم الرهيب الذي لا تقضي فيه نفسٌ عن أخرى شيئاً من الحقوق { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ } أي لا تقبل شفاعة في نفس كافرة بالله أبداً { وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } أي لا يقبل منها فداء { وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ } أي ليس لهم من يمنعهم وينجيهم من عذاب الله.
البَلاَغَة: أولاً: { أَتَأْمُرُونَ } الاستفهام خرج عن حقيقته إِلى معنى التوبيخ والتقريع.
ثانياً: أتى بالمضارع { أَتَأْمُرُونَ } وإِن كان قد وقع ذلك منهم لأن صيغة المضارع تفيد التجدد والحدوث، وعبّر عن ترك فعلهم بالنسيان { وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } مبالغة في الترك فكأنه لا يجري لهم على بال، وعلقه بالأنفس توكيداً للمبالغة في الغفلة المفرطة، ولا يخفى ما في الجملة الحالية { وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ ٱلْكِتَابَ } من التبكيت والتقريع والتوبيخ.
ثالثاً: { وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } هو من باب عطف الخاص على العام لبيان الكمال، لأن النعمة اندرج تحتها التفضيل المذكور، فلما قال
{ { ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ } [البقرة: 40] عمَّ جميع النعم فلما عطف { وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ } كان من باب عطف الخاص على العام.
رابعاً: { وَٱتَّقُواْ يَوْماً } التنكير للتهويل أي يوماً شديد الهول، وتنكير النفس { نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ } ليفيد العموم والاقناط الكلي.
الفوَائِدَ: الفائدة الأولى: قال القرطبي: إِنما خص الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات تنويهاً بذكرها وقد كان عليه السلام إِذ حزبه (أغمّه) أمرٌ فَزَع إلى الصلاة، وكان يقول:
"أرحنا بها يا بلال"
). الثانية: قال علي كرم الله وجهه: "قصم ظهري رجلان: عالم متهتك، وجاهل متنسك" ومن دعا غيره إِلى الهدى ولم يعمل به كان كالسراج يضيء للناس ويحرق نفسه قال الشاعر:

ابدأْ بنفسك فانهها عن غيّهافإِذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل إِن وعظتَ ويقتدى بالرأي منك وينفع التعليم

وقال أبو العتاهية:

وصفتَ التُّقَى حتَّى كأَنَّك ذو تُقَى وريحُ الخطايا من ثيابك تَسْطَع

وقال آخر:

وغيرُ تَقيٍّ يأْمر النَّاسَ بالتُّقَى طَبيبٌ يداوي النَّاس وهُوَ عليل