التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ
١
يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٌ
٢
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ
٣
كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ
٤
يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي ٱلأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوۤاْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى ٱلأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ
٥
ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٦
وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي ٱلْقُبُورِ
٧
ومِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ
٨
ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ
٩
ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّٰمٍ لِّلعَبِيدِ
١٠
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ٱطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ٱنْقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ ٱلدُّنْيَا وَٱلأَخِرَةَ ذٰلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ
١١
يَدْعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ ذٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلاَلُ ٱلْبَعِيدُ
١٢
يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ ٱلْمَوْلَىٰ وَلَبِئْسَ ٱلْعَشِيرُ
١٣
إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جَنَاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ
١٤
مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى ٱلسَّمَآءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ
١٥
وَكَذٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ
١٦
إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّابِئِينَ وَٱلنَّصَارَىٰ وَٱلْمَجُوسَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
١٧
أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ
١٨
-الحج

صفوة التفاسير

اللغَة: { زَلْزَلَةَ } الزلزلة: شدة الحركة وأصل الكلمة من زلَّ عن الموضع أي زال عنه وتحرك، وزلزل الله قدمه أي حركها، وهذه اللفظة تستعمل في تهويل الشيء { تَذْهَلُ } ذهل عن الشيء اشتغل عنه بشاغل من هم أو وجع أو غيره { مُّضْغَةٍ } المضغة: اللحمة الصغيرة قدر ما يُمضغ { مُّخَلَّقَةٍ } تامة الخِلْقة { بَهِيجٍ } حسن سار للناظر { عِطْفِهِ } العطف: الجانب ومنه قولهم : فلان ينظر في أعطافه أي في جوانبه ويسمى الرداء العِطاف والمعطف لأنه يوضع على الجانبين { ٱلْعَشِيرُ } الصاحب والخليل.
التفسِير: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ } خطاب لجميع البشر أي خافوا عذاب الله وأطيعوه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وجماع القول في التقوى هو: طاعةُ الله واجتناب محارمه ولهذا قال بعض العلماء: التقوى أن لا يراك حيث نهاك، وأن لا يفقدك حيث أمرك { إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } تعليلٌ للأمر بالتقوى أي إن الزلزال الذي يكون بين يدي الساعة أمر عظيم وخطب جسيم لا يكاد يتصور لهوله { يَوْمَ تَرَوْنَهَا } أي في ذلك اليوم العصيب الذي تشاهدون فيه تلك الزلزلة وترون هول مطلعها { تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ } أي تغفل وتذهل - مع الدهشة وشدة الفزع - كل أنثى مرضعة عن رضيعها، إذ تنزع ثديها من فم طفلها وتنشغل - لهول ما ترى - عن أحب الناس إليها وهو طفلها الرضيع { وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَارَىٰ } أي تراهم كأنهم سكارى يترنحون ترنح السكران من هول ما يدركهم من الخوف والفزع { وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ } أي وما هم على الحقيقة بسكارى من الخمر { وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٌ } استدراك لما دهاهم أي ليسوا بسكارى ولكن أهوال الساعة وشدائدها أطارت عقولهم وسلبت أفكارهم فهم من خوف عذاب الله مشفقون { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي وبعضٌ من الناس من يخاصم وينازع في قدرة الله وصفاته بغير دليل ولا برهان ويقول ما لا خير فيه من الأباطيل قال المفسرون: نزلت في النضر بن الحارث وكان جدلاً يقول الملائكة بناتُ الله، والقرآن أساطير الأولين، ولا بعث بعد الموت قال أبو السعود: والآية عامة له ولأضرابه من العُتاة المتمردين { وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ } أي يطيع ويقتدي بكل عاتٍ متمرد كرؤساء الكفر الصادّين عن الحق { كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ } أي حكم الله وقضى أنه من تولى الشيطان واتخذه ولياً { فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ } أي فأن الشيطان يغويه ويسوقه إلى عذاب جهنم المستعرة، وعبر بلفظ { وَيَهْدِيهِ } على سبيل التهكم، ولما ذكر تعالى المجادلين في قدرة الله، المنكرين للبعث والنشور ذكر دليلين واضحين على إمكان البعث أحدهما في الإِنسان، والثاني في النبات فقال { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ } أي إن شككتم في قدرتنا على إحيائكم بعد موتكم فانظروا في أصل خلقكم ليزول ريبكم فقد خلقنا أصلكم "آدم" من التراب، ومن قدر على خلقكم أول مرة قادر على أن يعيدكم ثاني مرة، والذي قدر على إخراج النبات من الأرض، بعد موتها قادر على أن يخرجكم من قبوركم { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } أي ثم جعلنا نسله من المني الذي ينطف من صلب الرجل قال القرطبي: والنطف: القطر سمي نطفة لقلته { ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ } وهو الدم الجامد الذي يشبه العلقة التي تظهر حول الأحواض والمياه { ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ } أي من قطعة من لحم مقدار ما يمضغ { مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } أي مستبينة الخلق مصورة وغير مصورة قال ابن زيد: المخلقة التي خلق الله فيها الرأس واليدين والرجلين، وغير مخلقة التي لم يخلق فيها شيء { لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ } أي خلقناكم على هذا النموذج البديع لنبين لكم أسرار قدرتنا وحكمتنا قال الزمخشري: أي لنبين لكم بهذا التدريج قدرتنا، وأن من قدر على خلق البشر من تراب أولا، ثم من نطفة ثانياً، ولا تناسب بين التراب والماء، وقدر على أن يجعل النطفة علقة وبينهما تباين ظاهر، ثم يجعل العلقة مضغة والمضغة عظاماً، قادر على إعادة ما بدأه، بل هذا أدخل في القدرة وأهون في القياس { وَنُقِرُّ فِي ٱلأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ } أي ونثبت من الحمل في أرحام الأمهات من أردنا أن نُقرَّه فيها حتى يتكامل خلقه { إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } أي إلى زمن معين هو وقت الوضع { ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } أي ثم نخرج هذا الجنين طفلاً ضعيفاً في بدنه وسمعه وبصره وحواسه، ثم نعطيه القوة شيئاً فشيئاً { ثُمَّ لِتَبْلُغُوۤاْ أَشُدَّكُمْ } أي كمال قوتكم وعقلكم { وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ } أي ومنكم من يموت في ريعان شبابه { وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ } أي ومنكم من يعمر حتى يصل إلأى الشيخوخة والهرم وضعف القوة والخرف { لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً } أي ليعود إلى ما كان عليه في أوان الطفولة من ضعف البنية، وسخافة العقل، وقلة الفهم، فينسى ما علمه وينكر ما عرفه ويعجز عما قدر عليه كما قال تعالى
{ وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّـسْهُ فِي ٱلْخَلْقِ } [يس: 68] { وَتَرَى ٱلأَرْضَ هَامِدَةً } هذه هي الحجة الثانية على إمكان البعث أي وترى أيها المخاطب أو أيها المجادل الأرض يابسةً ميتة لا نبات فيها { فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ } أي فإذا أنزلنا عليها المطر تحركت بالنبات وانتفخت وزادت وحييت بعد موتها { وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } أي وأخرجت من كل صنفٍ عجيب ما يسر الناظر ببهائه ورونقه { ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ } أي ذلك المذكور من خلق الإِنسان والنبات لتعلموا أن الله هو الخالق المدبر وأن ما في الكون من آثار قدرته وشاهد بأن الله هو الحق { وَأَنَّهُ يُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ } أي وبأنه القادر على إحياء الموتى كما أحيا الأرض الميتة بالنبات { وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي وبأنه قادر على ما أراد { وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا } أي وليعلموا أن الساعة كائنة لا شك فيها ولا مرية { وَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي ٱلْقُبُورِ } أي يحيي الأموات ويعيدهم بعدما صاروا رمماً، ويبعثهم أحياء إلى موقف الحساب { ومِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ } أي يجادل في شأنه تعالى من غير تمسك بعلمٍ صحيح يهدي إلى المعرفة ولا كتابٍ نير بيّن الحجة بل بمجرد الرأي والهوى قال ابن عطية: كرر هذه على وجه التوبيخ فكأنه يقول: هذه الأمثال في غاية الوضوح والبيان ومن الناس مع ذلك من يجادل في الله بغير دليل ولا برهان { ثَانِيَ عِطْفِهِ } أي معرضاً عن الحق لاوياً عنقه كفراً قال ابن عباس: مستكبراً عن الحق إذا دُعي إليه قال الزمخشري: وثنيُ العطف عبارة عن الكِبر والخيلاء فهو كتصعير الخد { لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي ليصُدَّ الناس عن دين الله وشرعه { لَهُ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ } أي له هوان وذل في الحياة الدنيا { وَنُذِيقُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ } أي ونذيقه في الآخرة النار المحرقة { ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } أي ذلك الخزي والعذاب بسبب ما اقترفته من الكفر والضلال { وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ } أي وأن الله عادل لا يظلم أحداً من خلقه { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ } أي ومن الناس من يعبد الله على جانب وطرفٍ من الدين، وهذا تمثيلُ للمذبذبين الذين لا يعبدون الله عن ثقة ويقين بل عن قلق واضطراب كالذي يكون على طرف من الجيش فإن أحسَّ بظفر أو غنيمة استقر وإلا فرَ قال الحسن: هو المنافق يعبده بلسانه دون قلبه وقال ابن عباس: كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاماً وأنتجت خيله قال: هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء { فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ٱطْمَأَنَّ بِهِ } أي فإن ناله خير في حياته من صحةٍ ورخاء أقام على دينه { وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ٱنْقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ } أي وإن ناله شيء يفتتن به من مكروه وبلاء ارتد فرجع إلى ما كان عليه من الكفر { خَسِرَ ٱلدُّنْيَا وَٱلأَخِرَةَ } أي أضاع دنياه وآخرته فشقي الشقاوة الأبدية { ذٰلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ } أي ذلك هو الخسران الواضح الذي لا خسران مثله { يَدْعُو مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ } أي يعبد الصنم الذي لا ينفع ولا يضر { ذٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلاَلُ ٱلْبَعِيدُ } أي ذلك هو نهاية الضلال الذي لا ضلال بعده، شبه حالهم بحال من أبعد في التيه ضالاً عن الطريق { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } أي يعبد وثناً أو صنماً ضره في الدنيا بالخزي والذل أسرع من نفعه الذي يتوقعه بعبادته وهو الشفاعة له يوم القيامة، وقيل: الآية على الفرض والتقدير: أي لو سلمنا نفعه أو ضره لكان ضره أكثر من نفعه، والآية سيقت تسفيهاً وتجهيلاً لمن يعتقد أنه ينتفع بعبادة غير الله حين يستشفع بها { لَبِئْسَ ٱلْمَوْلَىٰ وَلَبِئْسَ ٱلْعَشِيرُ } أي بئس الناصر وبئس القريب والصاحب { إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جَنَاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } لما ذكر حال المشركين وحال المنافقين المذبذبين ذكر حال المؤمنين في الآخرة والمعنى إن الله يدخل المؤمنين الصادقين جنات تجري من تحت قصورها وغرفها أنهار اللبن والخمر والعسل وهم في روضات الجنات يحبرون { إِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } أي يثيب من يشاء ويعذب من يشاء لا معقب لحكمه، فللمؤمنين الجنة بفضله، وللكافرين النار بعدله { مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ } أي من كان يظن أن لن ينصر الله رسوله صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة { فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى ٱلسَّمَآءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ } أي فليمدد بحبل إلى السقف ثم ليقطع عنقه وليختنق به { فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ } أي فلينظر هل يشفي ذلك ما يجد في صدره من الغيظ؟ قال ابن كثير: وهذا القول قول ابن عباس وهو أظهر في المعنى وأبلغ في التهكم فإن المعنى: من كان يظنُّ أنَّ الله ليس بناصر محمداً وكتابه ودينه فليذهب فليقتل نفسه إن كان ذلك غائظه فإن الله ناصره لا محالة { وَكَذٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } أي ومثل ذلك الإِنزال البديع المنطوي على الحكم البالغة أنزلنا القرآن الكريم كله آيات واضحات الدلالة على معانيها الرائقة { وَأَنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ } أي وأن الله هو الهادي لا هادي سواه يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } أي صدقوا الله ورسوله وهم أتباع محمد عليه السلام { وَٱلَّذِينَ هَادُواْ } أي اليهود وهم المنتسبون إلى موسى عليه السلام { وَٱلصَّابِئِينَ } هم قوم يعبدون النجوم { وَٱلنَّصَارَىٰ } هم المنتسبون إلى ملة عيسى عليه السلام { وَٱلْمَجُوسَ } هم عبدة النيران { وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُوۤاْ } هم العرب عبدة الأوثان { إِنَّ ٱللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ } أي يقضي بين المؤمنين وبين الفرق الخمسة الضالة فيدخل المؤمنين الجنة والكافرين النار { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } أي شاهد على أعمال خلقه عالم بكل ما يعملون { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ } أي يسجد لعظمته كل شيء طوعاً وكرهاً، الملائكة في أقطار السماوات، والإِنس والجن وسائر المخلوقات في العالم الأرضي { وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ } أي وهذه الأجرام العظمى مع سائر الجبال والأشجار والحيوانات تسجد لعظمته سجود انقياد وخضوع، قال ابن كثير: وخص الشمس والقمر والنجوم بالذكر لأنها قد عبدت من دون الله، فبيّن أنها تسجد لخالقها وأنها مربوبة مسخرة. والغرض من الآية: بيان عظمته تعالى وانفراده بألوهيته وربوبيته بانقياد هذه العوالم العظمى له وجريها على وفق أمره وتدبيره { وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ } أي ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة وعبادة { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ } أي وكثير من الناس وجب له العذاب بكفره واستعصائه { وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ } أي من أهانه الله بالشقاء والكفر فلا يقدر أحد على دفع الهوان عنه { إِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } أي يعذب ويرحم، ويعز ويذل، ويُغني ويُفقِر، ولا اعتراض لأحد عليه.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1- التشبيه البليغ المؤكد { وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَارَىٰ } أي كالسكارى من شدة الهول، حذفت أداة التشبيه والشبه.
2- الاستعارة { شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ } استعار لفظ الشيطان لكل طاغية متمرد على أمر الله
3- الطباق بين { يُضِلُّهُ.. وَيَهْدِيهِ }.
4- أسلوب التهكم { وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ }.
5- طباق السلب { مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ }.
6- الاستعارة اللطيفة { فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ } شبه الأرض بنائم لا حركة له ثم يتحرك وينتعش وتدب فيه الحياة بنزول المطر عليه ففيها استعارة تبعية.
7- الكناية { ثَانِيَ عِطْفِهِ } كناية عن التكبر والخيلاء.
8- المجاز المرسل { بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } علاقته السببية لأن اليد هي التي تفعل الخير أو الشر.
9- الاستعارة التمثيلية { مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ } مثل للمنافقين وما هم فيه من قلق واضطراب في دينهم بمن يقف على شفا الهاوية يريد العبادة والصلاة، ويا له من تمثيل رائع!
10- المقابلة البديعة بين { فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ٱطْمَأَنَّ بِهِ.. وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ٱنْقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ }.
11- الطباق بين { يَضُرُّهُ.. ويَنفَعُهُ } وبين { يُهِنِ.. فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ }.
12- السجع اللطيف بين كثير من الآيات.
فَائِدَة: المُرضع التي شأنها أن ترضع، والمرضعة هي التي في حال الإِرضاع ملقمة ثديها لطفلها ولهذا قال { تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ } ولم يقل: مرضع ليكون ذلك أعظم في الذهول إذ تنزع ثديها من فم الصبي - أحب الناس إليها - وذلك غاية في شدة الهول والفزع.
تنبيه: روى ابن أبي حاتم أنه قيل لعلي: "إن هٰهنا رجلاً يتكلم في المشيئة فاستدعاه فقال له، يا عبد الله: خلقك كما يشاء أو كما تشاء؟ قال بل كما شاء، قال فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت، قل: بل إِذا شاء، قال: فيشفيك إذا شاء أو إِذا شئت؟ قال: بل إذا شاء، قال: فيدخلك حيث شئت أو حيث يشاء؟ قال: بل حيث يشاء، قال والله لو قلت غير ذلك لضربت الذي بين عينيك بالسيف".