التفاسير

< >
عرض

وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لاَّ تُقْسِمُواْ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
٥٣
قُلْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ
٥٤
وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي ٱلأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ
٥٥
وَأَقِيمُواْ ٱلصَّـلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَـاةَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
٥٦
لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَمَأْوَٰهُمُ ٱلنَّارُ وَلَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ
٥٧
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ ٱلَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ وَٱلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ ٱلْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ صَـلَٰوةِ ٱلْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَـٰبَكُمْ مِّنَ ٱلظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَٰوةِ ٱلْعِشَآءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَٰفُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأَيَـٰتِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
٥٨
وَإِذَا بَلَغَ ٱلأَطْفَالُ مِنكُمُ ٱلْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا ٱسْتَأْذَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
٥٩
وَٱلْقَوَاعِدُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ ٱلَّلاَتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عِلِيمٌ
٦٠
لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَٰنِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَٰمِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَٰلِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَٰلَٰتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُبَٰرَكَةً طَيِّبَةً كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
٦١
إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَىٰ أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّىٰ يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا ٱسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمُ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٦٢
لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ ٱلرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٦٣
أَلاۤ إِنَّ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ
٦٤
-النور

صفوة التفاسير

المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى المنافقين وما هم عليه من صفاتٍ قبيحة، أعقبه بذكر ما انطوت عليه نفوسهم من المكر والإِحتيال والحلف الكاذب بأغلظ الأيمان، وختم السورة الكريمة بالتحذير من سلوك طريق المنافقين.
اللغَة: { ٱلْحُلُمَ }: الاحتلام في المنام قال في القاموس: الحلم: الرؤيا جمعه أحلام، والحُلم والاحتلام: الجماع في النوم وقال الراغب: هو زمان البلوغ سمي به لكون صاحبه جديراً بالحلم أي الأناة وضبط النفس { ٱلْقَوَاعِدُ } جمع قاعد بغير تاء لأنه خاصٌ بالنساء كحائض وطامث وهي المرأة التي قعدت عن الزواج وعن الولد { أَشْتَاتاً } متفرقين جمع شتّ وهو الافتراق، والشتاتُ: الفرقة { يَتَسَلَّلُونَ } التسلل: الخروج خفية يقال: انسلَّ وتسلل إذا خرج مستتراً بطريق الخفية { لِوَاذاً } اللواذ: أن يستتر بشيء مخافة من يراه.
سَبَبُ النّزول: روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث غلاماً من الأنصار يقال له: مُدْلج إلى عمر بن الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه فوجده نائماً، فدقَّّ عليه الغلام الباب ودخل، فاستيقظ عمر وجلس فانكشف منه شيء فقال: وددت أنَّ الله نهى أبناءنا ونساءنا وخدمنا عن الدخول في هذه الساعات إلا بإذن، ثم انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد الآية قد أنزلت { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ ٱلَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ.. } فخرَّ ساجداً شكراً الله تعالى.
التفسِير: { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمُْ } أي حلف المنافقون بغاية الأيمان المغلَّظة { لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ } أي لئن أمرتهم بالخروج إلى الجهاد ليخرجن معك قال مقاتل: لما بيَّن الله إعراض المنافقين وامتناعهم عن قبول حكمه عليه السلام أتوه فقالوا: لو أمرتنا أن نخرج من ديارنا وأموالنا ونسائنا لخرجنا، وإن أمرتنا بالجهاد لجاهدنا فنزلت { قُل لاَّ تُقْسِمُواْ } أي لا تحلفوا فإن أيمانكم كاذبة { طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ } أي طاعتُكم لله ورسوله معروفة فإنها باللسان دون القلب، وبالقول دون العمل { إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي بصير لا يخفى عليه شيء من خفاياكم ونواياكم { قُلْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ } أي أطيعوا الله بإخلاص النية وترك النفاق، وأطيعوا الرسول بالاستجابة لأمره والتمسّك بهديه { فَإِن تَوَلَّوْاْ } أي فإن تتولَّوْا وتعرضوا عن طاعته { فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ } أي على الرسول ما كلف به من تبليغ الرسالة { وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ } أي وعليكم ما كلفتم به من السمع والطاعة واتباع أمره عليه السلام { وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ } أي وإن أطعتم أمره فقد اهتديتم إلى طريق السعادة والفلاح { وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِين } أي ليس عليه إلا التبليغ الواضح للأمة، ولا ضرر عليه إن خالفتم وعصيتم فإنه قد بلَّغ الرسالة وأدى الأمانة { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } أي وعد الله المؤمنين المخلصين الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح { لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي ٱلأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي وعدهم بميراث الأرض وأن يجعلهم فيها خلفاء متصرفين فيها تصرف الملوك في ممالكهم، كما استخلف المؤمنين قبلهم فملكهم ديار الكفار قال المفسرون: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة رمتهم العرب عن قوسٍ واحدة، فكانوا لا يبيتون إلا في السلاح، ولا يصبحون إلاّ في لأمتهم - أي سلاحهم - فقالوا أترون أنّا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلاّ الله عز وجل!! فنزلت الآية، وهذا وعدٌ ظهر صدقُه بفتح مشارق الأرض ومغاربها لهذه الأمة وفي الحديث بشارة كذلك فقد قال صلى الله عليه وسلم:
"إنَّ الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها" { وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ } أي وليجعلنَّ دينهم - الإِسلام - الذي ارتضاه لهم عزيزاً مكيناً عالياً على كل الأديان { وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً } أي وليغيرن حالهم التي كانوا عليها من الخوف والفزع إلى الأمن والاستقرار كقوله { وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [قريش: 4] { يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً } استئنافٌ بطريق الثناء عليهم كالتعليل للاستخلاف في الأرض أي يوحدونني ويخلصون لي العبادة، لا يعبدون إلهاً غيري { وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ } أي فمن جحد شكر النعم { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } هم الخارجون عن طاعة الله، العاصون أمر الله قال أبو العالية: أي من كفر بهذه النعمة وليس يعني الكفرَ بالله قال الطبري: وهو أشبه بتأويل الآية لأن اللهَ وعد الإِنعام على هذه الأمة بما أخبر في هذه الآية بأنه منعم به عليهم ثم قال { وَمَن كَفَرَ } أي كفر هذه النعمة { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّـلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَـاةَ } أي أقيموا أيها المؤمنون الصلاة وأُدوا الزكاة على الوجه الأكمل الذي يُرضي الله { وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } أي أطيعوا الرسول في سائر ما أمركم به رجاء الرحمة { لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ } تسليةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم ووعدٌ له بالنُّصرة أي لا تظننَّ يا محمد الكافرين الذين عاندوك وكذبوك معجزين لله في هذه الحياة بل الله قادرٌ عليهم في كل حين وأن { وَمَأْوَاهُمُ ٱلنَّارُ } أي مرجعهم نار جهنم { وَلَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } أي بئس المرجع والمآل الذي يصيرون إليه { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ ٱلَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ } أي يا أيها المؤمنون الذين صدَّقوا الله ورسوله وأيقنوا بشريعة الإِسلام نظاماً وحكماً ومنهاجاً ليستأذنكم في الدخول عليكم العبيدُ والإِماء الذين تملكونهم ملك اليمين { وَٱلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ ٱلْحُلُمَ مِنكُمْ } أي والأطفال الذين لم يبلغوا مبلغ الرجال الأحرار ليستأذنوا أيضاً { ثَلاَثَ مَرَّاتٍ } أي في ثلاثة أوقات { مِّن قَبْلِ صَـلَٰوةِ ٱلْفَجْرِ } أي في الليل وقت نومكم وخلودكم إلى الراحة { وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَـٰبَكُمْ مِّنَ ٱلظَّهِيرَةِ } أي وقت الظهر حين تخلعون ثيابكم للقيلولة { وَمِن بَعْدِ صَلَٰوةِ ٱلْعِشَآءِ } أي ووقت إرادتكم النوم واستعدادكم له { ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ } اي هي ثلاثة أوقات يختل فيها تستركم، العوراتُ فيها بادية والتكشف فيها غالب، فعلِّموا عبيدكم وخدمكم وصبيانكم ألاّ يدخلوا عليكم في هذه الأوقات إلا بعد الاستئذان { لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ } أي ليس عليكم ولا على المماليك والصبيان حرجٌ في الدخول عليكم بغير استئذان بعد هذه الأوقات الثلاثة { طَوَٰفُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } أي لأنهم خدمكم يطوفون عليكم للخدمة وغير ذلك قال أبو حيان: أي يمضون ويجيئون ويدخلون عليكم في المنازل غدوةً وعشية بغير إذن إلا في تلك الأوقات { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأَيَـٰتِ } أي مثل ذلك التوضيح والبيان يبيّن الله لكم الأحكام الشرعية لتتأدبوا بها { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي عالمٌ بأمور خلقه، حكيمٌ في تدبيره لهم { وَإِذَا بَلَغَ ٱلأَطْفَالُ مِنكُمُ ٱلْحُلُمَ } أي وإذا بلغ هؤلاء الأطفال الصغار مبلغ الرجال وأصبحوا في سنّ التكليف { فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا ٱسْتَأْذَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي فعلموهم الأدب السامي أن يستأذنوا في كل الأوقات كما يستأذن الرجال البالغون { كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ } أي يفصّل لكم أمور الشريعة والدين { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي عليم بخلقه حكيم في تشريعه قال البيضاوي: كرره تأكيداً ومبالغة في الأمر بالاستئذان { وَٱلْقَوَاعِدُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ } أي والنساء العجائز اللواتي قعدن عن التصرف وطلب الزواج لكبر سنهن { ٱلَّلاَتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً } أي لا يطمعن في الزواج ولا يرغبن فيه لانعدام دوافع الشهوة فيهن { فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ } اي لا حرج ولا إثم عليهنَّ في أن يضعن بعض ثيابهن كالرداء والجلباب، ويظهرن أمام الرجال بملابسهن المعتادة التي لا تلفت انتباهاً، ولا تثير شهوة { غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ } أي غير متظاهرات بالزينة لينظر إليهن قال أبو حيان: وحقيقة التبرج إظهار ما يجب إخفاؤُه، وربَّ عجوزٍ شمطاء يبدو منها الحرصُ على أن يظهر بها جمال { وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ } أي وأن يستترن بارتداء الجلباب ولبس الثياب كما تلبسه الشابات من النساء، مبالغةً في التستر والتعفف خيرٌ لهنَّ وأكرم، وأزكى عند الله وأطهر { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عِلِيمٌ } أي يعلم خفايا النفوس ويجازي كل إنسان بعمله، وفيه وعدٌ وتحذير { لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلْمَرِيضِ حَرَجٌ } أي ليس على أهل الأعذار " الأعمى، والأعرج، والمريض" حرج ولا إثم في القعود عن الغزو لضعفهم وعجزهم { وَلاَ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ } أي وليس عليكم أيها الناس إثم أن تأكلوا من بيوت أزواجكم وعيالكم قال البيضاوي: فيدخل فيها بيوت الأولاد لأن بيت الولد كبيته لقوله عليه السلام: إن أطيبَ ما يأكل المرءُ من كسبه، وإنَّ ولده من كسبه { أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ } أي لا حرج في الأكل من بيوت هؤلاء الأقارب قال الرازي: والظاهر أن إباحة الأكل لا تتوقف على الاستئذان لأن العادة أن هؤلاء القوم تطيب أنفسهم بأكل الأقارب { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ } أي البيوت التي توكّلون عليه وتملكون مفاتيحها في غياب أهلها قال عائشة: كان المسلمون يذهبون مع رسول الله في الغزو ويدفعون مفاتحهم إلى ضمنائهم ويقولون: قد أحللنا لكم الأكل منها فكانوا يقولون: إنه لا يحل لنا ان نأكل، إنهم أذنوا لنا عن غير طيب أنفسهم وإنما نحن أمناء فأنزل الله { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ } { أَوْ صَدِيقِكُمْ } أي أو بيوت أصدقائكم وأصحابكم قال قتادة: إذا دخلت بيت صديقك فلا بأس أن تأكل بغير إذنه { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً } أي ليس عليكم إثم أو حرج أن تأكلوا مجتمعين أو متفرقين قال المفسرون: نزلت في حيٍ من كنانة كان الرجل منهم لا يأكل وحده، يمكث يومه فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئاً: وربما كانت معه الإِبل الحُفَّل فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه فأخبرهم تعالى بأن الرجل إذا أكل وحده لا حرج عليه { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ } أي إذا دخلتم بيوتاً مسكونة فسلموا على من فيها من الناس { تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } أي حيُّوهم بتحية الإِسلام "السلام عليكم" وهي التحية المباركة الطيبة التي شرعها الله لعباده المؤمنين قال القرطبي: وصفها بالبركة لأنه فيها الدعاء واستجلاب المودة، ووصفها بالطيب لأن سامعها يستطيبها { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } قال ابن كثير: لما ذكر تعالى في هذه السورة الكريمة من الأحكام المحكمة، والشرائع المُبْرمة، نبَّه عباده على أنه يبين لهم الآيات بياناً شافياً ليتدبروها ويتعقلوها لعلهم يعقلون { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } أي إنما المؤمنون الكاملون في الإِيمان الذي صدقوا الله ورسوله تصديقاً جازماً لا يخالجه شك { وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَىٰ أَمْرٍ جَامِعٍ } أي وإذا كانوا مع الرسول في أمرٍ هام فيه مصلحة للمسلمين { لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّىٰ يَسْتَأْذِنُوهُ } أي لم يتركوا مجلسه حتى يستأذنوه فيأذن لهم قال المفسرون: نزلت هذه الآية في وقت حفر الخندق، فإن بعض المؤمنين كانوا يستأذنون في الانصراف لضرورة، وكان المنافقون يذهبون بغير استئذان فنزلت تمدح المؤمنين الخالصين، وتعُرِّض بذم المنافقين { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } هذا توكيدٌ لما تقدم ذكره تفخيماً وتعظيماً لشأن الرسول صلى الله عليه وسلم أي إن الذين يستأذنونك يا محمد أولئك هم المؤمنون حقاً قال البيضاوي: أعاده مؤكداً على أسلوب أبلغ فإِن جعل المستأذنين هم المؤمنين عكس الأسلوب الأول وفيه تأكيد للأول بذكر لفظ الله ورسوله فيكون مصداقاً ودليلاً على صحة الإِيمان { فَإِذَا ٱسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ } أي فإِذا استأذنك هؤلاء المؤمنون لبعض شئونهم ومهامهم { فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ } أي فاسمح لمن أحببت بالانصراف إِن كان فيه حكمة ومصلحة { وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمُ ٱللَّهَ } أي وادع الله لهم بالعفو والمغفرة فإِن الاستئذان ولو لعذرٍ قصورٌ لأنه تقديم لأمر الدنيا على أمر الدين { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي عظيم العفو واسع الرحمة { لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ ٱلرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً } أي لا تنادوا الرسول باسمه كما ينادي بعضكم بعضاً باسمه بل قولوا: يا نبيَّ الله ويا رسول الله تفخيماً لمقامه وتعظيماً لشأنه قال أبو حيان: لمّا كان التداعي بالأسماء على عادة البداوة أُمروا بتوقير رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعائه بأحسن ما يدعى به نحو يا رسول الله، يا نبيَّ الله، ألا ترى إِلى بعض جفاةِ من أسلم كان يقول يا محمد فنهوا عن ذلك قال قتادة: أمرهم تعالى أن يفخموه ويشرّفوه { قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً } أي قد علم الله الذين ينسلُّون قليلاً ويخرجون من الجماعة في خفية يستتر بعضهم ببعض قال الطبري: واللواذ هو أن يلوذ القوم بعضُهم ببعض، يستتر هذا بهذا وهذا بهذا { فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } أي فليخف الذين يخالفون أمر الرسول ويتركون سبيله ومنهجه وسنته { أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي تنزل بهم محنة عظيمة في الدنيا أو ينالهم عذاب شديد في الآخرة { أَلاۤ إِنَّ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي له جل وعلا ما في الكون ملكاً وخلقاً وعبيداً { قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ } أي قد علم ما نفوسكم من الإِيمان أو النفاق، والإخلاص أو الرياء { وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ } أي ويوم القيامة يرجعون إِليه فيخبرهم بما فعلوا في الدينا من صغيرٍ وكبير، وجليل وحقير ويجازي كلا بعمله { وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ } أي لا يخفى عليه خافية لأن الكل خلقه وملكه.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات وجوهاً من البلاغة والبيان نوجزها فيما يلي:
1- الاستعارة اللطيفة { جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } شبَّه الأيمان التي يحلف بها المنافقون بالغين فيها أقصى المراتب في الشدة والتوكيد بمن يجهد نفسه في أمر شاقّ لا يستطيعه ويبذل أقصى وسعه وطاقته بطريق الاستعارة.
2- المشاكلة { عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ } أي عليه أمرُ التبليغ وعليكم وزر التكذيب.
3- الطباق بين الخوف والأمن { مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً } وكذلك بين الجميع والأشتات { جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً } لأن المعنى مجتمعين ومتفرقين.
4- الإِطناب بتكرير لفظ الحرج لترسيخ الحكم في الأذهان { لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلْمَرِيضِ حَرَجٌ }.
5- صيغة المبالغة { غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.
فَائِدَة: قال بعض السلف: من أمَّر السُنَّة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمَّر الهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة لقوله تعالى { وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ }.
لطيفَة: قيل لبعضهم: من أحبُّ إليك أخوك أم صديقك؟ فقال: لا أحب أخي إذا لم يكن صديقي. وقال ابن عباس: "الصديق أوكد من القريب ألا ترى استغاثة الجهنميّين حين قالوا
{ فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ } [الشعراء: 100-101] ولم يستغيثوا بالآباء والأمهات".
تنبيه: كان بعض العرب يرى أحدهم أن عاراً وخزياً عليه أن يأكل وحده ويبقى جائعاً حتى يجد من يؤاكله ويشاربه واشتهر هذا عن حاتم فكان يقول:

إذا ما صنعتِ الزاد فالتمسي له أكيلاً فإني لست آكله وحدي

وهذا من مآثر العرب ومفاخرهم، فقد اشتهروا بالجود والكرم، وقرى الضيف.