التفاسير

< >
عرض

طسۤمۤ
١
تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ
٢
نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْعَوْنَ بِٱلْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
٣
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي ٱلأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ
٤
وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَارِثِينَ
٥
وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي ٱلأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ
٦
وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيۤ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ
٧
فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ
٨
وَقَالَتِ ٱمْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
٩
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاۤ أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٠
وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
١١
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ
١٢
فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
١٣
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَٱسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ
١٤
وَدَخَلَ ٱلْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَـٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَـٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَٱسْتَغَاثَهُ ٱلَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى ٱلَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ قَالَ هَـٰذَا مِنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ
١٥
قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَٱغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ
١٦
قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ
١٧
فَأَصْبَحَ فِي ٱلْمَدِينَةِ خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا ٱلَّذِي ٱسْتَنْصَرَهُ بِٱلأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَىٰ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ
١٨
فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِٱلَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يٰمُوسَىٰ أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِٱلأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي ٱلأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِينَ
١٩
-القصص

صفوة التفاسير

اللغَة: { شِيَعاً } فِرقاً وأصنافاً { يَسْتَحْيِي } يتركه حيّاً ولا يقتله { نَّمُنَّ } نتفضل وننعم { ٱليَمِّ } البحر { فَارِغاً } خالياً { ٱلْمَرَاضِعَ } جمع مُرضِع، وأما المرضعة فجمعها مرضعات وهي التي ترضع الطفل اللبن { عَن جُنُبٍ } عن بعد ومنه الأجنبي للبعيد غير القريب { وَكَزَهُ } الوكز: الضرب بجُمْع الكف أي بكفه مجموعةً قال أهل اللغة: الوكزُ واللكز كلاهما بمعنى واحد وهو الضرب بجمع الكفّ على الصدر، وقيل: الوكز في الصدر، واللكزُ في الظهر، وجمع الكف: الكف المقوضةُ الأصابع { ظَهِيراً } عوناً { يَسْتَصْرِخُهُ } يستغيثه والاستصراخ الاستغاثة وهو من الصراخ لأن المستغيث يصرخ ويرفع صوته طلباً للغوث قال الشاعر:

كنا إذا ما أتانا صارخ فزعٌ كان الصراخ له قرع الظنابيب

{ يَبْطِشَ } البطش: الأخذ بالشدة والعنف، بطش ويبطش ويبطش بالكسر والضم.
التفسِير: { طسۤمۤ } الحروف المقطعة للتنبيه على إعجاز القرآن الكريم، والإِشارة إلى أن هذا الكتاب المعجز في فصاحته وبيانه مركبٌ من أمثال هذه الحروف الهجائية { تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } أي هذه آيات القرآن الواضح الجلي، الظاهر في إعجازه، الواضح في تشريعه وأحكامه { نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْعَوْنَ بِٱلْحَقِّ } أي نقرأ عليك يا محمد بواسطة الروح الأمين من الأخبار الهامة عن موسى وفرعون من الحق الذي لا يأتيه الباطل، والصدق الذي لا ريب فيه ولا كذب { لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي لقومٍ يصدقون بالقرآن فينتفعون.. ثم بدأ بذكر قصة فرعون الطاغية فقال { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي ٱلأَرْضِ } أي استكبر وتجبَّر، وجاوز الحد في الطغيان في أرض مصر { وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً } أي جعل أهلها فرقاً وأصنافاً في استخدامه وطاعته { يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ } أي يستعبد ويستذل فريقاً منهم وهم بنوا إسرائيل فيسومهم سوء العذاب { يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ } أي يقتّل أبناءهم الذكور ويترك الإِناث على قيد الحياة لخدمته وخدمة الأقباط قال المفسرون: سبب تقتيله الذكور أن فرعون رأى في منامه أن ناراً عظيمةً أقبلت من بيت المقدس وجاءت إلى أرض مصر فأحرقت القبط دون بني إسرائيل، فسأل عن ذلك المنجّمين والكهنة، فقالوا له: إن مولوداً يولد في بني إسرائيل، يذهب ملكك على يديه، ويكون هلاكك بسببه فأمر أن يقتل كل ذكر من أولاد بني إسرائيل { إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ } أي من الراسخين في الفساد، المتجبرين في الأرض، ولذلك ادعى الربوبية وأمعن في القتل وإذلال العباد { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِي ٱلأَرْضِ } أي ونريد برحمتنا أن نتفضل وننعم على المستضعفين من بني إسرائيل فننجيهم من بأس فرعون وطغيانه { وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً } أي ونجعلهم أئمة يقتدى بهم في الخير بعد أن كانوا أذلاء مسخرين قال ابن عباس: { أَئِمَّةً } قادة في الخير، وقال قتادة: ولاةً وملوكاً { وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَارِثِينَ } أي ونجعل هؤلاء الضعفاء وارثين لملك فرعون وقومه، يرثون ملكهم ويسكنون مساكنهم بعد أن كان القبط أسياد مصر وأعزتها { وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي ٱلأَرْضِ } أي ونملكهم بلاد مصر والشام يتصرفون فيها كيف يشاءون قال البيضاوي: أصل التمكين أن تجعل للشيء مكاناً يتمكن فيه ثم استعيد للتسليط وإطلاق الأمر { وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ } أي ونري فرعون الطاغية، ووزيره "هامان" والأقباط من أولئك المستضعفين ما كانوا يخافونه من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولودٍ من بني إسرائيل { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ } أي قذفنا في قلبها بواسطة الإِلهام قال ابن عباس: هو وحيُ إلهام وقال مقاتل: أخبرها جبريل بذلك قال القرطبي: فعلى قول مقاتل هو وحيُ إعلام لا إلهام، وأجمع الكل على أنها لم تكن نبية، وإنما إرسال الملك إليها على نحو تكليم الملك للأقرع والأبرص والأعمى كما في الحديث المشهور، وكذلك تكليم الملائكة للناس من غير نبوة، وقد سلَّمت على "عمران بن حصين" فلم يكن نبياً { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ } أي فإذا خفت عليه من فرعون فاجعليه في صندوق وألقيه في البحر - بحر النيل - { وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيۤ } أي لا تخافي عليه الهلاك ولا تحزني لفراقه { إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } أي فإنا سنرده إليك ونجعله رسولاً نرسله إلى هذا الطاغية لننجّي بني إسرائيل على يديه { فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } أي فأخذه وأصابه أعوان فرعون لتكون عاقبة الأمر أن يصبح لهم عدواً ومصدر حزن وبلاءٍ وهلاك قال القرطبي: اللام في "ليكون" لام العاقبة ولام الصيرورة، لأنهم إنما أخذوه ليكون لهم قرة عين، فكان عاقبة ذلك أن صار لهم عدواً وحزناً، فذكر الحال بالمآل كما قال الشاعر:

وللمنايا تُربِّي كلُّ مرضعةٍ ودورُنا لخراب الدهر نبْنيها

{ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ } أي كانوا عاصين مشركين آثمين، قال العلماء: الخاطئ من تعمد الذنب والإِثم، والمخطئ من فعل الذنب عن غير تعمد { وَقَالَتِ ٱمْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ } أي قالت زوجة فرعون لفرعون: هذا الغلام فرحة ومسرة لي ولك لعلنا نسر به فيكون قرة عين لنا قال الطبري: ذكر أن المرأة لما قالت هذا القول لفرعون قال لها: أمَّا لك فنعم، وأما لي فليس بقرة عين، وقال ابن عباس: لو قال قرة عين لي لهداه الله به ولآمن ولكنه أبى { لاَ تَقْتُلُوهُ } أي لا تقتله يا فرعون، خاطبته بلفظ الجمع كما يُخاطب الجبارون تعظيماً له ليساعدها فيما تريد { عَسَىٰ أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً } عسى أن ينفعنا في الكبر، أو نتبناه فنجعله لنا ولداً تقَرُّ به عيوننا قال المفسرون: وكانت لا تلد فاستوهبت موسى من فرعون فوهبه لها قال تعالى { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أي وهم لا يشعرون أن هلاك فرعون وزبانيته سيكون على يديه وبسببه { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغاً } أي صار قلبها خالياً من ذكر كل شيء في الدنيا إلا من ذكر موسى، وقيل المعنى: طار عقلها من فرط الجزع والغم حين سمعت بوقوعه في يد فرعون { إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ } أي إنها كادت أن تكشف أمره وتظهر أنه ابنها من شدة الوجد والحزن قال ابن عباس: كادت تصيح واإبناه، وذلك حين سمعت بوقوعه في يد فرعون { لَوْلاۤ أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا } أي لولا أن ثبتناها وألهمناها الصبر { لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي لتكون من المصدقين بوعد الله برده عليها { وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ } أي قالت أم موسى لأخت موسى: إتبعي أثره حتى تعلمي خبره قال مجاهد: قصي أثره وانظري ماذا يفعلون به؟ { فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أي فأبصرته عن بعد وهم لا يشعرون أنها أخته، لأنها كانت تمشي على ساحل البحر حتى وصل الصندوق إلى بيت فرعون وهي ترقبه مستخفيةً عنهم { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ } أي ومنعنا موسى أن يقبل ثدي أي مرضعة من المرضعات اللاتي أحضروهن لإِرضاعه من قبل مجيء أُمه قال المفسرون: بقي أياماً كلما أُتي بمرضع لم يقبل ثديها، فأهمهم ذلك واشتد عليهم الأمر فخرجوا به يبحثون له عن مرضعة خارج القصر فرأوا أخته { فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ } أي هل أدلكم على مرضعة له تكفله وترعاه؟ { وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ } أي لا يقصرون في إرضاعه وتربيته قال السدي: فدلتهم على أم موسى فانطلقت إليها بأمرهم فجاءت بها، والصبي على يد فرعون يعلله شفقة عليه وهو يبكي يطلب الرضاع، فدفعه إليها فلما وجد ريح أُمه قبل ثديها، فقال فرعون: من أنت منه فقد أبى كل ثديٍ إلا ثديك؟ فقالت: إني امرأة طيبة الريح، طيبة اللبن، لا أكاد أوتى بصبي إلا قبلني فدفعه إليها، فرجعت إلى بيتها من يومها ولم يبق أحدٌ من آل فرعون إلا أهدى إليها وأتحفها بالهدايا والجواهر فذلك قوله تعالى { فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ } أي أعدناه إليها تحقيقاً للوعد كي تسعد وتهنأ بلقائه ولا تحزن على فراقه { وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ } أي ولتتحقق من صدق وعد الله برده عليها وحفظه من شر فرعون { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أي ولكن أَكثر الناس يرتابون ويشكون في وعد الله القاطع { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَٱسْتَوَىٰ } أي ولما بلغ كمال الرشد، ونهاية القوة، وتمام العقل والاعتدال قال مجاهد: هو سنُّ الأربعين { آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً } أي أعطيناه الفهم والعلم والتفقه في الدين مع النبُوَّة { وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ } أي ومثل هذا الجزاء الكريم نجازي المحسنين على إحسانهم { وَدَخَلَ ٱلْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا } أي دخل مصر وقت الظهيرة والناس يخلدون للراحة عند القيلولة { فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَـٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَـٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ } أي فوجد شخصين يتقاتلان: أحدهما من بني إسرائيل من جماعة موسى، والآخر قبطي من جماعة فرعون { فَٱسْتَغَاثَهُ ٱلَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى ٱلَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ } أي فاستنجد الإِسرائيلي بموسى وطلب غوثه ليدفع عنه شر القبطي { فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ } أي ضربه موسى بجمع كفه فقتله، قال القرطبي: فعل موسى ذلك وهو لا يريد قتله إنما قصد دفعه فكانت فيه نفسه وكانت القاضية { قَالَ هَـٰذَا مِنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ } أي هذا من إغواء الشيطان فهو الذي هيَّج غضبي حتى ضربت هذا { إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ } أي إن الشيطان عدوٌ لابن آدم، مضلٌ له عن سبيل الرشاد، ظاهر العداوة وقال الصاوي: نسبه إلى الشيطان من حيث إنه لم يؤمر بقتل القبطي، وظهر له أن قتله خلاف الأولى لما يترتب عليه من الفتن، والشيطان تفرحه الفتن ولذلك ندم على فعله { قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَٱغْفِرْ لِي } أي إني ظلمت نفسي بقتل النفس فاعف عني ولا تؤاخذني بخطيئتي { فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } أي إنه تعالى المبالغ في المغفرة للعباد، الواسع الرحمة لهم { قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ } أي بسبب إنعامك عليَّ بالقوة وبحق ما أكرمتني به من الجاه والعز، فلن أكون عوناً لأحد من المجرمين، وهذه معاهدة عاهد موسى ربه عليها وقيل: هو قسم وهو ضعيف { فَأَصْبَحَ فِي ٱلْمَدِينَةِ خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ } أي فأصبح موسى في المدينة التي قتل فيها القبطي خائفاً على نفسه يتوقع وينتظر المكروه، ويخاف أن يؤخذ بجريرته { فَإِذَا ٱلَّذِي ٱسْتَنْصَرَهُ بِٱلأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ } أي فإذا صاحبه الإِسرائيلي الذي خلَّصه بالأمس يقاتل قبطياً آخر فلما رأى موسى أخذ يصيح به مستغيثاً لينصره من عدوه { قَالَ لَهُ مُوسَىٰ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ } أي قال موسى للإِسرائيلي: إنك لبيَّنُ الغواية والضلال، فإني وقعت بالأمس فيما وقعت فيه من قتل رجلٍ بسببك وتريد أن توقعني اليوم في ورطةٍ أخرى؟ { فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِٱلَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا } أي فحين أراد موسى أن يبطش بذلك القبطي الذي هو عدوٌ له وللإِسرائيلي { قَالَ يٰمُوسَىٰ أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِٱلأَمْسِ } أي قال القبطي: أتريد قتلي كما قتلت غيري بالأمس؟ { إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي ٱلأَرْضِ } أي ما تريد يا موسى إلا أن تكون من الجبابرة المفسدين في الأرض { وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِينَ } أي وما تريد أن تكون من الذين يصلحون بين الناس.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات من وجوه البيان والبديع ما يلي:
1- الإِشارة بالبعيد عن القريب لبعد مرتبته في الكمال { تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ }.
2- حكاية الحالة الماضية { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ } لاستحضار تلك الصورة في الذهن.
3- إيثارالجملة الإِسمية على الفعلية { إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } ولم يقل سنرده ونجعله رسولاً وذلك للاعتناء بالبشارة لأن الجملة الإِسمية تفيد الثبوت والإِستمرار.
4- الاستعارة { لَوْلاۤ أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا } شبه ما قذف الله في قلبها من الصبر بربط الشيء المنفلت خشية الضياع واستعار لفظ الربط للصبر.
5- صيغة التعظيم { لاَ تَقْتُلُوهُ } تخاطب فرعون ولم تقل لا تقتله تعظيماً له.
6- صيغة المبالغة { جَبَّار }، { غَوِيٌّ }، { مُّبِينٌ } لأن فعال وفعيل من صيغ المبالغة.
7- الطباق المعنوي { جَبَّاراً.. وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِينَ } لأن الجبار المفسد المخرّب، المكثر للقتل وسفك الدماء ففيه طباق في المعنى.
8- الاستعطاف { رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ }.
9- توافق الفواصل في كثير من الآيات مثل { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُون } { وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ } { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } وهو من المحسنات البديعية.
لطيفَة: "حكى العلاَّمة القرطبي عن الأصمعي أنه قال سمعت جارية أعرابية تنشد:

أستغفر الله لذنبي كله قتلتُ إنساناً بغير حلِّه
مثل الغزال ناعماً في دله انتصف الليل ولم أُصلِّه

فقلت: قاتلك الله ما أفصحك؟ فقالت: ويحك أويعد هذا فصاحة مع قول الله عز وجل { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيۤ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } فقد جمع في آية واحدة بين أمرين، ونهيين، وخبرين وبشارتين".