التفاسير

< >
عرض

ٱلْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ جَاعِلِ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُوْلِيۤ أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي ٱلْخَلْقِ مَا يَشَآءُ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١
مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٢
يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ ٱللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ
٣
وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ
٤
يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ
٥
إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ
٦
ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ
٧
أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوۤءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ
٨
وَٱللَّهُ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ ٱلنُّشُورُ
٩
مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَٱلَّذِينَ يَمْكُرُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ
١٠
وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىٰ وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ
١١
وَمَا يَسْتَوِي ٱلْبَحْرَانِ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى ٱلْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
١٢
يُولِجُ ٱلْلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ
١٣
إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ
١٤
-فاطر

صفوة التفاسير

اللغَة: { فَاطِرِ } الفاطر: الخالق، وأصل الفطر الشَّق يقال: فطره فانفطر أي انشق ومنه { السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ } [المزمل: 18] وفطر اللهُ الخلق: خلقهم وبرأهم { تُؤْفَكُونَ } تُصرفون من الإِفك بمعنى الكذب سمي إِفكاً لأنه مصروف عن الحق والصواب { حَسَرَاتٍ } جمع حسرة وهي الغم الذي يلحق النفس على فوات الأمر، وفي المختار: الحسرةُ أشدُّ التلهف على الشيء الفاقد { ٱلنُّشُورُ } مصدر نشر الميت إذا حيي قال الأعشى:

حتى يقول الناس ممَّا رأوا يا عجباً للميّت الناشر

{ يَبُورُ } يهلك يقال: بار يبور أي هلك وبطل، والبوار: الهلاك { فُرَاتٌ } حلو شديد الحلاوة { أُجَاجٌ } شديد الملوحة قال في القاموس: أجَّ الماء أُجوجاً إذا اشتدت ملوحته { قِطْمِيرٍ } القمطير: القشرة الرقيقة البيضاء التي بين التمرة والنواة.
التفسِير: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي الثناء الكامل، والذكر الحسن، مع التعظيم والتبجيل لله جلَّ وعلا، خالق السماوات والأرض ومنشئها ومخترعها من غير مثالٍ سبق، قال البيضاوي: { فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي مبدعهما وموجدهما على غير مثال { جَاعِلِ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً } أي جاعل الملائكة وسائط بين الله وأنبيائه لتبليغهم أوامر الله، قال ابن الجوزي: يرسلهم إلى الأنبياء وإِلى ما شاء من الأمور { أُوْلِيۤ أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } أي أصحاب أجنحة، قال قتادة: بعضهم له جناحان وبعضهم له ثلاثة، وبعضهم له أربعة، ينزلون بها من السماء إلى الأرض، ويعرجون بها إلى السماء { يَزِيدُ فِي ٱلْخَلْقِ مَا يَشَآءُ } اي يزيد في خلق الملائكة كيف يشاء، من ضخامة الأجسام، وتفاوت الأشكال، وتعدد الأجنحة، وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل ليلة الإِسراء وله ستمائة جناح، بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب وقال قتادة: { يَزِيدُ فِي ٱلْخَلْقِ مَا يَشَآءُ } الملاحةُ في العينين، والحسنُ في الأنف، والحلاوة في الفم { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي هو تعالى قادر على ما يريد، له الأمر والقوة والسلطان، لا يمتنع عليه فعل شيءٍ أراده، ولا يتأبى عليه خلق شيء أراده، وصف تعالى نفسه في هذه الآيات بصفتين جليلتين تحمل كل منهما صفة القدرة وكمال الإِنعام الأولى: أنه فاطر السماوات والأرض أي خالقهما ومبدعهما من غير مثالٍ يحتذيه، ولا قانون ينتحية، وفي ذلك دلالة على كمال قدرته، وشمول نعمته، فهو الذي رفع السماء بغير عمد، وجعلها مستويةً من غير أوَد، وزينها بالكواكب والنجوم، وهو الذي بسط الأرض، وأودعها الأرزاق والأقوات، وبثَّ فيها البحار والأنهار، وفجَّر فيها العيون والآبار، إلى غير ما هنالك من آثار قدرته العظيمة، وآثار صنعته البديعة، وعبَّر عن ذلك كله بقوله: { فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } والثانية: اختيار الملائكة ليكونوا رسلاًَ بينه وبين أنبيائه، وقد أشار إلى طرفٍ من عظمته وكمال قدرته جل وعلا بأن خلق الملائكة بأشكال عجيبة، وصور غريبة، وأجنحة عديدة، فمنهم من له جناحان ومنهم من له ثلاثة، ومنهم من له أربعة، ومنهم من له ستمائة جناح، ما بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب، كما هو وصف جبريل عليه السلام، ومنهم من لا يعلم حقيقة خِلقته وضخامة صورته إلا الله جل وعلا، فقد روى الزهري أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا محمد كيف لو رأيت إسرافيل! إنَّ له لاثنيْ عشر ألف جناح، منها جناح بالمشرق وجناح بالمغرب، وإِن العرش لعلى كاهله" ولو كشف لنا الحجاب لرأينا العجب العجاب، فسبحان الله ما أعظم خلقه، وما أبدع صنعه!! ثم بيَّن تعالى نفاذ مشيئته، ونفوذ أمره في هذا العالم الذي فطره ومن فيه، وأخضعه لإِرادته وتصرفه فقال: { مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا } أيْ أيُّ شيء يمنحه الله لعباده ويتفضل به عليهم من خزائن رحمته، من نعمةٍ، وصحةٍ، وأمنٍ، وعلمٍ، وحكمةٍ، ورزقٍ، وإِرسال رسلٍ لهداية الخلق، وغير ذلك من صنوف نعمائه التي لا يحيط بها عدٌّ، فلا يقدر أحدٌ على إِمساكه وحرمان خلق الله منه، فهو الملك الوهاب الذي لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع { وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } أيْ وأيُّ شيء يمسكه ويحبسه عن خلقه من خيري الدنيا والآخرة، فلا أحد يقدر على منحه للعباد بعد أن أمسكه جلا علا { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } أي هو تعالى الغالب على كل شيء، الحكيم في صنعه، الذي يفعل ما يريد على مقتضى الحكمة والمصلحة، قال المفسرون: والفتحُ والإِمساك عبارة عن العطاء والمنع، فهو الذي يضر وينفع، ويعطي ويمنع، وفي الحديث:
"أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد: اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد" ثم ذكَّرهم تعالى بنعمه الجليلة عليهم فقال: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } أي اشكروا ربكم على نعمه التي لا تُعدُّ ولا تُحْصى التي أنعم بها عليكم، قال الزمخشري: ليس المراد بذكر النعمة ذكرها باللسان فقط، ولكن المراد حفظها من الكفران، وشكرها بمعرفة حقها، والاعتراف بها، وإِطاعة موليها، ومنه قول الرجل لمن أنعم عليه: أذكرْ أياديَّ عندك { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ ٱللَّهِ } استفهام إِنكاري بمعنى النفي أي لا خالق غيره تعالى، لا ما تعبدون من الأصنام { يَرْزُقُكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ } أي حال كونه تعالى هو المنعم على العباد بالرزق والعطاء، فهو الذي ينزل المطر من السماء، ويخرج النبات من الأرض، فكيف تشركون معه ما لا يخلق ولا يرزق من الأوثان والأصنام؟ ولهذا قال تعالى بعده { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } أي لا ربَّ ولا معبود إلا اللهُ الواحد الأحد { فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ } أي فكيف تُصرفون بعد هذا البيان، ووضوح البرهان، إلى عبادة الأوثان؟ والغرض: تذكير الناس بنعم الله، وإِقامة الحجة على المشركين، قال ابن كثير: نبه تعالى عباده وأرشدهم إلى الاستدلال على توحيده، بوجوب إِفراد العبادة له، فكما أنه المستقل بالخلق والرزق، فكذلك يجب أن يُفرد بالعبادة، ولا يُشرك به غيره من الأصنام والأوثان { وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ } تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم على تكذيب قومه له والمعنى: وإن يكذبك يا محمد هؤلاء المشركون فلا تحزن لتكذيبهم، فهذه سنة الله في الأنبياء من قبلك، فقد كُذّبوا وأُوذوا حتى أتاهم نصرنا، فلك بهم أسوة، ولا بدَّ أن ينصرك الله عليهم { وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ } أي إلى الله تعالى وحده مرجع أمرك وأمرهم، وسيجازي كلاً بعمله، وفيه وعيد وتهديد للمكذبين. ثم ذكَّرهم تعالى بذلك الموعد المحقَّق فقال: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ } أي إِن وعده لكم بالبعث والجزاء حقٌّ ثابتٌ لا محالة لا خُلف فيه { فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا } أي فلا تلهكم الحياة الدنيا بزخرفها ونعيمها عن الحياة الآخرة، قال ابن كثير: أي لا تتلهَّوا عن تلك الحياة الباقية، بهذه الزهرة الفانية { وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ } أي ولا يخدعنكم الشيطان المبالغ في الغرور فيطمعكم في عفو الله وكرمه، ويمنيكم بالمغفرة مع الإِصرار على المعاصي. ثم بيَّن تعالى عداوة الشيطان للإِنسان فقال: { إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّاً } أي إِن الشيطان لكم أيها الناس عدوٌ لدود، وعداوته قديمة لا تكاد تزول فعادوه كما عاداكم ولا تطيعوه، وكونوا على حذرٍ منه قال بعض العارفين: يا عجباً لمن عصى المحسن بعد معرفته بإِحسانه، وأطاع اللعين بعد معرفته بعداوته { إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } أي إِنما غرضه أن يقذف بأتباعه في نار جهنم المستعرة التي تشوي الوجوه والجلود، لا غرض له إلا هذا، فهل يليق بالعاقل أن يستجيب لنداء الشيطان اللعين؟ قال الطبري: أي إنما يدعو شيعته ليكونوا من المخلدين في نار جهنم التي تتوقد على أهلها { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } أي الذين جحدوا بالله ورسله لهم عذاب دائم شديد لا يُقادر قدره، ولا يوصف هولُه { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } أي جمعوا بين الإِيمان والعمل الصالح { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } أي لهم عند ربهم مغفرةٌ لذنوبهم، وأجر كبير وهو الجنة، وإِنما قرن الإِيمان بالعمل الصالح ليشير إِلى أنهما لا يفترقان، فالإِيمان تصديقٌ، وقول، وعمل { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوۤءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً } الاستفهام للإِنكار وجوابه محذوف والتقدير أفمن زيَّن له الشيطان عمله السيء حتى رآه حسناً واستحسن ما هو عليه من الكفر والضلال، كمن استقبحه واجتنبه واختار طريق الإِيمان؟ ودلَّ على هذا الحذف قوله تعالى { فَإِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ } أي الكلُّ بمشيئة الله، فهو تعالى الذي يصرف من يشاء عن طريق الهدى، ويهدي من يشاء بتوفيقه للعمل الصالح والإِيمان { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } أي فلا تغتمَّ يا محمد ولا تُهلك نفسك حسرةً على تركهم الإِيمان { إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } أي هو جل وعلا العالم بما يصنع هؤلاء من القبائح ومجازيهم عليها، وفيه وعيد لهم بالعقاب على سوء صنيعهم { وَٱللَّهُ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ } أي والله تعالى بقدرته هو الذي أرسل الرياح مبشرة بنزول المطر { فَتُثِيرُ سَحَاباً } أي فحركت السحاب وأهاجته، والتعبيرُ بالمضارع عن الماضي { فَتُثِيرُ } لاستحضار تلك الصورة البديعة، الدالة على كمال القدرة والحكمة { فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ } أي فسقنا السحاب الذي يحمل الغيث إلى بلدٍ مجدب قاحل { فَأَحْيَيْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } فيه حذفٌ تقديره فأنزلنا به الماء فأحيينا به الأرض بعد جدبها ويبسها { كَذَلِكَ ٱلنُّشُورُ } أي كما أحيا الله الأرض الميتة بالماء، كذلك يحيي الموتى من قبورهم، روى الإِمام أحمد عن أبي رُزين العقيلي قال "قلت يا رسول الله: كيف يُحْيِي اللهُ الموتى؟ وما آيةُ ذلك في خلقه؟ فقال: أما مررتَ بوادي أهلك مُمْحلاً، ثم مررتَ به يهتز خضراً؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: فكذلك يُحْيِي اللهُ الموتى، وتلك آيتهُ في خلقه" قال ابن كثير: كثيراً ما يستدل تعالى على المعاد بإِحيائه الأرض بعد موتها، فإِن الأرض تكون ميتة هامدة لا نبات فيها، فإِذا أرسل الله إِليها السحاب تحمل الماء وأنزله عليها { ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [الحج: 5] كذلك الأجساد إِذا أراد الله بعثها ونشورها، ثمَّ نبَّه تعالى عباده إِلى السبيل الذي تُنال به العزة فقال { مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعاً } أي من كان يطلب العزة الكاملة، والسعادة الشاملة، فليطلبها من الله تعالى وحده، فإن العزة كلَّها لله جلَّ وعلا قال بعض العارفين : من أراد عزَّ الدارين فليطع العزيز { إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ } أي إليه جلَّ وعلا يرتفع كل كلام طيب من ذكر، ودعاءٍ، وتلاوة قرآن، وتسبيح وتمجيد ونحوه قال الطبري: إلى الله يصعد ذكرُ العبد إيَّاه وثناؤه عليه { وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } أي والعمل الصالح يتقبله الله تعالى ويثيب صاحبه عليه قال قتادة: لا يقبل الله قولاً إلاَّ بعمل، من قال وأحسن العمل قبل الله منه، نقله الطبري { وَٱلَّذِينَ يَمْكُرُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } هذا بيانٌ للكلم الخبيث بعد بيان حال الكلام الطيب أي والذين يحتالون بالمكر والخديعة لإِطفاء نور الله، والكيد للإِسلام والمسلمين، لهم في الآخرة عذاب شديد في نار جهنم { وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ } أي ومكر أولئك المجرمين هالكٌ وباطل، لأنه ما أسرَّ أحد سوءاً ودبَّره إلا أبداه الله وأظهره { وَلاَ يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ } [فاطر: 43] قال المفسرون: والإِشارة هنا إلى مكر قريشٍ برسول الله صلى الله عليه وسلم حين اجتمعوا في دار الندوة وأرادوا أن يقتلوه، أو يحبسوه، أو يخرجوه كما حكى القرآن الكريم { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ } [الأَنفال: 30] ثم ذكَّرهم تعالى بدلائل التوحيد والبعث، بعد أن ذكَّرهم بآيات قدرته وعزته فقال { وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ } أي خلق أصلكم وهو آدم من تراب { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } أي ثم خلق ذريته من ماءٍ مهين وهو المنيُّ الذي يُصبُّ في الرحم { ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً } أي خلقكم ذكوراً وإِناثاً، وزوَّج بعضكم من بعضٍ ليتم البقاء في الدنيا إلى انقضائها قال الطبري: أي زوَّج منهم الأنثى من الذكر { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىٰ وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ } أي وما تحمل أنثى في بطنها من جنين، ولا تلد إِلاَّ بعلمه تعالى، يعلم أذكر هو أو أُنثى، ويعلم أطوار هذا الجنين في بطن أمه، لا يخفى عليه شيء من أحواله { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ } أي وما يطول عُمر أحدٍ من الخلق فيصبح هرماً، ولا يُنقص من عُمر أحد فيموت وهو صغير أو شاب إلا وهو مسجَّل في اللوح المحفوظ، لا يُزاد فيما كتب الله ولا يُنقص { إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } أي سهلٌ هيّن، لأن الله قد أحاط بكل شيء علماً، ثم ضرب تعالى مثلاً للمؤمن والكافر فقال: { وَمَا يَسْتَوِي ٱلْبَحْرَانِ } أي وما يستوي ماء البحر وماء النهر { هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ } أي هذا ماء حلوٌ شديد الحلاوة يكسر وهج العطش، ويسهل انحداره في الحلق لعذوبته { وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } أي وهذا ماءٌ شديد الملوحة، يُحرق حلق الشارب لمرارته وشدة ملوحته، فكما لا يتساوى البحران: العذبُ، والملح، فكذلك لا يتساوى المؤمن مع الكافر، ولا البرُّ مع الفاجر، قال أبو السعود: هذا مثلٌ ضُرب للمؤمن والكافر، والفراتُ الذي يكسر العطش، والسائغ الذي يسهل انحداره لعذوبته، والأُجاج الذي يُحرق بملوحته { وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً } أي وما كل واحدٍ منهما تأكلون سمكاً غضاً طرياً، مختلف الأنواع والطعوم والأشكال { وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } أي وتستخرجون منهما اللؤلؤ والمرجان للزينة والتحلي { وَتَرَى ٱلْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ } أي وترى أيها المخاطب السفن العظيمة، تمخرُ عُباب البحر مقبلة ومدبرة، تحمل على ظهرها الأثقال والبضائع والرجال، وهي لا تغرق فيه لأنها بتسخير الله جل وعلا { لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } أي لتطلبوا بركوبكم هذه السفن العظيمة من فضل الله بأنواع التجارات، والسفر إلى البلدان البعيدة في مدة قريبة { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي ولكي تشكروا ربكم على إنعامه وإِفضاله في تسخيره ذلك لكم، ثم انتقل إلى آية آخرى من آيات قدرته وسلطانه في الآفاق فقال { يُولِجُ ٱلْلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ } أي يدخل الليلَ في النهار، ويدخل النهار في الليل، فيضيف من هذا إلى هذا وبالعكس، فيتفاوت بذلك طول الليل والنهار بالزيادة والنقصان، حسب الفصول والأمصار، حتى يصل النهار صيفاً - في بعض البلدان - إلى ستة عشرة ساعة، وينقص الليل حتى يصل إلى ثمان ساعات - آيةٌ من آيات الله تُشاهد لا يستطيع إِنكارها جاحد أو مؤمن، ويحس بآثارها الأعمى والبصير.. آيةٌ شاهدة على قدرة الله، ودقة تصرفه في خلقه، وهذه الظاهرة الكونية دستور لا يتغيَّر، ونظام محكم لا يأتي بطريق الصدفة، وإِنما هو من صنع الله الذي أتقن كل شيء خلقه، فسبحان المدبر الحكيم العليم!! { وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى } أي ذلَّلهما لمصالح العباد، كل منهما يسير ويدور في مداره الذي قدَّره الله له لا يتعداه، إِلى أجلٍ معلوم هو يوم القيامة { ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ } أي ذلكم الفاعل لهذه الأمور البديعة، هو ربكم العظيم الشأن، الذي له المُلك والسلطان والتصرف الكامل في الخلق { وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ } أي والذين تعبدون من دون الله من الأوثان والأصنام لا يملكون شيئاً ولو بمقدار القطمير، وهو القشرة الرقيقة التي بين التمرة والنواة قال المفسرون: وهو مثلٌ يضرب في القلة والحقارة، والأصنامُ لضعفها، وَهَوان شأنها وعجزها عن أي تصرف صارت مضرب المثل في حقارتها بأنها لا تملك فتيلاً ولا قطميراً، ثم أكد تعالى ذلك بقوله: { إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ } أي إن دعوتم هذه الأصنام لم يسمعوا دعاءكم ولم يستجيبوا لندائكم، لأنها جمادات لا تسمع ولا تفهم { وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ } أي ولو سمعوا لدعائكم - على الفرض والتسليم - ما استجابوا لكم لأنها ليست ناطقة فتجيب { وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ } أي وفي الآخرة حين ينطقهم الله يتبرءون منكم ومن عبادتكم إياهم { وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } أي ولا يخبرك يا محمد على وجه اليقين أحدٌ إلا أنا - الله - الخالق العليم الخبير، قال قتادة: يعني نفسه عز وجل.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان نوجزها فيما يلي:
1- الاستعارة التمثيلية { مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا } شبَّه فيه إِرسال النعم بفتح الخزائن للإِعطاء وكذلك حبس النعم بالإِمساك، واستعير الفتح للإِطلاق والإِمساك للمنع.
2- الطباق بين { يَفْتَحِ ..و.. يُمْسِكْ } وكذلك بين { يُضِلُّ ..و.. يَهْدِي } وبين { تَحْمِلُ ..و.. تَضَعُ } وبين { يُعَمَّرُ ..و.. يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ }.
3- المقابلة بين جزاء الأبرار والفجار { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ .. وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } وكذلك بين قوله { هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ .. وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } وكل من الطباق والمقابلة من المحسنات البديعية إلا أن الأول يكون بين شيئين والثاني بين أكثر.
4- حذف الجواب لدلالة اللفظ عليه { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوۤءُ عَمَلِهِ }؟ حذف منه ما يقابله أي كمن لم يُزين له سوء عمله؟ ودّل على هذا المحذوف قوله { فَإِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ }.
5- الإِطناب بتكرار الفعل { فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا } ثم قال { وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ }.
6- الكناية { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } كناية عن الهلاك لأن النفس إذا ذهبت هلك الإِنسان.
7- الالتفات من الغيبة إلى التكلم للإِشعار بالعظمة { أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ }.
8- السجع لما له من وقع حسن على السمع مثل { لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } وأمثال ذلك وهو من المحسنات البديعية.