التفاسير

< >
عرض

أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ ٱلزَّقُّومِ
٦٢
إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ
٦٣
إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِيۤ أَصْلِ ٱلْجَحِيمِ
٦٤
طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ ٱلشَّيَاطِينِ
٦٥
فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا ٱلْبُطُونَ
٦٦
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ
٦٧
ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى ٱلْجَحِيمِ
٦٨
إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ آبَآءَهُمْ ضَآلِّينَ
٦٩
فَهُمْ عَلَىٰ آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ
٧٠
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ ٱلأَوَّلِينَ
٧١
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ
٧٢
فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُنذَرِينَ
٧٣
إِلاَّ عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلْمُخْلَصِينَ
٧٤
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ ٱلْمُجِيبُونَ
٧٥
وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ ٱلْكَرْبِ ٱلْعَظِيمِ
٧٦
وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ ٱلْبَاقِينَ
٧٧
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي ٱلآخِرِينَ
٧٨
سَلاَمٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي ٱلْعَالَمِينَ
٧٩
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ
٨٠
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُؤْمِنِينَ
٨١
ثُمَّ أَغْرَقْنَا ٱلآخَرِينَ
٨٢
وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ
٨٣
إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ
٨٤
إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ
٨٥
أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ ٱللَّهِ تُرِيدُونَ
٨٦
فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٨٧
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي ٱلنُّجُومِ
٨٨
فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ
٨٩
فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ
٩٠
فَرَاغَ إِلَىٰ آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ
٩١
مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ
٩٢
فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِٱلْيَمِينِ
٩٣
فَأَقْبَلُوۤاْ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ
٩٤
قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ
٩٥
وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ
٩٦
قَالُواْ ٱبْنُواْ لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي ٱلْجَحِيمِ
٩٧
فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ ٱلأَسْفَلِينَ
٩٨
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ
٩٩
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ ٱلصَّالِحِينَ
١٠٠
فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ
١٠١
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْيَ قَالَ يٰبُنَيَّ إِنِّيۤ أَرَىٰ فِي ٱلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يٰأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّابِرِينَ
١٠٢
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ
١٠٣
وَنَادَيْنَاهُ أَن يٰإِبْرَاهِيمُ
١٠٤
قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ
١٠٥
إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْبَلاَءُ ٱلْمُبِينُ
١٠٦
وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ
١٠٧
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي ٱلآخِرِينَ
١٠٨
سَلاَمٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ
١٠٩
كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ
١١٠
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُؤْمِنِينَ
١١١
وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ
١١٢
وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ
١١٣
-الصافات

صفوة التفاسير

المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى ما أعده للأبرار في دار النعيم، ذكر ما أعده للأشرار في دار الجحيم، ليظهر التمييز بين الفريقين، ثم ذكر قصة "نوح" وقصة "إِبراهيم" وما فيهما من العظات والعبر للمعتبرين.
اللغَة: { نُّزُلاً } النُّزُل: الضيافة والتكرمة، وأصله ما يُعد للأضياف من الطعام والشراب وغيرهما { طَلْعُهَا } ثمرها، سُمي طلعاً لطلوعه { لَشَوْباً } خلطاً ومزاجاً من شاب الطعام يشوبه إِذا خلطه بشيء آخر { يُهْرَعُونَ } يُسرعون قال الفراء: الإِهراع: الإِسراع مع رعدة، وقال المبرّد: المُهرع: المستحثُّ يقال: جاء فلان يُهرعون إِلى النار، إِذا استحثَّه البرد إِليها { شِيعَتِهِ } شيعة الرجل أعوانه وأنصاره، ومن سار على طريقته ومنهاجه { إِفْكاً } كذباً وباطلاً { سَقِيمٌ } مريض وعليل { رَاغَ } راغ إِليه: أقبل عليه ومال نحوه خفيةً وأصله من الميل قال الشاعر:

ويُريك من طَرف اللسان حلاوةً ويروغ فيك كما يروغ الثعلب

{ يَزِفُّونَ } يُسرعون في مشيهم { وَتَلَّهُ } صرعه وكبَّه على وجهه.
التفسِير: { أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ ٱلزَّقُّومِ } أي أنعيم الجنة خيرٌ ضيافةً وعطاءً أم شجرة الزقوم التي في جهنم؟ أيهما خيرٌ وأفضل؟ فالفواكه والثمار طعام أهل الجنة، وشجرة الزقوم طعام أهل النار، والغرض منه توبيخ الكفار { إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ } أي إِنا جعلنا شجرة الزقوم فتنةً وابتلاءً لأهل الضلالة قال المفسرون: لما سمع الكفارُ ذكر شجرة الزقوم قالوا: كيف يكون في النار شجرة، والنار تُحرق الشجر؟ وكان أبو جهل يقول لأصحابه: أتدرون ما الزقوم؟ إِنه الزُّبد والتمر، ثم يأتيهم به ويقول: تزقَّموا، هذا الذي يخوفنا به محمد { إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِيۤ أَصْلِ ٱلْجَحِيمِ } أي تنبت في قعر جهنم ثم هي متفرعة فيها { طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ ٱلشَّيَاطِينِ } أي ثمرها وحملها كأنه رءوس الشياطين في تناهي القبح والبشاعة قال ابن كثير: وإِنما شبهها برءوس الشياطين، وإِن لم تكن معروفة عند المخاطبين، لأنه قد استقر في النفوس أن الشياطين قبيحة المنظر { فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا ٱلْبُطُونَ } أي فإِن هؤلاء الكفار لشدة جوعهم مضطرون إلى الأكل منها حتى تمتلىء منها بطونهم، فهي طعامهم وفاكهتهم بدل رزق أهل الجنة، وفي الحديث
"لو أن قطرةً من الزقوم قطرت في بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم، فكيف بمن تكون طعامه" { ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ } أي ثم إِن لهم بعدما شبعوا منها وغلبهم العطش لمزاجاً من ماء حار قد انتهت حرارته يشاب به الطعام - أي يخلط - ليجمع لهم بين مرارة الزقوم، وحرارة الحميم، تغليظاً لعذابهم { ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى ٱلْجَحِيمِ } أي ثم مصيرهم ومرجعهم إلى دركات الجحيم قال مقاتل: الحميم خارج الجحيم، فهم يوردون الحميم لشربه ثم يردون إلى الجحيم وقال أبو السعود: الزقوم والحميم نُزل يُقدَّم إِليهم قبل دخولها { إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ آبَآءَهُمْ ضَآلِّينَ } أي وجدوهم على الضلالة فاقتدوا بهم { فَهُمْ عَلَىٰ آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ } أي فهم يُسرعون في اتباع خطاهم من غير دليل ولا برهان قال مجاهد: شبَّهه بالهرولة كمن يُسرع إِسراعاً نحو الشيء { وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ ٱلأَوَّلِينَ } أي ضلَّ قبل قومك أكثر الأمم الماضية { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ } أي أرسلنا فيهم رسلاً كثيرين يخوفونهم من عذاب الله ولكنهم تمادوا في الغيّ والضلال { فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُنذَرِينَ } أي فانظر يا محمد كيف كان مصير أمر هؤلاء المكذبين؟ ألم نهلكهم فنضيرهم عبرةً للعباد؟ { إِلاَّ عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلْمُخْلَصِينَ } أي لكنْ عبادَ الله المؤمنين الذين أخلصهم تعالى لطاعته فإِنهم نجوا من العذاب.. ثم شرع في بيان قصة نوح فقال { وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ ٱلْمُجِيبُونَ } اللام موطئة للقسم أي وبالله لقد استغاث بنا نوحٌ لما كذبه قومه فلنعم المجيبون نحن له، وصيغة الجمع { ٱلْمُجِيبُونَ } للعظمة والكبرياء قال الصاوي: ذكر تعالى في هذه السورة سبع قصص: قصة نوح، وقصة إبراهيم، وقصة الذبيح إسماعيل، وقصة موسى وهارون، وقصة إلياس، وقصة لوط، وقصة يونس، وكل ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم وتحذيراً لمن كفر من أمته { وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ ٱلْكَرْبِ ٱلْعَظِيمِ } أي ونجيناه ومن آمن معه من أهلُه وأتباعُه - من الغرق قال المفسرون: وكانوا ثمانين ما بين رجل وامرأة { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ ٱلْبَاقِينَ } أي وجعلنا ذرية نوح هم الذين بقوا في الأرض بعد هلاك قومه قال ابن عباس: أهل الأرض كلُّهم من ذرية نوح قال في التسهيل: وذلك لأنه لما غرق الناس في الطوفان، ونجا نوح ومن كان معه في السفينة، تناسل الناسُ من أولاده الثلاثة "سام، وحام، ويافث" { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي ٱلآخِرِينَ } أي تركنا عليه ثناءً حسناً في كل أمة إلى يوم القيامة { سَلاَمٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي ٱلْعَالَمِينَ } أي سلام عاطر من الله تعالى والخلائق على نوح باقٍ على الدوام بدون انقطاع { إنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ } أي هكذا نجزي من أحسن من العباد، نبقي له الذكر الجميل إلى آخر الدهر { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي كان مخلصاً في العبودية لله، كامل الإِيمان واليقين قال في حاشية البيضاوي: علَّل هذه التكرمة السنية بكونه من أُولي الإِحسان، ثم علَّل كونه محسناً بأنه كان عبداً مؤمناً، إظهاراً لجلالة قدر الإِيمان وأصالة أمره، وجعل الدنيا مملوءةً من ذريته تبقية لذكره الجميل في ألسنة العالمين { ثُمَّ أَغْرَقْنَا ٱلآخَرِينَ } أي أغرقنا الكافرين الذين لم يؤمنوا بنوح عن آخرهم، فلم تبق منهم عينٌ تطرف ولا ذكرٌ ولا أثر.. ثم شرع تعالى في بيان قصة إبراهيم فقال { وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ } أي وإِن من أنصار نوح واعوانه وممن كان على منهاجه وسنته إبراهيم الخليل، قال البيضاوي: وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة، وكان بينهما نبيان هما "هود" و"صالح" صلوات الله عليهم أجمعين { إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } أي حين جاء ربه بقلبٍ نقي طاهر، مُخلص من الشك والشرك { إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ } أي حين قال لأبيه آزر وقومه موبخاً لهم: ما الذي تعبدونه من الأوثان والأصنام؟ وهو إِنكار لهم وتوبيخ { أَءِفْكاً آلِهَةً دُونَ ٱللَّهِ تُرِيدُونَ }؟ أي أتعبدون آلهة من دون الله من أجل الإِفك والكذب والزور؟ وإِنما قدَّم المفعول لأجله { أَءِفْكاً } على المفعول به لأجل التقبيح عليهم بأنهم على إِفكٍ وباطل في شركهم والأصل: أتريدون آلهة من دون الله إفكاً؟ قال القرطبي: والإِفكُ أسوأ الكذب وهو الذي لا يثبتُ ويضطرب { فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } استفهام توبيخ وتحذير أيْ أيَّ شيءٍ تظنون بربِّ العالمين؟ هل تظنون أنه يترككم بلا عقاب وقد عبدتم غيره؟ قال الطبري: المعنى أيَّ شيءٍ تظنون أيها القوم أنه يصنع بكم إن لقيتموه وقد عبدتم غيره؟ { فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي ٱلنُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ } لما وبخهم على عبادة غير الله أراد أن يريهم أن أصنامهم لا تضر ولا تنفع، وأراد أن يخلو بها حتى يكسرها، فاحتال للبقاء وعدم الخروج معهم إلى العيد، فنظر في السماء - على عادتهم حيث كانوا نجامين - وأوهمهم أن النجوم تدل على أنه سيسقم غداً فقال: إِني سقيم أي سأمرض إِن خرجتُ معكم، وهذا ليس بكذبٍ وإِنما هو من المعاريض الجائزة لمقصد شرعي كما ورد "إِنَّ في المعاريض لمندوحةً عن الكذب" أو أراد أنه سقيم القلب من عبادتهم للأوثان { فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ } أي فتركوه إِعراضاً عنه وخرجوا إِلى عيدهم { فَرَاغَ إِلَىٰ آلِهَتِهِمْ } أي فلما ذهبوا وتركوه توجه إلى الأصنام ومال إليها في خفية قال ابن كثير: أي ذهب إليها بعد ما خرجوا في سرعةٍ واختفاء { فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ }؟ أي ألا تأكلون من هذا الطعام؟ قال ابن كثير: وذلك أنهم كانوا قد وضعوا بين أيديها طعاماً قرباناً لتُبارك لهم فيه { مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ }؟ أي ما لكم لا تجيبوني على سؤالي قال أبو حيان: وعرضُ الأكل عليها واستفهامها عن النطق إِنما هو على سبيل الهزء، لأنها منحطةٌ عن رتبة عابديها إِذ هم يأكلون وينطقون بخلافها { فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِٱلْيَمِينِ } أي فأقبل على الأصنام مستخفياً يحطمها بيمينه بفأسٍ كان معه قال البيضاوي: وتقييدُه باليمين للدلالة على قوته، وقوةُ الآلة تستدعي قوة الفعل وقال القرطبي: خصَّ الضرب باليمين لأنها أقوى والضربُ بها أشد { فَأَقْبَلُوۤاْ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ } أي أقبلوا نحوه مسرعين كأن بعضهم يدفع بعضاً، فلما أدركوه قالوا: ويحكَ نحن نعبدها وأنت تكسرها؟ فأجابهم موبخاً { قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ }؟ أي أتعبدون أصناماً نحتموها بأيديكم، وصنعتموها بأنفسكم؟ { وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } أي واللهُ جل وعلا خلقكم وخلق عملكم، وكلُّ الأشياء مخلوقة له، فكيف تعبدون المخلوق وتتركون الخالق، أليس لكم عقل أيها الناسُ؟ قال ابن جزي: ذهب بعض المفسرين إلى أن { ما } مصدرية والمعنى: اللهُ خلقكم وأعمالكم، وهذه الآية عندهم قاعدةٌ في خلق أفعال العباد، وذهب بعضهم إلى أن { ما } موصولة بمعنى الذي والمعنى: خلقكم وخلق أصنامكم التي تعملونها، وهذا أليقٌ بسياق الكلام، وأقوى في قصد الاحتجاج على الذين عبدوا الأصنام. { قَالُواْ ٱبْنُواْ لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي ٱلْجَحِيمِ } أي ابنوا له مكاناً وأضرموه ناراً ثم ألقوه في تلك النار المتأججة المستعرة قال المفسرون: لما غلبهم إبراهيم عليه السلام في الحجة، مالوا إلى الغلبة بقوة البطش والشدة، وتشاوروا فيما بينهم ثم قرروا أن يطرحوه في النار انتصاراً لأصنامهم وآلهتهم { فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ ٱلأَسْفَلِينَ } أي أرادوا المكر بإبراهيم واحتالوا لإِهلاكه، فنجيناه من النار وجعلناها برداً وسلاماً عليه، وجعلناهم الأذلين المقهورين لأنه لم ينفذ فيه مكرهم، ولا كيدهم { وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ } لما نجاه الله من النار، وخلّصه من كيد الفجار، هجر قومه واعتزلهم والمعنى إني مهاجر من بلد قومي إلى حيث أمرني ربي قال مقاتل: هو أول من هاجر من الخلق مع سارة إلى أرض الشام { رَبِّ هَبْ لِي مِنَ ٱلصَّالِحِينَ } أي ارزقني ولداً من الصالحين يؤنسني في غُربتي قال ابن كثير: يريد أولاداً مطيعين يكونون عوضاً عن قومه وعشيرته الذين فارقهم { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ } أي فاستجبنا دعاءه وبشرناه بغلامٍ يكون حليماً في كبره قال أبو السعود: جمع الله له فيه بشارات ثلاث: بشارة أنه غلام، وأنه يبلغ أوان الحُلم، وأنه يكون حليماً، لأن الصغير لا يوصف بذلك، وأيُّ حلم يعادل حلمه عليه السلام حين عرض عليه أبوه الذبح فقال { قَالَ يٰأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّابِرِينَ } !! وجمهور المفسرين على أن هذا الغلام المبشر به هو "اسماعيل" لأن الله تعالى قال بعد تمام قصة الذبيح { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } فدل ذلك على أن الذبيح هو إسماعيل { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْيَ } أي فلما ترعرع وشبَّ وبلغ السنَّ الذي يمكنه أن يسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه قال المفسرون: وهو سن الثالثة عشرة { قَالَ يٰبُنَيَّ إِنِّيۤ أَرَىٰ فِي ٱلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ } أي إِني أُمرت في المنام أنْ أذبحك، قال ابن عباس: رؤيا الأنبياء وحيٌ وتلا الآية وقال محمد بن كعب: كانت الرسل يأتيهم الوحي من الله تعالى أيقاظاً ورقوداً، لأن الأنبياء تنام عيونهم ولا تنام قلوبهم { فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ }؟ أي فانظر في الأمر، ما رأيك فيه؟ قال ابن كثير: وإِنما أعلم ابنه بذلك ليكون أهون عليه، وليختبر صبره وجلَده وعزمه على طاعة الله تعالى وطاعة أبيه. فإِن قيل: لم شاوره في أمرٍ هو حتمٌ من الله؟ فالجواب: أنه لم يشاوره ليرجع إلى رأيه، ولكنْ ليعلم ما عنده فيثبت قلبه ويوطِّن نفسه على الصبر، فأجابه بأحسن جواب { قَالَ يٰأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّابِرِينَ } أي امض لما أمرك الله به من ذبحي، فستجدني صابراً إِن شاء الله، وهو جواب من أُوتي الحلم والصبر وامتثال الأمر، والرضا بقضاء الله { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } أي فلما استسلما - الأب والابن - لأمر الله، وصرعه على وجهه ليذبحه قال ابن عباس: { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } أكبَّه على وجهه { وَنَادَيْنَاهُ أَن يٰإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَآ } هذه جواب "لمَّا" والواو مقحمة أي ناديناه يا إِبراهيم قد نفَّذْت ما أُمرت به، وحصل المقصود من رؤياك بإِضجاعك ولدك للذبح، روي أنه أمرَّ السكين بقوته على حلقه مراراً فلم يقطع قال الصاوي: والحكمة في هذه القصة أن إبراهيم اتخذه الله تعالى خليلاً، فلما سأل ربه الولد ووهبه له تعلقت شعبةٌ من قلبه بمحبة ولده، فأُمر بذبح المحبوب لتظهر صفاء الخلة، فامتثل أمر ربه وقدَّم محبته على محبة ولده، قال ابن عباس: فلما عزم على ذبح ولده ورماه على شقه قال الإِبن: يا أبتِ اشدد رباطي حتى لا أضطرب، واكفف ثيابك لئلا ينتضح عليها شيءٌ من دمي فتراه أمي فتحزن، وأحدَّ شفرتك وأسرعْ بها على حلقي ليكون الموت أهونَ عليَّ، وإِذا أتيتَ أمي فاقْرئْها مني السلام، وإِن رأيتَ أن تردَّ قميصي عليها فافعل فإِنه عسى أن يكون أسلى لها عني، فقال له إبراهيم: نعم العونُ أنت يا بني على أمر الله { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ } تعليلٌ لتفريج الكربة أي كما فرجنا شدتك كذلك نجازي المحسنين بتفريج الشدة عنهم ونجعل لهم من أمرهم فرجاً ومخرجاً { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْبَلاَءُ ٱلْمُبِينُ } أي إِن هذا لهو الابتلاء والامتحان الشاق الواضح، الذي يتميز فيه المخلص من المنافق { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } أي وفديناه بكبشٍ عظيم من الجنة فداءً عنه قال ابن عباس: كبش عظيم قد رعى في الجنة أربعين خريفاً { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي ٱلآخِرِينَ } أي وأبقينا عليه ثناءً حسناً إلى يوم الدين { سَلاَمٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ } أي سلام منا على إِبراهيم عاطرٌ كريم { كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُؤْمِنِينَ } كرَّر ذكر الجزاء مبالغة في الثناء ثم علَّل ذلك بأنه كان من الراسخين في الإِيمان مع الإِيقان والاطمئنان { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } أي وبشرناه بغلامٍ آخر بعد تلك الحادثة هو إِسحاق الذي سيكون نبياً قال ابن عباس: بُشِّرَ بنبوته حين وُلد، وحين نُبّىء، وتكاد تكون الآية صريحةً في أن الذبيح هو "إِسماعيل" لا "إِسحاق" { وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ إِسْحَاقَ } أي أفضنا على إِبراهيم وإِسحاق بركات الدنيا والدين { وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ } أي ومن ذريتهما محسنٌ ومسيء قال الطبري: المحسنُ هو المؤمن، والظالم لنفسه هو الكافر وقال أبو حيان: وفي الآية وعيدٌ لليهود ومن كان من ذريتهما ممن لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وفيها دليل على أن البرَّ قد يلد الفاجر ولا يلحقه من ذلك عيب ولا منقصة.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1- الأسلوب التهكمي { أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ ٱلزَّقُّومِ }؟ التعبير بـ"خيرٌ" تهكم بهم.
2ـ الجناح الناقص { المُنذِرين.. والمُنْذَرين } لأن المراد بالأول الرسل، وبالثاني الأمم.
3ـ التشبيه { طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ ٱلشَّيَاطِينِ } أي في الهول والشناعة ويسمى تشبيهاً مرسلاً مجملاً.
4ـ الاستعارة التبعية { إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } شبَّه إقباله على ربه مخلصاً بقلبه بمن قدم علىالملك بتحفةٍ ثمينة جميلة ففاز بالرضى والقبول ففيه استعارة تبعية.
5ـ الطباق بين { مُحْسِنٌ.. وَظَالِمٌ }.
6ـ جناس الاشتقاق بين { ٱبْنُواْ .. بُنْيَاناً }.
7ـ الكناية اللطيفة { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي ٱلآخِرِينَ } كنَّى به عن الثناء الحسن الجميل.
8ـ مراعاة الفواصل مثل { وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } الخ وهو من المحسنات البديعية، وهو من خصائص القرآن وفيه من الروعة والجمال، وحسن الوقع على السمع ما يزيده روعةً وجمالاً.