التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ
٢٣
إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُواْ سَاحِرٌ كَـذَّابٌ
٢٤
فَلَمَّا جَآءَهُمْ بِٱلْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ ٱقْتُلُوۤاْ أَبْنَآءَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ وَٱسْتَحْيُواْ نِسَآءَهُمْ وَمَا كَـيْدُ ٱلْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ
٢٥
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِيۤ أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّيۤ أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُـمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي ٱلأَرْضِ ٱلْفَسَادَ
٢٦
وَقَالَ مُوسَىٰ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُـمْ مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ ٱلْحِسَابِ
٢٧
وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ
٢٨
يٰقَومِ لَكُمُ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي ٱلأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ ٱللَّهِ إِن جَآءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أَرَىٰ وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ
٢٩
وَقَالَ ٱلَّذِيۤ آمَنَ يٰقَوْمِ إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِّثْلَ يَوْمِ ٱلأَحْزَابِ
٣٠
مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ
٣١
وَيٰقَوْمِ إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ ٱلتَّنَادِ
٣٢
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ
٣٣
وَلَقَدْ جَآءَكُـمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِٱلْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُـمْ بِهِ حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ ٱللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ
٣٤
ٱلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيۤ آيَاتِ ٱللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُـلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ
٣٥
وَقَالَ فَرْعَوْنُ يٰهَامَانُ ٱبْنِ لِي صَرْحاً لَّعَـلِّيۤ أَبْلُغُ ٱلأَسْبَابَ
٣٦
أَسْبَابَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَـٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَـذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوۤءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا كَـيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ
٣٧
وَقَالَ ٱلَّذِيۤ آمَنَ يٰقَوْمِ ٱتَّبِعُونِ أَهْدِكُـمْ سَبِيـلَ ٱلرَّشَـادِ
٣٨
يٰقَوْمِ إِنَّمَا هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ ٱلآخِرَةَ هِيَ دَارُ ٱلْقَـرَارِ
٣٩
مَنْ عَمِـلَ سَـيِّئَةً فَلاَ يُجْزَىٰ إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِـلَ صَالِحاً مِّن ذَكَـرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ
٤٠
وَيٰقَوْمِ مَا لِيۤ أَدْعُوكُـمْ إِلَى ٱلنَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِيۤ إِلَى ٱلنَّارِ
٤١
تَدْعُونَنِي لأَكْـفُرَ بِٱللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى ٱلْعَزِيزِ ٱلْغَفَّارِ
٤٢
لاَ جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِيۤ إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي ٱلدُّنْيَا وَلاَ فِي ٱلآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَآ إِلَى ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱلْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ
٤٣
فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُـمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِيۤ إِلَى ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ
٤٤
فَوقَاهُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَـرُواْ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوۤءُ ٱلْعَذَابِ
٤٥
ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُوۤاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ
٤٦
-غافر

صفوة التفاسير

المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى ما حلَّ بالكفار من العذاب والدمار، أردفه بذكر قصة موسى مع فرعون تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من الأذى والتكذيب، وبياناً لسنة الله تعالى في إهلاك الظالمين، ثم ذكر موقف مؤمن آل فرعون ونصيحته لقومه، وهي مواقف بطولية مشرِّفة في وجه الطغيان.
اللغَة: { ٱسْتَحْيُواْ } استبقوا بناتهم على قيد الحياة { ضَلاَلٍ } ضياع وبطلان { عُذْتُ } اعتصمت وتحصنتُ والتجأت { ظَاهِرِينَ } غالبين مستعلين { بَأْسِ ٱللَّهِ } عذابه وانتقامه { دَأْبِ } عادة وشأن { ٱلتَّنَادِ } يوم القيامة للنداء فيه إلى المحشر، أو لمناداة الناس بعضهم بعضاً قال أمية بن الصَّلت:

وبثَّ الخلق فيها إذ دحاها فهم سكَّانُها حتى التَّنادِ

{ عَاصِمٍ } مانع ودافع { صَرْحاً } قصراً وبناءً عظيماً عالياً { تَبَابٍ } خسران وهلاك { لاَ جَرَمَ } حقاً ولا محالة { حَاقَ } نزل وأحاط.
التفسِير: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } اللام موطئة للقسم أي والله لقد بعثنا رسولنا موسى بالآيات البينات، والدلائل الواضحات، وبالبرهان البيّن الظاهر وهو معجزة اليد والعصا { إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ } أي إلى فرعون الطاغية الجبار، ووزيره هامان، وقارون صاحب الكنوز والأموال قال في البحر: وخصَّ قارون وهامان بالذكر لمكانتهما في الكفر، ولأنهما أشهر أتباع فرعون { فَقَالُواْ سَاحِرٌ كَـذَّابٌ } أي فقالوا عن موسى إنه ساحر فيما أظهر من المعجزات، كذَّاب فيما ادعاه أنه من عند الله، وصيغة كذَّاب للمبالغة { فَلَمَّا جَآءَهُمْ بِٱلْحَقِّ مِنْ عِندِنَا } أي فلما جاءهم بالمعجزات الباهرة التي تدل على صدقه، والتي أيَّده الله بها { قَالُواْ ٱقْتُلُوۤاْ أَبْنَآءَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ وَٱسْتَحْيُواْ نِسَآءَهُمْ } أي اقتلوا الذكور لئلا يتناسلوا، واستبقوا الإِناث للخدمة قال الصاوي: وهذا القتلُ غيرُ الأول، لأن فرعون بعد ولادة موسى أمسك عن قتل الأولاد، فلما بُعث موسى وعجز عن معارضته أعاد القتل في الأولاد ليمتنع الناس من الإِيمان، ولئلا يكثر جمعهم فيكيدوه، فأرسل الله عليهم أنواع العذاب كالضفادع والقُمَّل والدم والطوفان، إلى أن خرجوا من مصر فأغرقهم الله تعالى وجعل كيدهم في نحورهم { وَمَا كَـيْدُ ٱلْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } أي وما تدبيرهم ومكرهم إلا في خسرانٍ وهلاك، لأن الله لا يُنجح سعيهم { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِيۤ أَقْتُلْ مُوسَىٰ } أي قال فرعون الجبار: اتركوني حتى أقتلْ لكم موسى { وَلْيَدْعُ رَبَّهُ } أي وليناد ربه حتى يخلصه مني، وإِنما ذكره على سبيل الاستهزاء وكأنه يقول: لا يهولنكم ما يذكر من ربه فإِنه لا حقيقة له وأنا ربكم الأعلى، وغرضُه أن يوهمهم بأنه إِنما امتنع عن قتله رعايةً لقلوب أصحابه قال أبو حيان: والظاهر أن فرعون لعنه الله كان قد استيقن أنه نبيٌ، وأن ما جاء به آياتٌ باهرة وما هو بسحر، ولكن الرجل كان فيه خبثٌ وجبروت وكان قتالاً سفاكاً للدماء لأهون شيء، فكيف لا يقتل من أحسَّ منه بأنه يثل عرشه ويهدم ملكه، ولكنه يخاف إن همَّ بقتله أن يُعاجل بالهلاك، وكان كلامه للتمويه على قومه وإيهامهم أنهم هم الذين يكفّونه، وما كان يكفُّه إلا شدةُ الخوف والفزع { إِنِّيۤ أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُـمْ } أي إني أخشى أن يغيّر ما أنتم عليه من عبادتكم لي إلى عبادة ربه { أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي ٱلأَرْضِ ٱلْفَسَادَ } أي أو أن يثير الفتن والقلاقل في بلدكم، ويكون بسببه الهرجُ، وهذا كما قال المثل "صار فرعون واعظاً" { وَقَالَ مُوسَىٰ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُـمْ } أي إني استجرتُ بالله واعتصمتُ به ليحفظني { مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ ٱلْحِسَابِ } أي من شر كل جبارٍ عنيد متكبر عن الإِيمان بالله، لا يصدِّق بالآخرة قال في التسهيل: وإِنما قال { مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ } ولم يذكره باسمه ليشمل فرعون وغيره، وليكون فيه وصفٌ لغير فرعون بذلك الوصف القبيح { وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ } قال المفسرون: كان هذا الرجل ابن عم فرعون وكان قبطياً يخفي إيمانه عن فرعون، فلما سمع قول الجبار متوعداً موسى بالقتل نصحهم بقوله { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ } استفهام إنكاري للتبكيت عليهم أي أتقتلون رجلاً لا ذنب له إلا لأجل أن قال: ربيَ الله من غير تفكرٍ ولا تأملٍ في أمره؟ { وَقَدْ جَآءَكُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ } أي والحال أنه قد أتاكم بالمعجزات الظاهرة التي شاهدتموها من عند ربكم { وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ } أي إن كان كاذباً في دعوى الرسالة فضرر كذبه لا يتعداه قال القرطبي: ولم يكن ذلك لشكٍ منه في رسالته وصدقه، ولكنْ تلطفاً في الاستكفاف، واستنزالاً عن الأذى { وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمْ } أي وإِن كان صادقاً في دعواه أصابكم بعضُ ما وعدكم به من العذاب { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } أي لا يوفق للهداية والإِيمان من هو مسرفٌ في الضلال، مبالغ في الكذب على الله قال الإِمام الفخر: وفي هذا إشارة إلى رفع شأن موسى لأن الله هداه وأيده بالمعجزات، وتعريضٌ بفرعون في أنه مسرفٌ في عزمه على قتل موسى، كذَّاب في إِقدامه على ادعاء الإِلهية، والله لا يهدي من هذا شأنه وصفته، بل يبطله ويهدم أمره وقال في البحر: هذا نوعٌ من أنواع علم البيان يسميه علماؤنا "استدراج المخاطب" وذلك أنه لما رأى فرعون قد عزم على قتل موسى، وقومه على تكذيبه، أراد الانتصار له بطريق يُخفي عليهم بها أنه متعصبٌ له، وأنه من أتباعه، فجاءهم بطريق النصح والملاطفة فقال { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً } ولم يذكر اسمه بل قال رجلاً ليوهمهم أنه لا يعرفه، ثم قال { أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ } ولم يقول رجلاً مؤمناً بالله أو هو نبيُ الله، إذ لو قال ذلك لعلموا أنه متعصب ولم يقبلوا قوله، ثم أتبعه بقوله { وَإِن يَكُ كَاذِباً } فقدَّم الكذب على الصدق موافقة لرأيهم فيه ثم تلاه بقوله { وَإِن يَكُ صَادِقاً } ولم يقل هو صادق وكذلك قال { يُصِبْكُمْ بَعْضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمْ } ولم يقل كلُّ ما يعدكم ولو قال ذلك لعلموا أنه متعصب له، وأنه يزعم نبوته وأنه يصدّقه، ثم أتبعه بكلام يفهم منه أنه ليس بمصدِّق له وهو قوله { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } وفيه تعريضٌ بفرعون، إذ هو في غاية الإِسراف والكذب على الله، إذْ ادعى الألوهية والربوبية { يٰقَومِ لَكُمُ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي ٱلأَرْضِ } كرر النصح مع التلطف والمعنى: أنتم غالبون عالون بني إسرائيل في أرض مصر قد قهرتموهم واستعبدتموهم اليوم { فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ ٱللَّهِ إِن جَآءَنَا } أي فمن ينقذنا من عذاب الله وينجينا منه إن قتلتم رسوله قال الرازي: وإِنما قال { يَنصُرُنَا } و{ جَآءَنَا } لأنه كان يُظهر لهم أنه منهم، وأنَّ الذي ينصحهم به هو مشارك لهم فيه.. وهنا تأخذ فرعون العزةُ بالإِثم، ويستبدُّ به الجبروت والطغيان { قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أَرَىٰ } أي ما أشير عليكم برأيٍ سوى ما ذكرتُه من قتل موسى حسماً لمادة الفتنة { وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ } أي وما أهديكم بهذا الرأي إلا طريق الصواب والصلاح { وَقَالَ ٱلَّذِيۤ آمَنَ يٰقَوْمِ إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِّثْلَ يَوْمِ ٱلأَحْزَابِ } أي أخشى عليكم مثل أيام العذاب التي عُذّب بها المتحزبون على الأنبياء { مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ } هذا تفسير للأحزاب أي مثل عادة قوم نوع وعاد وثمود وما أصابهم من العذاب والدمار بتكذيبهم لرسلهم { وَٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ } أي والمكذبين بعد أولئك كقوم لوط { وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ } أي لا يعاقب العباد بدون ذنب قال الزمخشري: أي إن تدميرهم كان عدلاً وقسطاً لأنهم استوجبوه بأعمالهم، وفيه مبالغة حيث جعل المنفي إرادة الظلم، ومن كان بعيداً عن إرادة الظلم، كان عن الظلم أبعد { وَيٰقَوْمِ إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ ٱلتَّنَادِ } خوَّفهم بعذاب الآخرة بعد أن خوفهم بعذاب الدنيا والمعنى إني أخاف عليكم من ذلك اليوم الرهيب يوم الحشر الأكبر، حيث ينادي المجرمون بالويل والثبور
{ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً } [الفرقان: 13] { يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ } أي تولون منهزمين من هول عذاب جهنم قال المفسرون: إن الكفار إذا سمعوا زفير النار أدبروا هاربين، فلا يأتون قطراً من الأقطار إلا وجدوا الملائكة يتلقونهم يضربون وجوههم، فيرجعون إلى مكانهم فتتلقفهم جنهم { مَا لَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ } أي ليس لكم مانع ولا دافع يصرف عنكم عذاب الله { وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } أي ومن يضلله اللهُ فليس له من يهديه إلى طريق النجاة { وَلَقَدْ جَآءَكُـمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِٱلْبَيِّنَاتِ } أي ووالله لقد جاءكم يوسف بن يعقوب من قبل موسى بالمعجزات الظاهرات { فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُـمْ بِهِ } أي فلم تزالوا شاكين في رسالته كافرين بما جاء به من عند الله قال المفسرون: المراد آباؤكم وأصولكم { حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ ٱللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً } أي حتى إذا مات قلتم على سبيل التشهيّ والتمني من غير حجة ولا برهان لن يأتي أحد يدعي الرسالة بعد يوسف قال أبو حيان: وليس هذا تصديقاً لرسالة يوسف، كيف وما زالوا في شك منه، وإِنما المعنى لا رسول من عند الله فيبعثه إلى الخلق، ففيه نفي الرسول ونفي بعثته { كَذَلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ } أي مثل ذلك الضلال الفظيع يُضلُّ الله كل مسرفٍ في العصيان، شاكٍّ في الدين، بعد وضوح الحجج والبراهين { ٱلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيۤ آيَاتِ ٱللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ } هذا من تتمة كلام الرجل المؤمن والمعنى الذين يجادلون في شريعة الله بغير حجة وبرهان جاءهم من عند الله { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } أي عظُم بغضاً عند الله وعند المؤمنين جدالُهم بغير برهان قال في البحر: عدل الواعظ عن مخاطبتهم إلى الإِسم الغائب، لحسنِ محاورته لهم واستجلاب قلوبهم، لئلا يفجأهم بالخطاب، وفي قوله { كَبُرَ مَقْتاً } ضربٌ من التعجب والاستعظام لجدالهم، كأنه خارج عن حدِّ أمثاله من الكبائر { كَذَلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُـلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } أي كما ختم على قلوب هؤلاء المجادلين كذلك يختم بالضلال على قلب كل متكبر عن الإِيمان، متجبرٍ على العباد، حتى لا يعقل الرشاد، ولا يقبل الحق، وإِنما وصف القلب بالتكبر والجبروت لكونه مركزهما ومنبعهما، وهو سلطان الأعضاء، فمتى فسد فسدت { وَقَالَ فَرْعَوْنُ يٰهَامَانُ ٱبْنِ لِي صَرْحاً } أي قال فرعون لوزيره هامان ابن لي قصراً عالياً، وبناءً شامخاً منيفاً قال القرطبي: لما قال مؤمن آل فرعون ما قال، وخاف فروع أن يتمكن كلامه في قلوب القوم، أوهم أنه يمتحن ما جاء به موسى من التوحيد، فأمر وزيره هامان ببناء الصرح { لَّعَـلِّيۤ أَبْلُغُ ٱلأَسْبَابَ * أَسْبَابَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ } أي لعلي أصل وأنتهي إلى طرق السماوات وما يؤدي إليها، وكررها للتفخيم والبيان { فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَـٰهِ مُوسَىٰ } أي فأنظر إلى إله موسى نظر عيان { وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً } أي وإِني لأعتقد موسى كاذباً في ادعائه أن له إلهاً غيري قال أبو حيان: وبلوغُ أسباب السماوات غير ممكن، لكنَّ فرعون أبرزه في صورة الممكن تمويهاً على سامعيه، ولما قال { فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَـٰهِ مُوسَىٰ } كان ذلك إقراراً بالإِله فلذلك استدرك هذا الإِقرار بقوله { وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً } { وَكَـذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوۤءُ عَمَلِهِ } أي ومثل ذلك التزيين زُيّن لفرعون عمله السيء حتى رآه حسناً { وَصُدَّ عَنِ ٱلسَّبِيلِ } أي ومُنع بضلاله عن طريق الهدى { وَمَا كَـيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ } أي وما تدبير فرعون ومكره إلا في خسار وهلاك، خسر ملكه في الدنيا بالغرق، وفي الآخرة بالخلود في النار { وَقَالَ ٱلَّذِيۤ آمَنَ يٰقَوْمِ ٱتَّبِعُونِ أَهْدِكُـمْ سَبِيـلَ ٱلرَّشَـادِ } كرَّر مؤمن آل فرعون نصحه لهم بعد تلك المراوغة التي لقيها من فرعون، ودعا قومه إلى الإِيمان بالله الواحد الأحد، وكشف لهم عن قيمة الحياة الزائلة، وشوَّقهم إلى نعيم الحياة الباقية، وحذَّرهم من عذاب الله ومعنى الآية: امتثلوا يا قوم أمري واسلكوا طريقي أرشدكم إلى طريق الفوز والنجاة - طريق الجنة - { يٰقَوْمِ إِنَّمَا هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا مَتَاعٌ } أي ليست الدنيا إلا متاعاً زائلاً، لا ثبات له ولا دوام { وَإِنَّ ٱلآخِرَةَ هِيَ دَارُ ٱلْقَـرَارِ } أي وإِن الدار الآخرة هي دار الاستقرار والخلود، التي لا زوال لها ولا انتقال منها، فإِما خلود في النعيم، أو خلود في الجحيم قال القرطبي: ومراده بالدار الآخرة الجنة والنار لأنهما لا يفنيان { مَنْ عَمِـلَ سَـيِّئَةً فَلاَ يُجْزَىٰ إِلاَّ مِثْلَهَا } أي من عمل في هذه الدنيا سيئةً فلا يعاقب في الآخرة إلا بمقدارها دون زيادة، رحمة منه تعالى بالعباد { وَمَنْ عَمِـلَ صَالِحاً مِّن ذَكَـرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } أي ومن فعل في الدنيا العمل الصالح سواءً كان ذكراً أو أنثى بشرط الإِيمان { فَأُوْلَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي فأولئك المحسنون يدخلون جنات النعيم، ويعطون جزاءهم بغير تقدير، بل أضعافاً مضاعفة فضلاً من الله وكرماً، فقد اقتضى فضله تعالى أن تضاعف الحسناتُ دون السيئات قال ابن كثير: { بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي لا يتقدر بجزاء، بل يثيبه الله ثواباً كثيراً عظيماً، لا انقضاء له ولا نفاد { وَيٰقَوْمِ مَا لِيۤ أَدْعُوكُـمْ إِلَى ٱلنَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِيۤ إِلَى ٱلنَّارِ }؟ أي ما لي أدعوكم إلى الإِيمان الموصل إلى الجنان، وتدعونني إلى الكفر الموصل إلى النار؟ والاستفهام للتعجب كأنه يقول: أنا أتعجب من حالكم هذه، أدعوكم إلى النجاة والخير، وتدعونني إلى النار والشر؟ ثم وضَّح ذلك بقوله { تَدْعُونَنِي لأَكْـفُرَ بِٱللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } أي تدعونني للكفر بالله، وأن أعبد ما ليس لي علمٌ بربويته، وما ليس بإِلهٍ كفرعون { وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى ٱلْعَزِيزِ ٱلْغَفَّارِ } أي وأنا أدعوكم إلى عبادة الله الواحد الأحد، العزيز الذي لا يُغلب، الغفَّار لذنوب العباد { لاَ جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِيۤ إِلَيْهِ } أي حقاً إنما تدعونني لعبادته { لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي ٱلدُّنْيَا وَلاَ فِي ٱلآخِرَةِ } أي لا يصلح أن يُعبد لأنه لا يسْتجيب لنداء داعيه، ولا يقدر على تفريج كربته لا في الدنيا ولا في الآخرة { وَأَنَّ مَرَدَّنَآ إِلَى ٱللَّهِ } أي وأن مرجعنا إلى الله وحده فيجازي كلاً بعمله { وَأَنَّ ٱلْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ } أي وأن المسرفين في الضلال والطغيان سيخلَّدون في النار { فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُـمْ } أي فستذكرون صدق كلامي عندما يحل بكم العذاب، وهو تهديد ووعيد { وَأُفَوِّضُ أَمْرِيۤ إِلَى ٱللَّهِ } أي أتوكل على الله، وأسلّم أمري إليه قال القرطبي: وهذا يدل على أنهم هدَّدوه وأرادوا قتله { إِنَّ ٱللَّهَ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ } أي مطلع أعمالهم، لا تخفى عليه خافية من أحوالهم { فَوقَاهُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَـرُواْ } أي فنجاه الله من شدائد مكرهم، ومن أنواع العذاب الذي أرادوا إلحاقه به { وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوۤءُ ٱلْعَذَابِ } أي ونزل بفرعون وجماعته أسوأ العذاب، وهو الغرق في الدنيا، والحرق في الآخرة، ثم فسَّره بقوله { ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } أي النار يُحرقون بها صباحاً ومساء قال المفسرون: المراد بالنار هنا نار القبر وعذابهم في القبور بدليل قوله بعده { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُوۤاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ } أي ويوم القيامة يقال للملائكة: ادخلوا فرعون وقومه نار جهنم التي هي أشد من عذاب الدنيا.