التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَٰلَهُمْ
١
وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ
٢
ذَلِكَ بِأَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱتَّبَعُواْ ٱلْبَاطِلَ وَأَنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّبَعُواْ ٱلْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ
٣
فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ
٤
سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ
٥
وَيُدْخِلُهُمُ ٱلْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ
٦
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ
٧
وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ
٨
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَٰلَهُمْ
٩
أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا
١٠
ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ مَوْلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَأَنَّ ٱلْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَىٰ لَهُمْ
١١
إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ ٱلأَنْعَامُ وَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ
١٢
وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ
١٣
أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوۤءُ عَمَلِهِ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَاءَهُمْ
١٤
مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي ٱلنَّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ
١٥
وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ
١٦
وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ
١٧
فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ ٱلسَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّىٰ لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَٰهُمْ
١٨
فَٱعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ
١٩
-محمد

صفوة التفاسير

اللغَة: { كَفَّرَ } أزال ومحا { أَثْخَنتُمُوهُمْ } أكثرتم فيهم القتل والجراح والأسر قال في المصباح: أثخن في الأرض إِثخاناً، سار إِلى العدو وأوسعهم قتلاً، وأثخنته الجراحة أوهنته وأضعفته { ٱلْوَثَاقَ } القيد والحبل الذي يربط به { مَنًّا } إِطلاق الأسير من غير فدية { أَوْزَارَهَا } آلاتها وأثقالها وهي الأسلحة والعتاد يقال: وضعت الحرب أوزارها أي انقضت الحرب وانتهت، وأصل الأوزار الأثقال من السلاح والخيل قال الشاعر:

وأعددتُ للحرب أوزارها رماحاً طوالاً وخيلاً ذكوراً

{ تَعْساً } شقاءً وهلاكاً { آسِنٍ } متغيّر ومنتن { حَمِيماً } حاراً شديد الحرارة { آنِفاً } الآن، من قولهم، استأنف الأمر إِذا ابتدأ به { أَشْرَاطُ } أمارات وعلامات.
التفسِير: { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } هذا إِعلان حربٍ من الله تعالى على أعدائه وأعداء دينه والمعنى الذين جحدوا بآيات الله وأعرضوا عن الإِسلام، ومنعوا الناس عن الدخول فيه { أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } أي أبطلها وأحبطها وجعلها ضائعة لا ثواب لها لأنها لم تكن لله فبطلت، والمراد أعمالهم الصالحة كإِطعام الطعام، وصلة الأرحام، وقرى الضيف قال الزمخشري: وحقيقة إِضلال الأعمال جعلُها ضالةً ضائعة، ليس لها من يتقبلها ويثيب عليها كالضالة من الإِبل، التي لا ربَّ لها يحفظها ويعتني بأمرها، والمراد أعمالهم التي عملوها في كفرهم بما كانوا يسمونه "مكارم الأخلاق"، من صلة الأرحام، وفك الأسارى، وقرى الأضياف، وحفظ الجوار { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } أي جمعوا بين الإِيمان الصادق، والعمل الصالح { وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ } أي صدَّقوا بما أنزل الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم تصديقاً جازماً لا يخالجه شك ولا ارتياب وهو عطف خاص على عام، والنكتةُ فيه تعظيم أمره والاعتناء بشأنه، إشارةً إِلى أن الإِيمان لا يتمُّ بدونه، ولذا أكَّده بقوله { وَهُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ } أي وهو الثابت المؤكد المقطوع بأنه كلام الله ووحيهُ المنزَّل من عند الله، والجملة اعتراضية لتأكيد السابق { كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } أي أزال ومحا عنهم ما مضى من الذنوب والأوزار { وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } أي أصلح شأنهم وحالهم، في دينهم ودنياهم، ثم بيَّن تعالى سبب ضلال الكفار، واهتداء المؤمنين فقال { ذَلِكَ بِأَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱتَّبَعُواْ ٱلْبَاطِلَ } أي ذلك الإِضلال لأعمال الكفار بسبب أنهم سلكوا طريق الضلال، واختاروا الباطل على الحق { وَأَنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّبَعُواْ ٱلْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ } أي وأن المؤمنين سلكوا طريق الهدى، وتمسَّكوا بالحق والإِيمان المنزل من عند الرحمن { كَذَلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ } أي مثل ذلك البيان الواضح، بيَّن الله أمر كلٍ من الفريقين - المؤمنين والكافرين - بأوضح بيانٍ وأجلى برهان ليعتبر الناس ويتعظوا.. وبعد إِعلان هذه الحرب السافرة على الكافرين أمر تعالى المؤمنين بجهادهم فقال { فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ } أي فإِذا أدركتم الكفار في الحرب فاحصدوهم حصْداً بالسيوف قال في التسهيل: وأصله فاضربوا الرقاب ضرباً ثم حذف الفعل وأقام المصدر مقامه والمراد: اقتلوهم، ولكنْ عبَّر عنه بضرب الرقاب لأنه الغالب في صفة القتل { حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ } أي حتى إِذا هزمتموهم وأكثرتم فيهم القتل والجراحات ولم تبق لهم قوة للمقاومة فأْسروهم وكفُّوا عن قتلهم قال الزمخشري: وفي هذه العبارة { فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ } من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل، لما فيها من تصوير القتل بأشنع صورة، وهو حزُّ العنق وإِطارة رأس البدن، ولقد زاد في هذه الغلظة في قوله
{ { فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } [الأنفال: 12] ومعنى { أَثْخَنتُمُوهُمْ } أكثرتم قتلهم وأغلظتموه { فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ } أي فأسروهم، والوثاقَ اسم لما يربط من حبلٍ وغيره { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } أي ثم أنتم مخيَّرون بعد أسرهم إِمَّا أن تمنُّوا عليهم وتطلقوا سراحهم بلا مقابل من مال، أو تأخذوا منهم مالاً فداءً لأنفسهم، ولكنْ بعد أن تكونوا قد كسرتم شوكتهم، وأعجزتموهم بكثرة القتل والجراح { حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } أي حتى تنقضي الحرب وتنتهي بوضع آلاتها وأثقالها، وتنتهي الحرب بين المسلمين والمناوئين له، وذلك بعزة الإِسلام واندحار المشركين { ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ } أي الأمر فيهم ما ذُكر، ولو أراد الله لانتصر منهم وأهلكهم بقدرته، دون أن يكلفكم - أيها المؤمنون - إلى قتالهم قال ابن كثير: أي لو شاء الله لانتقم من الكافرين بعقوبةٍ ونكالٍ من عنده { وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } أي ولكنَّه أمركم بجهادهم ليختبر إِيمانكم وثباتكم، فيظهر حال الصادق في الإِيمان من غيره كما قال تعالى { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّابِرِينَ } [محمد: 31] وليبتلي المؤمنين بالكافرين والكافرين بالمؤمنين، فيصير من قُتل من المؤمنين إلى الجنة، ومن قتل من الكافرين إلى النار ولهذا قال { وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } أي والذين استشهدوا في سبيل الله فلن يُبطل الله عملهم، بل يكثّره ويضاعفه وينميّه { سَيَهْدِيهِمْ } أي سيهديهم إلى ما ينفعهم في الدنيا والآخرة، بتوفيقهم إلى العمل الصالح وإِرشادهم إلى الجنة دار الأبرار { وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } أي ويُصلح حالهم وشأنهم { وَيُدْخِلُهُمُ ٱلْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } أي ويدخلهم الجنة دار النعيم بيَّنها لهم بحيث يعلم كل واحدٍ منزله ويهتدي إِليه قال مجاهد: يهتدي أهلُها إلى بيوتهم ومساكنهم لا يخطئون كأنهم ساكنوها منذ خُلقوا وفي الحديث "والذي نفسي بيده إِن أحدهم بمنزله في الجنة أهدى منه بمنزله الذي كان في الدنيا" { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ } أي إِن تنصروا دينه ينصركم على أعدائكم { وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } أي ويثبتكم في مواطن الحرب { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ } أي والذين كفروا بالله وآياته فهلاكاً وشقاءً لهم، وهو دعاءٌ عليهم بالتعاسة والخيبة والخذلان { وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } أي أبطلها وأحبطها لأنها كانت في طاعة الشيطان { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } أي ذلك التعس والإِضلال بسبب أنهم كرهوا ما أنزل الله من الكتب والشرائع قال الزمخشري: أي كرهوا القرآن وما أنزل الله فيه من التكاليف والأحكام، لأنهم قد ألفوا الإِهمال وإِطلاق العَنان في الشهوات والملاذِّ فشقَّ عليهم ذلك وتعاظمهم { فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } أي أذهبها وأضاعها لأن الإِيمان شرط لقبول الأعمال، والشرك محبطٌ للعمل، ثم خوَّفهم تعالى عاقبة الكفر فقال { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي أفلم يسافر هؤلاء ليروا ما حلَّ بمن سبقهم من الأمم الطاغية كعاد وثمود وقوم لوط وغيرهم من المجرمين، كيف كان مآلهم؟ وماذا حلَّ بهم من العذاب؟ فإِنَّ آثار ديارهم تنبىء عن أخبارهم { دَمَّرَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ } أي أهلكهم الله، واستأصل كل ما يخصهم من مالٍ وبنين ومتاع، فإِذا هو أنقاض متراكمة وإِذا هم تحت هذه الأنقاض "ودمَّر عليهم" أبلغ من دمَّرهم لأن معناها أهلكهم مع أموالهم ودورهم وأولادهم وأطبق عليهم الهلاك إِطباقاً فلم يبق شيء إلا شمله الدمار { وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا } أي ولكفار مكة أمثال تلك العاقبة الوخيمة والعذاب المدمّر { ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ مَوْلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } أي وليُّهم وناصرهم { وَأَنَّ ٱلْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَىٰ لَهُمْ } أي لا ناصر لهم ولا معين ولا مغيث، ثم بيَّن تعالى مآل كلٍ من الفريقين - المؤمنين والكافرين - في الآخرة فقال { إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } أي يدخل المؤمنين جناتِ النعيم، التي فيها ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ ٱلأَنْعَامُ } أي والكافرون في الدنيا ينتفعون بشهواتها ولذائذها، ويأكلون كما تأكل البهائم، ليس لهم همٌّ إِلا بطونهم وفروجهم { وَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ } أي وجهنم مقامهم ومنزلهم في الآخرة قال الزمخشري: المراد أنهم ينتفعون بمتاع الدنيا أياماً قلائل، ويأكلون غافلين غير مفكرين في العاقبة كما تأكل الأنعام في مسارحها ومعالفها غافلةً عما هي بصدده من النحر والذبح، والنار منزل ومقام لهم في الآخرة.. ثم سلَّى تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَتْكَ } أي وكم من أهل قرية عاتية ظالمة كانوا أقوى من أهل مكة الذين أخرجوك منها { أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ } أي أهلكناهم بأنواع العذاب فلم ينصرهم أحد فكذلك نفعل بهؤلاء قال ابن عباس: "لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة واختفى بالغار ثم خرج مهاجراً إِلى المدينة، التفت إِلى مكة ثم قال إِنك لأحبُّ البلاد إِلى الله، وأحبُّ البلاد إِليَّ، ولولا أنَّ قومك أخرجوني منك ما خرجت" فنزلت الآية { أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ } أي هل من كان على حجة وبصيرة، وثباتٍ ويقين من أمر دينه { كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوۤءُ عَمَلِهِ }؟ أي كمن زُيّن له عمله القبيح فرآه حسناً؟ { وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَاءَهُمْ } أي انهمكوا في الضلال حتى عبدوا الهوى؟ ليس هذا كهذا، وإِنما جاء بصيغة الجمع مراعاةً للمعنى قال المفسرون: يريد بـ { مَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ } رسول الله صلى الله عليه وسلم وبمن { زُيِّنَ لَهُ سُوۤءُ عَمَلِهِ } أبا جهل وكفار قريش.. واللفظ أعمُّ لأن الغرض المباينة بين من يعبد الله، وبين من يعبد هواه، ولذلك مثَّل بعده بالفارق الكبير بين الجنة والنار فقال { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ } أي صفة الجنة الغريبة العجيبة الشأن، التي وعد الله بها عباده الأبرار وأعدَّها للمتقين الأخيار { فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ } أي فيها أنهار جاريات من ماءٍ غير متغير الراحة قال ابن مسعود: أنهار الجنة تفجَّر من جبلٍ من مسكٍ { وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ } أي وأنهار جاريات من حليبٍ في غاية البياض والحلاوة والدسامة، لم يحمض بطول المقام ولم يفسد كما تفسد ألبان الدنيا وفي حديث مرفوع "لم يخرج من ضروع الماشية" { وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ } أي وأنهار جاريات من خمرٍ لذيذة الطعم يتلذذ بها الشاربون لأنه { لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ } [الصافات: 47] وإِنما قيَّدها بأنها لذة للشاربين، لأن الخمر كريهة الطعم في الدنيا لا يلتذ بها إِلاَّ فاسد المزاج، وأما خمر الآخرة فهي طيبة الطعم والرائحة، يشربها أهل الجنة لمجرد الالتذاذ { وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } أي وأنهارٌ جارياتٌ من عسل في غاية الصفاء وحسن اللون والريح، لم يخرج من بطون النحل قال أبو السعود: { عَسَلٍ مُّصَفًّى } أي لم يخالطه الشمع وفضلات النحل { وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ } أي ولهم في الجنة أنواعٌ متعددة من جميع أصناف الفواكه والثمار قال في حاشية البيضاوي: وفي ذكر الثمرات بعد المشروب إشارة إِلى أنَّ مأكول أهل الجنة للَّذَّة لا للحاجة { وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ } أي ولهم فوق ذلك النعيم الحسن نعيمٌ روحي وهو المغفرة من الله مع الرحمة والرضوان وفي الحديث "أُحلُّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً" قال الصاوي: في الجنة ترفع عنهم التكاليف فيما يأكلونه ويشربونه، بخلاف الدنيا فإِن مأكولها ومشروبها يترتب عليه الحساب والعقاب، ونعيم الآخرة لا حساب عليه ولا عقاب فيه { كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي ٱلنَّارِ } أي كمن هو مخلَّدٌ في الجحيم؟ والاستفهام للإِنكار أي لا يستوي من هو في ذلك النعيم المقيم، بمن هو خالد في الجحيم؟ { وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ } أي وسُقوا مكان تلك الأشربة ماءً حاراً شديد الغليان، فقطَّع أحشاءهم من فرط حرارته؟ قال المفسرون: بلغ الماء الغاية في الحرارة، إِذا دنا منهم شوى وجوههم، ووقعت فروة رءوسهم، فإِذا شربوه قطَّع أمعاءهم وأخرجها من دبورهم ولما بيَّن تعالى حال الكافرين، ذكر حال المنافقين فقال: { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } أي ومن هؤلاء المنافقين جماعة يستمعون إِلى حديثك يا محمد { حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ } أي حتى إِذا خرجوا من مجلسك { قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً } أي قالوا لعلماء الصحابة - كابن عباس وابن مسعود - ماذا قال محمدٌ قريباً في تلك الساعة؟ قال ابن كثير: أخبر تعالى عن المنافقين في بلادتهم وقلة فهمهم، حيث كانوا يجلسون إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستمعون كلامه، فلا يفهمون منه شيئاً، فإِذا خرجوا من عنده قالوا لأهل العلم من الصحابة: ماذا قال محمد { آنِفاً } أي الساعة، لا يعقلون ما قال ولا يكترثون به { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } أي ختم على قلوبهم بالكفر { وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ } أي ساروا وراء أهوائهم الباطلة { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } أي وأما المؤمنون المتقون فقد زادهم الله هدى وألهمهم رشدهم قال الإِمام الفخر: لما بيَّن تعالى أن المنافق يستمع ولا ينتفع، ويستعيد ولا يستفيد، بيَّن أن حال المؤمن المهتدي بخلافه، فإِنه يستمع فيفهم، ويعمل بما يعلم، وفيه فائدة وهو قطع عذر المنافق، فإِنه لو قال ما فهمت كلامه لغموضه، يُردُّ عليه بأن المؤمن فهم واستنبط، فذلك لعماء القلوب لا لخفاء المطلوب { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ ٱلسَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً } أي فهل ينتظرون إِلا قيام الساعة فجأةً فتبغتهم وهم سادرون غارون غافلون؟ { فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا } أي فقد جاءت أماراتها وعلاماتها، ومنها بعثة خاتم الرسل صلى لله عليه وسلم { فَأَنَّىٰ لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ } أي فمن أين لهم التذكر إِذا جاءتهم الساعة، حيث لا ينفع ندم ولا توبة؟ { فَٱعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ } أي فدم يا محمد على ما أنت عليه من العلم بوحدانية الله { وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } أي اطلب من الله المغفرة لك وللمؤمنين والمؤمنات { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ } أي يعلم تصرفكم في الدنيا، ومصيركم في الآخرة، فأعدوا الزاد ليوم المعاد.