التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
١٣
قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٤
إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ
١٥
قُلْ أَتُعَلِّمُونَ ٱللَّهَ بِدِينِكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
١٦
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ
١٧
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
١٨
-الحجرات

صفوة التفاسير

المنَاسَبَة: لمَّا دعا تعالى إِلى مكارم الأخلاق ونهى عن مساوئها، وحذَّر المؤمنين من بعض الأفعال القبيحة، دعا الناس هنا جميعاً للتعارف والتآلف ونهاهم عن التفاخر بالأنساب، ثم بيَّن صفات المؤمن الكامل.
اللغَة: { يَلِتْكُمْ } ينقصكم { قَبَآئِلَ } جمع قبيلة وهي الجماعة التي يربطها حسبٌ أو نسبٌ، وهي أخصُّ من الشعب، لأن الشعب الجمع العظيم المنتسبون إِلى أصل واحد، فالشعب يجمع القبيلة، والقبيلة تجمع البطون والأفخاذ { يَرْتَابُواْ } يشكُّوا والريب: الشكُ { يَمُنُّونَ } المنُّ: الامتنان على الشخص والاعتداد عليه بفعل المعروف، وأصله في اللغة القطع ومنه
{ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } [التين: 6].
سَبَبُ النّزول: عن ابن عباس قال: جاءت بنو أسدٍ إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله: أسلمنا، وقاتلتك العرب ولم نقاتلك، وأخذوا يمنون عليه فنزلت الآية الكريمة { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ.. } الآية.
التفسِير: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ } الخطاب لجميع البشر أي نحن بقدرتنا خلقناكم من أصلٍ واحد، وأوجدناكم من أب وأم فلا تفاخر بالآباء والأجداد، ولا اعتداد بالحسب والنسب، كلكم لآدم وآدمُ من تراب { وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ } أي وجعلناكم شعوباً شتى وقبائل متعددة، ليحصل بينكم التعارف والتآلف، لا التناحر والتخالف قال مجاهد: ليعرف الإِنسان نسبه فيقال فلان بن فلان من قبيلة كذا، وأصل تعارفوا تتعارفوا حذفت إِحدى التاءين تخفيفاً قال شيخ زاده: والمعنى إِن الحكمة التي من أجلها جعلكم على شعوب وقبائل هي أن يعرف بعضكم نسب بعض ولا ينسبه إِلى غير آبائه، لا أن تتفاخر بالآباء والأجداد، والنسبُ وِإِن كان يُعتبر عرفاً وشرعاً، حتى لا تُزوج الشريفة بالنبطيّ، إلا أنه لا عبرة به عند ظهور ما هو أعظم قدراً منه وأعز، وهو الإِيمان والتقوى، كما لا تظهر الكواكب عند طلوع الشمس { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ } أي إِنما يتفاضل الناس بالتقوى لا بالأحساب والأنساب، فمن أراد شرفاً في الدنيا ومنزلةً في الآخرة فليتق الله كما قال صلى الله عليه وسلم:
"من سرَّه أن يكون أكرم الناس فليتَّق الله" وفي الحديث "الناسُ رجلان: رجل برٌّ تقيٍ كريم على الله تعالى، ورجل فاجر شقي هيّن على الله تعالى" { إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } أي عليمٌ بالعباد، مطلع على ظواهرهم وبواطنهم، يعلم التقي والشقي، والصالح والطالح { { فَلاَ تُزَكُّوۤاْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰ } [النجم: 32]. { قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا } أي زعم الأعراب أنهم آمنوا قل لهم يا محمد: إِنكم لم تؤمنوا بعد، لأن الإِيمان تصديقٌ مع ثقة واطمئنان قلب، ولم يحصل لكم، وإِلا لما مننتم على الرسول بالإِسلام وترك المقاتلة، ولكنْ قولوا استسلمنا خوف القتل والسبي قال المفسرون: نزلت في نفرٍ من بني أسد، قدموا المدينة في سنةٍ مجدبة، وأظهروا الشهادتين، وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتيناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وفلان، يريدون الصَّدقة ويمنّون على الرسول، وقد دلت الآية على أن الإِيمان مرتبةٌ أعلى من الإِسلام، الذي هو الاستسلام والانقياد بالظاهر ولهذا قال تعالى { وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } أي ولم يدخل الإِيمان إِلى قلوبكم ولم تصلوا إِلى حقيقته بعد، ولفظةُ "لمَّا" تفيد التوقع كأنه يقول: وسيحصل لكم الإِيمان عند اطلاعكم على محاسن الإِسلام، وتذوقكم لحلاوة الإِيمان قال ابن كثير: وهؤلاء الأعراب المذكورون في هذه الآية ليسوا منافقين، وإِنما هم مسلمون لم يستحكم الإِيمان في قلوبهم، فادَّعوا لأنفسهم مقاماً أعلى مما وصلوا إِليه فأدبوا في ذلك، ولو كانوامنافقين - كما ذهب إِليه البخاري - لعُنفوا وفُضِحوا { وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً } أي وإِن أطعتم الله ورسوله بالإِخلاص الصادق، والإِيمان الكامل، وعدم المنِّ على الرسول لا ينقصكم من أجوركم شيئاً { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي عظيم المغفرة، واسع الرحمة، لأن صيغة "فعول" و"فعيل" تفيد المبالغة.. ثم ذكر تعالى صفات المؤمنين الكُمَّل الصادقين في إِيمانهم فقال { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } أي إِنما المؤمنون الصادقون في دعوى الإِيمان، الذين صدَّقوا الله ورسوله، فأقروا لله بالوحدانية، ولرسوله بالرسالة، عن يقين راسخ وإِيمان كامل { ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ } أي ثم لم يشكوا ويتزلزلوا في إِيمانهم بل ثبتوا على التصديق واليقين { وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي وبذلوا أموالهم ومهجهم في سبيل الله وابتغاء رضوانه { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ } أي أولئك الذين صدقوا في ادعاء الإِيمان.. وصف تعالى المؤمنين الكاملين بثلاثة أوصاف: الأول: التصديق الجازم بالله ورسوله الثاني: عدم الشك والارتياب الثالث: الجهاد بالمال والنفس، فمن جمع هذه الأوصاف فهو المؤمن الصادق { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ ٱللَّهَ بِدِينِكُمْ } الاستفهام للإِنكار والتوبيخ أي قل يا محمد: أتخبرون الله بما في ضمائركم وقلوبكم؟ { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } أي وهو جل وعلا العليم بأحوال جميع العباد، لا تخفى عليه خافية لا في السماوات ولا في الأرض { وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي واسع العلم رقيب على كل شيء، لا يعزب عنه مثقال ذرة، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ } أي يعدُّون إِسلامهم عليك يا محمد منَّة، يستوجبون عليها الحمد والثناء { قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ } أي قل لهم لا تمتنوا عليَّ بإِسلامكم، فإِن نفع ذلك عائد عليكم { بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي بل للهِ المنةُ العظمى عليكم، بالهداية للإِيمان والتثبيت عليه، إن كنتم صادقين في دعوى الإِيمان { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي يعلم ما غاب عن الأبصار في السماوات والأرض { وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي مطَّلع على أعمال العباد، لا تخفى عليه خافية.. كرَّر تعالى الإِخبار بعلمه بجميع الكائنات، وإِحاطته بجميع المخلوقات، ليدل على سعة علمه، وشموله لكل صغيرة وكبيرة، في السر والعلن، والظاهر والباطن.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1- الاستعارة التمثيلية
{ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } [الحجرات: 1] شبَّه حالهم في إِبداء الرأي وقطع الأمر في حضرة الرسول بحال ملكٍ عظيم تقدَّم للسير أمامه بعض الناس وكان الأدب يقضي أن يسيروا خلفه لا أمامه، وهذا بطريق الاستعارة التمثيلية.
2- التشبيه المرسل المجمل
{ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } [الحجرات: 2] لوجود أداة التشبيه.
3- الالتفات من الخطاب إِلى الغيبة
{ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلرَّاشِدُونَ } بعد قوله { حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإِيمَانَ } [الحجرات: 7] وهذا من المحسنات البديعية.
4- المقابلة بين
{ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ } [الحجرات: 7] وبين { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ وَٱلْعِصْيَانَ } [الحجرات: 7].
5- الطباق
{ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } [الحجرات: 9].
6- جناس الاشتقاق
{ وَأَقْسِطُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } [الحجرات: 9].
7- التشبيه التمثيلي
{ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً } [الحجرات: 12] مثَّل للغيبة بمن يأكل لحم الميت، وفيه مبالغات عديدة لتصوير الاغتياب بأقبح الصور وأفحشها في الذهن.
8- طباق السلب { آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ }.
9- الاستفهام الإِنكاري للتوبيخ { أَتُعَلِّمُونَ ٱللَّهَ بِدِينِكُمْ }.
10- التشبيه البليغ
{ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [الحجرات: 10] أصل الكلام المؤمنون كالإِخوة في وجوب التراحم والتناصر، فحذف وجه الشبه وأداة التشبيه فأصبح بليغاً مع إفادة الجملة الحصر.
تنبيه: سورة الحجرات تسمى سورة "الأخلاق والآداب" فقد أرشدت إِلى مكارم الأخلاق، وفضائل الأعمال، وجاء فيها النداء بوصف الإِيمان خمس مراتٍ، وفي كل مرة إِرشاد إِلى مكرمة من المكارم وفضيلة من الفضائل، وهذه الآداب الرفيعة نستعرضها في فقرات:
أولاً: وجوب الطاعة والانقياد لأوامر الله ورسوله وعدم التقدم عليه بقول أو رأي
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } [الحجرات: 1].
ثانياً: احترام الرسول وتعظيم شأنه
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ.. } [الحجرات: 2].
ثالثاً: وجوب التثبت من الأخبار
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ.. } [الحجرات: 6].
رابعاً: النهي عن السخرية بالناس
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ.. } [الحجرات: 11].
خامساً: النهي عن التجسس والغيبة وسوء الظن
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ.. } [الحجرات: 12] الآية.
لطيفَة: سئل بعض العلماء عما وقع بين الصحابة من قتال فقال" تلك دماءٌ قد طهَّر الله منها أيدينا فلا نلوّث بها ألسنتنا، وسبيل ما جرى بينهم كسبيل ما جرى بين يوسف وإِخوته".