التفاسير

< >
عرض

ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ
١
وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ
٢
وَكَذَّبُواْ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ
٣
وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ ٱلأَنبَآءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ
٤
حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ ٱلنُّذُرُ
٥
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ ٱلدَّاعِ إِلَىٰ شَيْءٍ نُّكُرٍ
٦
خُشَّعاً أَبْصَٰرُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ
٧
مُّهْطِعِينَ إِلَى ٱلدَّاعِ يَقُولُ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَسِرٌ
٨
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَٱزْدُجِرَ
٩
فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَٱنتَصِرْ
١٠
فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ ٱلسَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ
١١
وَفَجَّرْنَا ٱلأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى ٱلمَآءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ
١٢
وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ
١٣
تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ
١٤
وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ
١٥
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ
١٦
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ
١٧
كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ
١٨
إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ
١٩
تَنزِعُ ٱلنَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ
٢٠
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ
٢١
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ
٢٢
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِٱلنُّذُرِ
٢٣
فَقَالُوۤاْ أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ
٢٤
أَءُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ
٢٥
سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ ٱلْكَذَّابُ ٱلأَشِرُ
٢٦
إِنَّا مُرْسِلُواْ ٱلنَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَٱرْتَقِبْهُمْ وَٱصْطَبِرْ
٢٧
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ ٱلْمَآءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ
٢٨
فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَىٰ فَعَقَرَ
٢٩
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ
٣٠
إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ ٱلْمُحْتَظِرِ
٣١
وَلَقَد يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ
٣٢
-القمر

صفوة التفاسير

اللغَة: { ٱلأَجْدَاثِ } جمع جدث وهو القبر { مُّهْطِعِينَ } مسرعين يقال: أهطع في سيره أي أسرع { مُّنْهَمِرٍ } انهمر الماء نزل بقوة غزيراً { وَدُسُرٍ } الدُّسر: المسامير التي تُشدُّ بها السفينة جمع دِسار ككتاب وكُتب قال في الصحاح: الدِّسار واحد الدُسرُ وهي خيوط تشد بها ألواح السفينة ويقال هي المسامير { مُّدَّكِرٍ } متعظ خائف وأصله مذتكر قلبت التاء دالاً ثم أدغمت الذال فيها فصارت مدّكر { صَرْصَراً } الصرصر: الشديدة الصوت مع البرد مأخوذ من صرير الباب وهو تصويته { أَعْجَازُ } جمع عجز وهو مؤخر الشيء { مُّنقَعِرٍ } المنقعر: المنقلع من أصله يقال: قعرت الشجرة قعراً قلعتها من أصلها فانقعرت { وَسُعُرٍ } جنون من قولهم ناقة مسعورة كأنها من شدة نشاطها مجنونة قال الشاعر:

تخالُ بها سُعراً إِذا السَّفر هزَّها

{ أَشِرٌ } الأشر: البطر ورجلٌ أشر أي بطر أبطرته النعمة.
التفسِير: { ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ } أي دنت القيامة وقد انشق القمر { وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ } أي وإِن ير كفار قريش علامة، واضحة ومعجزة ساطعة، تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم يعرضوا عن الإِيمان { وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } أي ويقولوا هذا سحرٌ دائم، سحر به محمدٌ أعيننا قال المفسرون: إِن كفار مكة قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: إن كانت صادقاً فشقَّ لنا القمر فرقتين، ووعدوه بالإِيمان إِن فعل، وكانت ليلة بدر، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربَّه أن يعطيه ما طلبوا، فانشقَّ القمر نصف على جبل الصفا، ونصفٌ على جبل قيقعان المقابل له، حتى رأوا حراء بينهما، فقالوا: سحرنا محمد، ثم قالوا: إن كان سحرنا فإِنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم!! فقال أبو جهل: اصبروا حتى تأتينا أهل البوادي فإِن أخبروا بانشقاقه فهو صحيح، وإِلا فقد سحر محمد أعيننا، فجاءوا فأخبروا بانشقاق القمر فقال أبو جهل والمشركون: هذا سحرٌ مستمر أي دائم فأنزل الله { ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ * وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } قال الخازن: وانشقاقُ القمر من آيات رسول الله صلى الله عليه وسلم الظاهرة، ومعجزاته الباهرة، يدل عليه ما أخرجه الشيخان عن أنس
"أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يُريهم آية، فأراهم انشقاق القمر مرتين" وما روي عن ابن مسعود قال "انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشهدوا" وما روي عن جبير بن مطعم قال "انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين، فقالت قريش: سحر محمد أعيننا فقال بعضهم: لئن كان سحرنا فما يستطيع أن يسحر الناس كلهم، فكانوا يتلقون الركبان فيخبرونهم بأنهم قد رأوه فيكذبونهم" فهذه الأحاديث الصحيحة، قد وردت بهذه المعجزة العظيمة، مع شهادة القرآن العظيم بذلك، فإِنه أدل دليل وأقوى مثبتٍ له وإِمكانه لا يشك فيه مؤمن، وقيل في معنى الآية، ينشق القمر يوم القيامة، وهذا قول باطل لا يصح، وشاذ لا يثبت، لإِجماع المفسرين على خلافه، ولأن الله ذكره بلفظ الماضي { وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ } وحمل الماضي على المستقبل بعيد { وَكَذَّبُواْ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ } أي وكذبوا النبي صلى الله عليه وسلم وما عاينوه من قدرة الله تعالى في انشقاق القمر، واتبعوا ما زين لهم الشيطان من الباطل { وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ } أي وكل أمرٍ من الأمور منتهٍ إِلى غاية يستقر عليها لا محالة إِن خيراً فخير، وإِن شراً فشر قال مقاتل: لكل حديثٍ منتهى وحقيقة ينتهي إِليها وقال قتادة: إِن الخير يستقر بأهل الخير، والشر يستقر بأهل الشر، وكل أمرٍ مستقر بأهله { وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ ٱلأَنبَآءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } أي ولقد جاء هؤلاء الكفار من أخبار الأمم الماضية المكذبين للرسل، ما فيه واعظ لهم عن التمادي في الكفر والضلال { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ } أي هذا القرآن حكمة بالغة، بلغت النهاية في الهداية والبيان { فَمَا تُغْنِ ٱلنُّذُرُ } أي أيَّ شيءٍ تُغنى النُذُر عمن كتب الله عليه الشقاوة، وختم على سمعه وقلبه؟! قال المفسرون: المعنى لقد جاءهم القرآن وهو حكمة تامة قد بلغت الغاية، فماذا تنفع الإِنذارات والمواعيد لقومٍ أصموا آذانهم عن سماع كلام الله؟ كقوله تعالى { وَمَا تُغْنِي ٱلآيَاتُ وَٱلنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } [يونس: 101] { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } أي فأعرض يا محمد عن هؤلاء المجرمين وانتظرهم { يَوْمَ يَدْعُ ٱلدَّاعِ إِلَىٰ شَيْءٍ نُّكُرٍ } أي يوم يدعو إِسرافيل إِلى شيءٍ منكر فظيع، تنكره النفوس لشدته وهوله، وهو يوم القيامة وما فيه من البلاء والأهوال { خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ } أي ذليلةً أبصارهم لا يستطيعون رفعها من شدة الهول { يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ } أي يخرجون من القبور { كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ } أي كأنهم في انتشارهم وسرعة إِجابتهم للداعي جرادٌ منتشر في الآفاق، لا يدرون أين يذهبون من الخوف والحيرة قال ابن الجوزي: وإِنما شبههم بالجراد المنتشر، لأن الجراد لا جهة له يقصدها، فهم يخرجون من القبور فزعين ليس لأحدٍ منهم جهة يقصدها، والداعي هو إِسرافيل { مُّهْطِعِينَ إِلَى ٱلدَّاعِ } أي مسرعين مادّي أعناقهم إِلى الداعي لا يتلكئون ولا يتأخرون { يَقُولُ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } أي يقول الكافرون هذا يوم صعبٌ شديد قال الخازن: وفيه إِشارة إِلى أنَّ ذلك اليوم يومٌ شديد على الكافرين لا على المؤمنين كقوله تعالى { عَلَى ٱلْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ } [المدثر: 10] .. ثم ذكر تعالى وقائع الأمم المكذبين وما حلَّ بهم من العذاب والنكال تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتحذيراً لكفار مكة فقال: { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ } أي كذب قبل قومك يا محمد قومُ نوح { فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَٱزْدُجِرَ } أي فكذبوا عبدنا نوحاً وقالوا إِنه مجنون، وانتهروه وزجروه عن دعوى النبوة بالسب والتخويف والوعيد بقولهم { لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يٰنُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمَرْجُومِينَ } [الشعراء: 116] قال في البحر: لم يقنعوا بتكذيبه حتى نسبوه إِلى الجنون أي أنه يقول ما لا يقبله عاقل وذلك مبالغة في تكذيبهم، وإِنما قال { عَبْدَنَا } تشريفاً له وخصوصية بالعبودية { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَٱنتَصِرْ } أي فدعا نوح ربه وقال يا ربّ إِني ضعيف عن مقاومة هؤلاء المجرمين، فانتقم لي منهم وانتصر لدينك قال أبو حيان: وإِنما دعا عليهم بعدما يئس منهم وتفاقم أمرهم، وكان الواحد من قومه يخنقه إِلى أن يخر مغشياً عليه وهو يقول: اللهم اغفر لقومي فإِنهم لا يعلمون { فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ ٱلسَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ } أي فأرسلنا المطر من السماء منصباً بقوة وغزارة قال أبو السعود: وهو تمثيلٌ لكثرة الامطار وشدة انصبابها { وَفَجَّرْنَا ٱلأَرْضَ عُيُوناً } أي جعلنا الأرض كلها عيوناً متفجرة بالماء { فَالْتَقَى ٱلمَآءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } أي فالتقى ماء السماء وماء الأرض على حالٍ قد قدَّرها الله في الأزل وقضاها بإِهلاك المكذبين غرقاً قال قتادة: قضى عليهم في أم الكتاب إِذا كفروا أن يُغرقوا { وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ } أي وحملنا نوحاً على السفينة ذات الألواح الخشبية العريضة المشدودة بالمسامير قال في البحر: وذات الألواح والدُّسر هي السفينة التي أنشأها نوح عليه السلام، ويفهم من هذين الوصفين أنها "السفينة" فهي صفة تقوم مقام الموصوف وتنوب عنه ونحوه: قميصي مسرودة من حديد أي درع، وهذا من فصيح الكلام وبديعه، ولو جمعت بين الصفة والموصوف لم يكن بالفصيح، والدُّسُر: المسامير { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } أي تسير على وجه الماء بحفظنا وكلاءتنا وتحت رعايتنا { جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ } أي أغرقنا قوم نوح انتصاراً لعبدنا نوح لأنه كان قد كُذِّب وجُحد فضلُه قال الألوسي: أي فعلنا ذلك جزاءً لنوح لأنه كان نعمةً أنعمها الله على قومه فكفروها، وكذلك كلُ نبيٍ نعمةٌ من الله تعالى على أمته { وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً } أي تركنا تلك الحادثة "الطوفان" عبرة { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } أي فهل من معتبر ومتعظ؟ { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } استفهام تهويل وتعجيب أي فكيف كان عذابي وإِنذاري لمن كذب رسلي، ولم يتعظ بآياتي؟ { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ } أي والله لقد سهلنا القرآن للحفظ والتدبر والاتعاظ، لما اشتمل عليه من أنواع المواعظ والعبر { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } أي فهل من متعظٍ بمواعظه، معتبرٍ بقصصه وزواجره؟ قال الخازن: وفيه الحث على تعليم القرآن والاشتغال به، لأنه قد يسره الله وسهله على من يشاء من عباده، بحيث يسهل حفظه للصغير والكبير، والعربي والعجمي قال سعيد بن جبير: يسرناه للحفظ والقراءة، وليس شيء من كُتب الله تعالى يُقرأ كلُّه ظاهراً إِلا القرآن، وبالجملة فقد جعل الله القرآن مهيئاً ومسهلاً لمن أراد حفظه وفهمه أو الاتعاظ به، فهو رأس سعادة الدنيا والآخرة { كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } أي كذبت عادٌ رسولهم هوداً فكيف كان إِنذاري لهم بالعذاب؟ ثم شرع في بيان ما حلَّ بهم من العذاب الفظيع المدمر فقال { إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً } أي أرسلنا عليهم ريحاً عاصفة باردة شديدة الهبوب والصوت قال ابن عباس: الصرصر: الشديدة البرد وقال السدي: الشديدة الصوت { فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ } أي في يومٍ مشئوم دائم الشؤم، استمر عليهم بشؤمه فلم يبق منهم أحدٌ إِلا هلك فيه قال ابن كثير: استمر عليهم نحسه ودماره، لأنه يوم اتصل فيه عذابهم الدنيوي بالأخروي { تَنزِعُ ٱلنَّاسَ } أي تقلع الريح القوم ثم ترمي بهم على رءوسهم فتدقُّ رقابهم وتتركهم { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } أي كأنهم أُصول نخلٍ قد انقلعت من مغارسها وسقطت على الأرض، شبهوا بالنخل لطولهم وضخامة أجسامهم قال الخازن: كانت الريح تقلعهم ثم ترمي بهم على رءوسهم فتدق رقابهم، وتفصل رءوسهم من أجسامهم فتبقى أجسامهم بلا رءوس كعجز النخلة الملقاة على الأرض { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } تهويلٌ لما حلَّ بهم من العذاب وتعجيبٌ من أمرهم أي كيف كان عذابي وإِنذاري لهم؟ ألم يكن هائلاً فظيعاً؟ { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }؟ كرره للتنبيه على فضل الله على المؤمنين بتيسير حفظ القرآن أي ولقد سهلنا القرآن للحفظ والفهم، فهل من متعظٍ ومعتبر بزواجر القرآن!؟ ثم أخبر تعالى عن قوم ثمود المكذبين لرسولهم صالح عليه السلام فقال { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِٱلنُّذُرِ } أي كذبت ثمود بالإِنذارات والمواعظ التي أنذرهم بها نبيهم صالح { فَقَالُوۤاْ أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ } أي أنتَّبع إِنساناً مثلنا من آحاد الناس، ليس من الأشراف ولا العظماء، ونحن جماعة كثيرون؟ قال في البحر: قالوا ذلك حسداً منهم واستبعاداً أن يكون نوع البشر يفضل بعضُه بعضاً هذا الفضل، فقالوا: أنكون جمعاً ونتبع واحداً منا؟ ولم يعلموا أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، ويفيض نور الهدى على من رضيه { إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ } أي إنا إِذا اتبعناه لفي خطأٍ وذهابٍ عن الحقِّ واضح، وجنون دائم قال ابن عباس: سُعُر أي جنون من قولهم ناقة مسعورة كأنها من شدة نشاطها مجنونة { أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا } استفهام إِنكاري أي هل خصَّ بالوحي والرسالة وحده دوننا، وفينا من هو أكثر منه مالاً وأحسن حالاً؟ قال الإِمام الفخر: وفي الآية إِشارة إِلى ما كانوا ينكرونه بطريق المبالغة، وذلك لأن الإِلقاء إِنزالٌ بسرعة، فكأنهم قالوا: الملك جسيم والسماء بعيدة فكيف ينزل عليه الوحي في لحظة؟ وقولهم "عليه" إِنكارٌ آخر كأنهم قالوا: ما أُلقي عليه ذكرٌ أصلاً، وعلى فرض نزوله فلا يكون عليه من بيننا وفينا من هو فوقه في الشرف والذكاء؟ وقولهم { أَأُلْقِيَ } بدلاً من قولهم "أألقى الله" إِشارة إِلى أن الإِلقاء من السماء غير ممكن فضلاً عن أن يكون من الله تعالى { بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ } أي بل هو كاذب في دعوى النبوة، متجاوز في حد الكذب، متكبرٌ بطِرٌ يريد العلو علينا، وإِنما وصفوه بأنه { أَشِرٌ } مبالغة منهم في رفض دعواه كأنهم قالوا إنه كذب لا لضرورةٍ وحاجةٍ إِلى الخلاص كما يكذب الضعيف، وإِنما تكبَّر وبطر وطلب الرياسة عليكم وأراد أن تتبعوه فكذب على الله، فلا يلتفت إِلى كلامه لأنه جمع بين رذيلتين: الكذب والتكبر، وكلٌ منهما مانع من اتباعه، قال تعالى تهديداً لهم وردّاً لبهتانهم { سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ ٱلْكَذَّابُ ٱلأَشِرُ } أي سيعلمون في الآخرة من هو الكذَّاب الأشر، هل هو صالح عليه السلام أم قومه المكذبون المجرمون؟ قال الألوسي: المراد سيعلمون أنهم هم الكذابون الأشرون، لكنْ أورد ذلك مورد الإِبهام إِيماءً إِلى أنه مما لا يكاد يخفى { إِنَّا مُرْسِلُواْ ٱلنَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ } أي مخرجوا الناقة من الصخرة الصماء محنة لهم واختباراً كما شاءوا وطلبوا قال ابن كثير: أخرج الله لهم ناقة عظيمة عشراء، من صخرة صماء طبق ما سألوا، لتكون حجة الله عليهم في تصديق صالح عليه السلام فيما جاءهم به { فَٱرْتَقِبْهُمْ وَٱصْطَبِرْ } أي فانتظرهم وتبصَّرْ ما يصنعون وما يُصنع بهم، واصبر على أذاهم فإِن الله ناصرك عليهم { وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ ٱلْمَآءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ } أي وأعلِمْهم أنَّ الماء الذي يمرُّ بواديهم مقسومٌ بين ثمود وبين الناقة كقوله تعالى { لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } [الشعراء: 155] قال ابن عباس: إِذا كان يوم شربهم لا تشرب الناقةُ شيئاً من الماء وتسقيهم لبناً وكانوا في نعيم، وإِذا كان يوم الناقة شربت الماء كله فلم تُبق لهم شيئاً، وإِنما قال تعالى { بَيْنَهُمْ } تغليباً للعقلاء { كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ } أي كل نصيب وحصة من الماء يحضرها من كانت نوبته، فإِذا كان يوم الناقة حضرت شربها، وإِذا كان يومهم حضروا شربهم { فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَىٰ فَعَقَرَ } أي فنادت قبيلة ثمود أشقى القوم واسمه "قدار بن سالف" لقتل الناقة فتناول الناقة بسيفه فقتلها غير مكترث بالأمر العظيم { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } أي فكيف كان عقابي وإِنذاري لهم؟ ألم يكن فظيعاً شديداً؟! { إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً } أي أهلكناهم بصيحة واحدة صاح بها جبريل عليه السلام فلم تبق منهم عين تطْرف { فَكَانُواْ كَهَشِيمِ ٱلْمُحْتَظِرِ } أي فصاروا هشيماً متفتتاً كيابس الشجر إِذا بلي وتحطَّم وداسته الأقدام قال الإِمام الجلال: المحتظر هو الذي يجعل لغنمه حظيرةً من يابس الشجر والشوك يحفظهن فيها من الذئاب والسباع، وما سقط من ذلك فداسته فهو الهشيم { وَلَقَد يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } أي يسرناه للحفظ والاتعاظ فهل من معتبر؟.