التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ
١٠
تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
١١
يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
١٢
وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن ٱللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٣
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُوۤاْ أَنصَارَ ٱللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنَّصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ فَأَيَّدْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ
١٤
-الصف

صفوة التفاسير

المنَاسَبَة: لما بيَّن تعالى أن المشركين يريدون إِطفاء نور الله، أمر المؤمنين بمجاهدة أعداء الدين، ودعاهم إِلى التضحية بالمال والنفس والجهاد في سبيل الله، وبيَّن لهم أنها التجارة الرابحة لمن أراد سعادة الدارين.
اللغَة: { تُنجِيكُم } تخلّصكم وتنقذكم { ٱلْحَوَارِيُّونَ } الأصفياء والخواص من أتباع عيسى، وهم الذين ناصروا المسيح عليه السلام { أَيَّدْنَا } قوَّينا وساندنا { ظَاهِرِينَ } غالبين بالحجة والبرهان.
سَبَبُ النّزول: روي أن بعض الصحابة قالوا يا نبيَّ الله: لوددنا أن نعلم أيَّ التجارات أحبَّ إِلى الله فنتجر فيها!! فنزلت { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }؟ الآيات.
التفسِير: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ } أي يا من صدقتم الله ورسوله وآمنتم بربكم حقَّ الإِيمان، هل أدلكم على تجارة رابحة جليلة الشأن؟ والاستفهام للتشويق { تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } أي تخلِّصكم وتنقذكم من عذاب شديد مؤلم.. ثم بيَّن تلك التجارة ووضحها فقال { تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } إيماناً صادقاً، لا يشوبه شكٌ ولا نفاق { وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ } أي وتجاهدون أعداء الدين بالمال والنفس، لإِعلاء كلمة الله قال المفسرون: جعل الإِيمان والجهاد في سبيله "تجارة" تشبيهاً لهما بالتجارة، فإِنها عبارة عن مبادلة شيء بشيء، طمعاً في الربح، ومن آمن وجاهد بماله ونفسه فقد بذل ما عنده وما في وسعه، لنيل ما عند ربه من جزيل ثوابه، والنجاة من أليم عقابه، فشبَّه هذا الثواب والنجاة من العذاب بالتجارة لقوله تعالى
{ إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ } [التوبة: 111] قال الإِمام الفخر: والجهاد ثلاثةُ أنواع: 1- جهادٌ فيما بينه وبين نفسه، وهو قهرُ النفس ومنعُها عن اللذات والشهوات. 2- وجهادٌ فيما بينه وبين الخلق، وهو أن يدع الطمع منهم ويشفق عليهم ويرحمهم 3- وجهادُ أعداء الله بالنفس والمال نصرةً لدين الله { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي ما أمرتكم به من الإِيمان والجهاد في سبيل الله، خيرٌ لكم من كل شيء في هذه الحياة، إن كان عندكم فهمٌ وعلم { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } هذا جواب الجملة الخبرية { تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } لأن معناها معنى الأمر أي آمنوا بالله وجاهدوا في سبيله فإِذا فعلتم ذلك يغفر لكم ذنوبكم اي يسترها عليكم، ويمحها بفضله عنكم { وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } أي ويدخلكم حدائق وبساتين، تجري من تحت قصورها أنهار الجنة { وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ } أي ويسكنكم في قصور رفيعة في جنات الإِقامة { ذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } أي ذلك الجزاء المذكور هو الفوز العظيم الذي لا فوز وراءه، والسعادة الدائمة الكبيرة التي لا سعادة بعدها { وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا } أي ويمنُّ عليكم بخصلةٍ أُخرى تحبونها وهي { نَصْرٌ مِّن ٱللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } أي أن ينصركم على أعدائكم، ويفتح لكم مكة وقال ابن عباس: يريد فتح فارس والروم { وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي وبشِّر يا محمد المؤمنين، بهذا الفضل المبين قال في البحر: لما ذكر تعالى ما يمنحهم من الثواب في الآخرة، ذكر لهم ما يسرُّهم في العاجلة، وهي ما يفتح الله عليهم من البلاد، فهذه هي خير الدنيا موصولٌ بنعيم الآخرة { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُوۤاْ أَنصَارَ ٱللَّهِ } أي انصروا دين الله وأعلوا مناره { كَمَا قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ } أي كما نصر الحواريون دين الله حين قال لهم عيسى بن مريم { مَنْ أَنَّصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ } أي من ينصرني ويكون عوني لتبليغ دعوة الله، ونصرة دينه؟ { قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ } أي قال أتباع عيسى - وهم المؤمنون الخُلُّص من خاصته المستجيبون لدعوته - نحن أنصار دين الله قال البيضاوي: والحواريون أصفياؤه وهم أول من آمن به، مشتقٌ من الحور وهو البياض، وكانوا اثني عشر رجلاً وقال الرازي: والتشبيه في الآية محمول على المعنى أي كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار الله { فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ } أي فانقسم بنو إِسرائيل إِلى جماعتين: جماعةٌ آمنت به وصدَّقته، وجماعةٌ كفرت وكذبت برسالة عيسى { فَأَيَّدْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ } أي فقوينا المؤمنين على أعدائهم الكافرين { فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ } أي حتى صاروا غالبين عليهم بالحجة والبرهان قال ابن كثير: لما بلَّغ عيسى بن مريم رسالة ربه، اهتدت طائفة من بني إِسرائيل بما جاءهم به، وضلَّت طائفة فجحدوا نبوته، ورموه وأُمه بالعظائم، وهم اليهود عليهم لعنة الله، وغلت فيه طائفةٌ من أتباعه حتى رفعوه فوق ما أعطاه الله من النبوة، وافترقوا فيه فرقاً وشيعاً، فمنهم من زعم أنه ابنُ الله، ومنهم من قال إِنه ثالث ثلاثة "الأب والابن وروح القدس" ومنهم من قال: إِنه اللهُ - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً - فنصر الله المؤمنين على من عاداهم من فرق النصارى.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يأتي:
1- أسلوب التوبيخ
{ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [الصف: 2] وهي "ما" الاستفهامية حذفت ألفها تخفيفاً، والغرض من الاستفهام التوبيخ.
2- الإِطناب بتكرار ذكر اللفظ لبيان غاية قبح ما فعلوه
{ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [الصف: 3] وبين { تَقُولُواْ.. وتفعلوا } طباقٌ.
3- التشبيه المرسل المفصَّل
{ كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ } [الصف: 4] أي في المتانة والتراص.
4- الاستعارة اللطيفة
{ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ } [الصف: 8] استعار نور الله لدينه وشرعه المنير، وشبَّه من أراد إِبطال الدين بمن أراد إِطفاء الشمس بفمه الحقير، على طريق الاستعارة التمثيلية، وهذا من لطيف الاستعارات.
5- الاستفهام للترغيب والتشويق { هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ }؟.
6- الطباق { فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ.. وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ }.
7- السجع المرصَّع كأنه حبات در منظومة في سلك واحد مثل
{ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ } [الصف: 5] { قَالُواْ هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ } [الصف: 6] { وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } وهو من المحسنات البديعية.
تنبيه: إِنما قرنت قصة موسى وعيسى في هذه السورة لأنهما من أنبياء بني إِسرائيل، وهما من أعظم أنبيائهم ومن أولي العزم الذين ذكرهم الله في كتابه العزيز بالثناء والتبجيل.