التفاسير

< >
عرض

يٰأيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ ٱلْعِدَّةَ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً
١
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُواْ ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً
٢
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ ٱللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
٣
وَٱللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ ٱلْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَٱللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاَتُ ٱلأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً
٤
ذَلِكَ أَمْرُ ٱللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً
٥
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَىٰ
٦
لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ ٱللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا سَيَجْعَلُ ٱللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً
٧
وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً
٨
فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً
٩
أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَدْ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً
١٠
رَّسُولاً يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِ ٱللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ ٱللَّهُ لَهُ رِزْقاً
١١
ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ وَمِنَ ٱلأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ ٱلأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِّتَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً
١٢
-الطلاق

صفوة التفاسير

اللغَة: { ٱلْعِدَّةَ } المدة التي تحتبس فيها المرأة لمعرفة براءة رحمها { أَحْصُواْ } اضبطوا بطريق العَدَد { حَسْبُهُ } كافية { وُجْدكم } طاقتكم ووسعكم { ٱرْتَبْتُمْ } شككتم { كَأِيِّن } كثير { عَتَتْ } تكبرت وتجبرت وأعرضت { نُّكْراً } منكراً شنيعاً وفظيعاً { خُسْراً } خساراً وهلاكاً.
سَبَبُ النّزول: أ- روى البخاري أن عبد الله بن عمر طلَّق امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيَّظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: ليراجِعْها ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر، فإِن بدا له أن يطلِّقها فليطلِّقها طاهراً قبل أن يمسَّها، فتلك العدة التي أمر بها الله عز وجل.
ب - وروي عن أنس قال طلَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة فأتت أهلها فأنزل الله تعالى { يٰأيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } فقيل له: راجعْها فإِنها صوَّامة قوَّامة، وهي من أزواجك ونسائك في الجنة.
ج - وروي أنه لما نزل قوله تعالى
{ وَٱلْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوۤءٍ } { البقرة: 228] قال جماعة من الصحابة يا رسول الله: فما عدة من لا قرء لها من صغر أو كِبَر فنزلت { وَٱللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ ٱلْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ.. } الآية.
التفسِير: { يٰأيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } الخطابُ للنبي صلى الله عليه وسلم والحكم عام له ولأمته، وخصَّ هو بالنداء صلى الله عليه وسلم تعظيماً له، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان افعلوا أي افعل أنت وقومك، فهو نداء على سبيل التكريم والتعظيم قال القرطبي: الخطابُ للنبي صلى الله عليه وسلم خوطب بلفظ الجماعة { طَلَّقْتُمُ } تعظيماً وتفخيماً والمعنى: يا أيها النبي ويا أيها المؤمنون إِذا أردتم تطليق النساء { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } أي فطلقوهن مستقبلاتٍ لعدتهن، وذلك في الطهر، ولا تطلقوهن في الحيض قال مجاهد: أي طاهراً من غير جماع لقوله صلى الله عليه وسلم:
"فليطلقها طاهراً قبل أن يمسَّها، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يُطلَّق لها النساء" قال المفسرون: وإِنما نُهي عن طلاق المرأة وقت الحيض لئلا تطول عليها العدة فتتضرر، ولأن حالة الحيض منفِّرة للزوج، تجعله يتسرع في طلاقها بخلاف ما إِذا كانت طاهراً، وكونه لم يجامعها في ذلك الطهر، لئلا يحصل من ذلك الوطء حملٌ، فتنتقل العدة من الحيض لوضع الحمل وفي ذلك ضرر ظاهر { وَأَحْصُواْ ٱلْعِدَّةَ } أي اضبطوها وأكملوها ثلاثة أقراء كاملة لئلا تختلط الأنساب { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمْ } أي خافوا الله ربَّ العالمين، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ } أي لا تخرجوهن من مساكنهن، بعد فراقكم لهن إِلى أن تنقضي عدتهن { وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } أي ولا يخرجن من البيوت حتى تنقضي عدتهن، إِلا إِذا قارفت المطلقة عملاً قبيحاً كالزنى فتخرج لإِقامة الحد عليها قال في التسهيل: نهى الله سبحانه وتعالى أن يُخرج الرجلُ المرأة المطلَّقة من المسكن الذي طلقها فيه، ونهاها هي أن تخرج باختيارها، فلا يجوز لها المبيت خارجاً عن بيتها، ولا أن تغيب عنه نهاراً إِلا لضرورة التصرف، وذلك لحفظ النسب وصيانة المرأة، واختلف في الفاحشة التي تبيح خروج المعتدة فقيل: إِنها الزنى فتخرج لإِقامة الحد عليها، وقيل إِنه سوء الكلام مع الأصهار وبذاءة اللسان فتخرج ويسقط حقها من السكنى، ويؤيده قراءة "إِلا أن يفحشن عليكم" { وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ } أي وهذه الأحكام هي شرائع الله ومحارمه { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } أي ومن يخرج عن هذه الأحكام، ويتجاوزها إِلى غيرها ولا يأتمر بها، فقد ظلم نفسه بتعريضها للعقاب، وأضرَّ بها حيث فوَّت على نفسه إِمكان إِرجاع زوجته إِليه قال الرازي: وهذا تشديدٌ فيمن يتعدى طلاق السنة، ومن يطلق لغير العدة { لاَ تَدْرِى لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } أي لا تعرف أيها السامع ماذا يحدث اللهُ بعد ذلك الطلاق من الأمر؟ فلعل الله يقلّب قلبه من بغضها إِلى محبتها، ومن الرغبة عنها إِلى الرغبة فيها، فيجعله راغباً في زوجته بعدما كان كارهاً لها قال ابن عباس: يريد الندم على طلاقها، والمحبة لرجعتها في العدة { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي فإِذا شارفن على انقضاء العدة وقاربن ذلك { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } أي فراجعوهنَّ إِلى عصمة النكاح مع الإِحسان في صحبتهن كما أمر الله، أو اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فيملكن أنفسهن قال المفسرون: الإِمساك بالمعروف هو إِحسان العشرة وتوفية النفقة، من غير قصد المضارة في الرجعة لتطول عليها العدة، والفراق بالمعروف هو أداء الصَّداق، والمتعة عند الطلاق، والوفاء بالشروط مع توفية جميع حقوقها { وَأَشْهِدُواْ ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ } أي وأشهدوا عند الطلاق أو الرجعة، شخصين من أهل العدالة والاستقامة من تثقون في دينهما وأمانتهما قال في البحر: وهذا الإِشهاد مندوبٌ إِليه عند أبي حنيفة كقوله تعالى { وَأَشْهِدُوۤاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } [البقرة: 282] وعند الشافعية واجبٌ في الرجعة، مندوبٌ إِليه في الفرقة { وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَادَةَ لِلَّهِ } أي اشهدوا بالحق دون تحيز لأحد، خالصاً لوجه الله تعالى من غير تبديل ولا تغيير، ودون مراعاةٍ للمشهود له أو المشهود عليه { ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } أي هذا الذي شرعناه من الأحكام، إِنما ينتفع ويتعظ به المؤمن الذي يخشى الله، ويخاف الحساب والعقاب في الدار الآخرة { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } أي ومن يراقب الله ويقف عند حدوده، يجعل له من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ويرزقه من وجه لا يخطر بباله ولا يعلمه قال مجاهد: كنت عند ابن عباس فجاءه رجلٌ فقال: إِنه طلَّق امرأته ثلاثاً، فسكت حتى ظننت أنه رادها إِليه، ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب أحموقته ثم يقول: يا ابن عباس، يا ابن عباس!! والله تعالى يقول { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } وإِنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجاً، عصيت ربك وبانت منك امرأتك وقال المفسرون: الآية عامة وقد "نزلت في عوف بن مالك الأشجعي أسر المشركون ابنه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إِليه الفاقة وقال: إن العدوَّ أسر ابني وجزعتْ أمه فما تأمرني؟ فقال صلى الله عليه وسلم له: اتق الله واصبر، وآمرك وإِياها أن تستكثروا من قول لا حول ولا قوة إِلا بالله ففعل هو وامرأته، فبينا هو في بيته إِذ قرع ابنه الباب، ومعه مائة من الإِبل غفل عنها العدو فاستاقها" فنزلت { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } أي ومن يعتمد على الله، ويثقْ به فيما أصابه ونابه، فإِن الله كافيه قال الصاوي: أي من فوَّض إِليه أمره كفاه ما أهمَّه، والأخذُ بالأسباب لا ينافي التوكل، لأنه مأمور به ولكنْ لا يعتمد على تلك الأسباب، وفي الحديث "لو توكلتم على الله حقَّ توكله لزرقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً" { إِنَّ ٱللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ } أي نافذُ أمره في جميع خلقه، يبلغ ما يريد ولا يعجزه شيء قال في التسهيل: وهذا حضٌ على التوكل وتأكيدٌ له، لأن العبد إِذا تحقق أن الأمور كلها بيد الله، توكَّل على الله وحده ولم يعوِّل على سواه { قَدْ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } أي قد جعل الله لكل أمرٍ من الأمور، مقداراً معلوماً ووقتاً محدوداً، حسب الحكمة الأزلية قال القرطبي: أي جعل لكل شيءٍ من الشدة والرخاء أجلاً ينتهي إِليه.. ثم بيَّن سبحانه حكم المطلَّقة التي لا تحيض لصغرها أو لكبر سنها فقال { وَٱللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ ٱلْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ } أي والنسوة اللواتي انقطع حيضهن لكبر سنهنَّ، إِن شككتم وجهلتم كيف عدتهن؟ فهذا حكمهن { فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ } أي فعدةُ الواحدة منهن ثلاثة أشهر، كل شهرٍ يقوم مقام حيضة { وَٱللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ } أي وكذلك اللواتي لم يحضن لصغرهن عدتهن ثلاثة أشهر { وَأُوْلاَتُ ٱلأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } أي والمرأة الحامل تنتهي عدتها بوضع الحمل، سواءً كانت مطلقة، أو متوفى عنها زوجها { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً } أي ومن يخشى الله في أقواله وأفعاله، ويجتنب ما حرَّم الله عليه، يسهِّل عليه أمره ويوفقه لكل خير { ذَلِكَ أَمْرُ ٱللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ } أي ذلك هو حكم الله وشرعه الحكيم، أنزله عليكم أيها المؤمنون لتأتمروا به، وتعملوا بمقتضاه { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً } أي ومن يتَّق ربه يمح عنه ذنوبه، ويضاعف له الأجر والثواب قال الصاوي: كرر التقوى لعلمه سبحانه وتعالى أن النساء ناقصات عقلٍ ودين، فلا يصبر على أمورهن إِلا أهل التقوى وقال في البحر: لمَّا كان الكلام في أمر المطلقات، وكنَّ لا يطلَّقن إِلا عن بغض أزواجهنَّ لهنَّ، وقد ينسب الزوج إِليها ما يشينها وينفِّر الخُطَّاب عنها، فلذلك تكرر الأمر بالتقوى، وجاء مبرزاً في صورة شرط وجزاء { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل } الآية { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ } أي أسكنوا هؤلاء المطلقات في بعض مساكنكم التي تسكنونها، على قدر طاقتكم ومقدرتكم، فإِن كان موسراً وسَّع عليها في المسكن والنفقة، وإِن كان فقيراً فعلى قدر الطاقة { وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ } أي ولا تضيقوا عليهن في السكنى والنفقة، حتى تضطروهن إِلى الخروج أو الافتداء { وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ } أي وإِن كانت المطلَّقة حاملاً { فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } أي فعلى الزوج أن ينفق عليها - ولو طالت مدة الحمل - حتى تضع حملها { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ } أي فإِذا ولدت ورضيت أن ترضع له ولده { فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } أي فعلى الرجل أن يدفع لها أجر الرضاعة، لأن الأولاد ينسبون إِلى الآباء قال في التسهيل: والمعنى إِن أرضع هؤلاء الزوجات المطلقات أولادكم، فآتوهنَّ أجرة الرضاع وهي النفقة وسائر المؤن { وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ } أي وليأمر كلٌ منهما صاحبه بالخير، من المسامحة والرفق والإِحسان، قال القرطبي: أي ولْيقبل بعضكم من بعض ما أمره به من المعروف الجميل، والمعروف منها: إِرضاعُ الولد من غير أجرة، والمعروف منه: توفيرُ الأجرة عليها للإِرضاع { وَإِن تَعَاسَرْتُمْ } أي تضايقتم وتشددتم، وعسر الاتفاق بين الزوجين، فأبى الزوج أن يدفع لها ما تطلب، وأبت الزوجة أن ترضعه بأنقص من ذلك الأجر { فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَىٰ } أي فليستأجر لولده مرضعةً غيرها، وهو خبرٌ بمعنى الأمر أي فليسترضعْ لولده مرضعةً أُخرى قال أبو حيان: وفيه عتابٌ للأم لطيف كما تقول لمن تطلب منه حاجة فيتوانى عنها: سيقضيها غيرك، تريد أنها لن تبقى غير مقضية وأنت ملوم قال الضحاك: إِن أبت الأم أن ترضع استأجر لولده أخرى، فإِن لم يقبل أُجبرت أمه على الرضاع بالأجر { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ } هذا بيانٌ لقدر الإِنفاق والمعنى: لينفقْ الزوج على زوجته وعلى ولده الصغير، على قدر وسعه وطاقته، قال في التسهيل: وهو أمرٌ بأن ينفق كل واحد على مقدار حاله، فلا يكلف الزوج ما لا يطيق، ولا تُضيَّع الزوجة بل يكون الحال معتدلاً، وفي الآية دليلٌ على أن النفقة تختلف باختلاف أحوال الناس يسراً وعسراً { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } أي ومن ضُيّق عليه رزقه فكان دون الكفاية { فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ ٱللَّهُ } أي فلينفق على مقدار طاقته، وعلى قدر ما آتاه الله من المال { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا } أي لا يكلف الله أحداً إِلا بقدر طاقته واستطاعته، فلا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغني قال أبو السعود: وفيه تطييبٌ لقلب المعسر، وترغيبٌ له في بذل مجهوده، وقد أكد ذلك الوعد بقوله { سَيَجْعَلُ ٱللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً } أي سيجعل الله بعد الضيق الغنى، وبعد الشدة السعة والرخاء، وفيه بشارة للفقراء بفتح أبواب الرزق عليهم.. ثم حذَّر تعالى من عصيانه وتعدي حدوده، وضرب الأمثال بالأمم السابقة فقال { وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ } أي وكثير من أهل قرية من الأمم السالفة { عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ } أي طغت وتمردت على أوامر الله وأوامر رسله { فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً } أي فجازيناها على عصيانها وطغيانها بأنواع العذاب الأليم، من الجوع والقحط وعذاب الاستئصال { وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً } أي عذاباً منكراً عظيماً يفوق التصور { فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا } أي فذاقت عاقبة كفرها وطغيانها وتمردها على أوامر الله { وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً } أي وكانت نتيجة بغيها الهلاك والدمار، والخسران الذي ما بعده خسران.. ولّما ذكر ما حلَّ بالأمم الطاغية، أمر المؤمنين بتقوى الله، تحذيراً من عقابه لئلا يصيبهم ما أصاب أولئك المجرمين فقال { أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } أي هيأ الله لهم في الآخرة عذاب جهنم الشديد المؤبد { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } أي فخافوا الله واحذروا بطشه وانتقامه يا أصحاب العقول السليمة { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } أي أنتم يا معشر المؤمنين الذي صدقتم بالله ورسوله { قَدْ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً } أي قد أنزل الله إِليكم وحياً يتلى وهو القرآنُ الحكيم { رَّسُولاً يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِ ٱللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ } أي وأرسل إِليكم رسولاً وهو محمد صلى الله عليه وسلم يقرأ عليكم آياتِ الله، واضحات جليات، تبيِّن الحلال والحرام وما تحتاجون إِليه من الأحكام قال في البحر: والظاهر أن الذكر هو القرآن، وأن الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم { لِّيُخْرِجَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } أي ليخرج المؤمنين المتقين، من الضلالة إِلى الهدى، ومن ظلمة الكفر والجهل إِلى نور الإِيمان والعلم { وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً } أي ومن يُصدق بالله ويعمل بطاعته { يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } أي يدخله في الآخرة جنات النعيم، تجري من تحت قصورها أنهار الجنة { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } أي ماكثين في تلك الجنان - جنان الخلد - أبداً لا يخرجون منها ولا يموتون { قَدْ أَحْسَنَ ٱللَّهُ لَهُ رِزْقاً } أي قد طيَّب الله رزقهم في الجنة ووسَّعه لهم، لأن نعيمها دائم لا ينقطع قال الطبري: أي وسَّع لهم في الجنات الرزق، وهو ما رزقهم من المطاعم والمشارب وسائر ما أعدَّ لأوليائه فيها فطيَّبه لهم، وفي الآية معنى التعجب والتعظيم لما رزق الله المؤمن من الثواب.. ثم أشار تعالى إِلى آثار قدرته، وعظيم سلطانه وجلاله فقال { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ وَمِنَ ٱلأَرْضِ مِثْلَهُنَّ } أي اللهُ العظيم الكبير هو الذي خلق بقدرته سبع سماواتٍ طباقاً، ومن الأرض كذلك خلق سبع أرضين بعضها فوق بعض بدون فتوق بخلاف السماوات { يَتَنَزَّلُ ٱلأَمْرُ بَيْنَهُنَّ } أي يتنزل وحيُ الله ويجري أمره وقضاؤه بين السماوات والأرضين { لِّتَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي لتعلموا أن من قدر على خلق ذلك قادر على كل شيءٍ { وَأَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً } أي ولتعلموا أنه تعالى عالم بكل شيء، لا تخفى عليه خافية.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1- الطباق { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ } وكذلك { بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً }.
2- الإِظهار في موضع الإِضمار للتهويل { وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ }.
3- الالتفات لمزيد الاهتمام { لاَ تَدْرِى لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } ورد بطريق الخطاب والأصل أن يكون بطريق الغائب "لا يدري".
4- إِيجاز الحذف { وَٱللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ } حذف منه الخبر أي فعدتهن ثلاثة أشهر أيضاً.
5- تكرار الوعيد للتفظيع والترهيب { فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا } الآية.
6- المجاز المرسل { وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ } يراد بها أهل القرية من باب تسمية الحال باسم المحل.
7- الاستعارة اللطيفة { لِّيُخْرِجَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } استعار الظلمات للضلال والكفر، واستعار النور للهدى والإِيمان، وهو من روائع البيان، وجلال تعبير القرآن.
8- السجع المرصَّع كأنه الدر والياقوت مثل { قَدْ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً .. يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً .. وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً .. وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً } الخ وهو من المحسنات البديعية.