التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ
١
وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ
٢
ٱلَّذِيۤ أَنقَضَ ظَهْرَكَ
٣
وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ
٤
فَإِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْراً
٥
إِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْراً
٦
فَإِذَا فَرَغْتَ فَٱنصَبْ
٧
وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَٱرْغَبْ
٨
-الشرح

صفوة التفاسير

التفسِير: { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } استفهامٌ بمعنى التقرير أي قد شرحنا لك صدرك يا محمد بالهدى والإِيمان، ونور القرآن كقوله تعالى { فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ } [الأَنعام: 125] قال ابن كثير: أي نورناه وجعلناه فسيحاً، رحيباً، واسعاً، وكما شرح الله صدره كذلك جعل شرعه فسيحاً، سمحاً، سهلاً، لا حرج فيه ولا إِصرْ ولا ضيق وقال أبو حيان: شرحُ الصدر تنويره بالحكمة، وتوسيعه لتلقي ما يوحى إِليه وهو قول الجمهور، وقيل: هو شق جبريل لصدره في صغره وهو مرويٌ عن ابن عباس { وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ } أي حططنا عنك حملك الثقيل { ٱلَّذِيۤ أَنقَضَ ظَهْرَكَ } أي الذي أثقل وأوهن ظهرك قال المفسرون: المراد بالوزر الأمور التي فعلها صلى الله عليه وسلم، وَوَضْعُها عنه هو غفرانها له كقوله تعالى { لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [الفتح: 2] وليس المراد بالذنوب المعاصي والأثام، فإِن الرسل معصومون من مقارفة الجرائم، ولكن ما فعله عليه السلام عن اجتهاد وعوتب عليه، كإِذنه صلى الله عليه وسلم للمنافقين في التخلف عن الجهاد حين اعتذروا، وأخذه الفداء من أسرى بدر، وعبسه في وجه الأعمى ونحو ذلك، قال في التسهيل: وإِنما وصفت ذنوب الأنبياء بالثقل، وهي صغائر مغفورة لهم، لهمِّهم بها وتحسرهم عليها، فهي ثقيلة عندهم لشدة خوفهم من الله وهذا كما ورد في الأثر "إِنَّ المؤمن يرى ذنوبه كالجبل يقع عليه، والمنافق يرى ذنوبه كالذبابة تطير فوق أنفه" والنقيضُ هو الصوتُ الذي يسمع من المحمل فوق ظهر البعير من شدة الحمل { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } أي رفعنا شأنك، وأعلينا مقامك في الدنيا والآخرة، وجعلنا اسمك مقروناً باسمي قال مجاهد: لا أُذكر إِلا ذكرت معي وقال قتادة: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب، ولا متشهد، ولا صاحب صلاة إِلا ينادي: أشهد أن لا إِله إِلا الله وأن محمداً رسول الله، وفي الحديث "أتاني جبريل فقال لي يا محمد: إِن ربك يقول: أتدري كيف رفعت ذكرك؟ قلت: الله تعالى أعلم، قال: إِذا ذكرتُ ذكرتَ معي" قال في البحر: قرن الله ذكر الرسول بذكره جل وعلا في كلمة الشهادة، والأذان والإِقامة، والتشهد، والخطب، وفي غير موضع من القرآن، وأخذ على الأنبياء وأممهم أن يؤمنوا به كما قال حسان بن ثابت:

وضمَّ الإِله اسم النبي إِلى اسمه إِذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشقَّ له من إِسمه ليُجله فذو العرش محمودٌ وهذا محمد

{ فَإِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْراً } أي بعد الضيق يأتي الفرج، وبعد الشدة يكون المخرج قال المفسرون: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة في ضيق وشدة هو وأصحابه، بسبب أذى المشركين للرسول والمؤمنين، فوعده الله باليسر، كما عدَّد عليه النعم في أول السورة تسلية وتأنيساً له، لتطيب نفسه ويقوى رجاؤه، وكأن الله تعالى يقول: إِنَّ الذي أنعم عليك بهذه النعم الجليلة، سينصرك عليهم، ويظهر أمرك، ويبدل لك هذا العسر بيسرٍ قريب، ولذلك كرره مبالغة فقال: { إِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْراً } أي سيأتي الفرج بعد الضيق، واليسر بعد العسر فلا تحزن ولا تضجر وفي الحديث "لن يغلب عسرٌ يسرين" { فَإِذَا فَرَغْتَ فَٱنصَبْ } أي فإِذا فرغت يا محمد من دعوة الخلق، فاجتهد في عبادة الخالق، وإِذا انتهيت من أمور الدنيا، فأتعب نفسك في طلب الآخرة { وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَٱرْغَبْ } أي اجعل همَّك ورغبتك فيما عند الله، لا في هذه الدنيا الفانية قال ابن كثير: المعنى إِذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها، وقطعت علائقها، فانصب إِلى العبادة، وقم إِليها نشيطاً فارغ البال، وأخلص لربك النية والرغبة.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1- الاستفهام التقريري للامتنان والتذكير بنعم الرحمن { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ.. } الخ.
2- الاستعارة التمثيلية { وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * ٱلَّذِيۤ أَنقَضَ ظَهْرَكَ } شبَّه الذنوب بحمل ثقيل يرهق كاهل الإِنسان ويعجز عن حمله بطريق الاستعارة التمثيلية.
3- التنكير للتفخيم والتعظيم { إِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْراً } نكر اليسر للتعظيم كأنه قال يسراً كبيراً.
4- الجناس الناقص بين لفظ { اليُسْر } و{ ٱلْعُسْر }.
5- تكرير الجملة لتقرير معناها في النفوس وتمكينها في القلوب { إِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْراً } ويسمى هذا بالإِطناب.
6- السجع المرصَّع مراعاة لرءوس الآيات { فَإِذَا فَرَغْتَ فَٱنصَبْ * وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَٱرْغَبْ } ومثلها { وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * ٱلَّذِيۤ أَنقَضَ ظَهْرَكَ } وهو من المحسنات البديعية.