التفاسير

< >
عرض

سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ ٱلْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِٱلَّيلِ وَسَارِبٌ بِٱلنَّهَارِ
١٠
لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوْمٍ سُوۤءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ
١١
-الرعد

مختصر تفسير ابن كثير

يخبر تعالى عن إحاطة علمه بجميع خلقه، وأنه سواء منهم من أسر قوله أو جهر به، فإنه يسمعه لا يخفى عليه شيء كقوله: { { وَإِن تَجْهَرْ بِٱلْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخْفَى } [طه: 7]، وقال: { { وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } [النمل: 25]، وقوله: { وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِٱلَّيل } أي مختلف في قعر بيته في ظلام الليل، { وَسَارِبٌ بِٱلنَّهَارِ } أي ظاهر ماش في بياض النهار وضيائه، فإن كلاهما في علم الله على السواء، كقوله تعالى: { { أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ } [هود: 5] الآية، وقوله تعالى: { { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } [يونس: 61]، وقوله: { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } أي للعبد ملائكة يتعاقبون عليه، حرس بالليل، وحرس بالنهار، يحفظونه من الأسواء والحادثات، كما يتعاقب ملائكة آخرون لحفظ الأعمال من خير أو شر، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فاثنان عن اليمين والشمال، يكتبان الأعمال صاحب اليمين يكتب الحسنات، وصاحب الشمال يكتب السيئات، وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه، واحد من ورائه وآخر من قدامه، فهو بين أربعة املاك بالنهار، وأربعة آخرين بالليل بدلاً، حافظان وكاتبان، كما جاء في "الصحيح": "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار" الحديث، وفي الحديث الآخر: "إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء وعند الجماع فاستحيوهم وأكرموهم" ، وقال ابن عباس: { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } قال: ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدر الله خلوا عنه، وقال مجاهد: ما من عبد إلا له ملك موكل يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام، فما منها شيء يأتيه يريده إلا قال له الملك: وراءك إلا شيء أذن الله فيه فيصيبه.
وقال الإمام أحمدرحمه الله ، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن، وقرينه من الملائكة قالوا: وإياك يا رسول الله، قال: وإياي، ولكن الله أعانني عليه فلا يأمرني إلا بخير" . وقوله: { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } قيل: المراد حفظهم له من أمر الله، قاله ابن عباس، وإليه ذهب مجاهد وسعيد بن جبير، وقال قتادة: { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } يحفظونه بأمر الله، وقال كعب الأحبار: لو تجلى لابن آدم كل سهل وكل حزن لرأى كل شيء من ذلك شيئاً يقيه، ولولا أن الله وكل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم إذاً لتُخُطفتم، قال أبو أمامة: ما من آدمي إلا ومعه ملك يذود عنه حتى يسلمه للذي قدر له. وقال أبو مجلز: جاء رجل إلى علي رضي الله عنه وهو يصلي، فقال: احترس، فإن ناساً يريدون قتلك، فقال: إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدر، فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه، إن الأجل جنة حصينة. وقال بعضهم: { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } بأمر الله، كما جاء في الحديث أنهم قالوا: "يا رسول الله أرأيت رقيا تسترقي بها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟ فقال: هي من قدر الله" ، وقال ابن أبي حاتم: "أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل أن قل لقومك: إنه ليس من أهل قرية ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله فيتحولون منها إلى معصية الله إلا حوّل الله عنهم ما يحبون إلى ما يكرهون" ، ثم قال: إن تصديق ذلك في كتاب الله: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ }.