التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَٱلْعَاكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ
١٢٥
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ
١٢٦
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَٰهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَٰعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
١٢٧
رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ
١٢٨
-البقرة

مختصر تفسير ابن كثير

{ وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى... }.
عن ابن عباس { وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ } قال: يثوبون إليه ثم يرجعون. وحدث عبدة بن أبي لبابة قال: لا ينصرف عنه منصرف وهو يرى أنه قد قضى منه وطراً. قال الشاعر:

جعل البيت مثاباً لهم ليس منه الدهرَ يقضون الوَطَر

وقال سعيد بن جبير في الرواية الأُخرى وعكرمة وقتادة { مَثَابَةً لِّلنَّاسِ }: أي مجمعاً { وَأَمْناً } أي أمناً للناس، وقد كانوا في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون لا يُسبون.
ومضمون هذه الآية أن الله تعالى يذكر شرف البيت، وما جعله موصوفاً به شرعاً وقدراً من كونه مثابةً للناس، أي جعله محلاً تشتاق إليه الأرواح وتحنّ إليه، ولا تقضي منه وطراً ولو ترددت إليه كل عام، استجابة من الله تعالى لدعاء خليله إبراهيم عليه السلام، في قوله:
{ { فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِيۤ إِلَيْهِمْ } [إبراهيم: 37] إلى أن قال: { { رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ } [إبراهيم: 40]، ويصفه تعالى بأنه جعله أمناً من دخله أمن، ولو كان قد فعل ما فعل ثم دخله كان آمناً. فقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فيه فلا يعرض له. وما هذا الشرف إلا لشرف بانيه أولاً وهو خليل الرحمٰن كما قال تعالى: { { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً } [الحج: 26].
وقال تعالى:
{ { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } [آل عمران: 96-97]. وفي هذه الآية الكريمة نبّه على مقام إبراهيم مع الأمر بالصلاة عنده، فقال: { وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى }. وقد اختلف المفسرون في المراد بالمقام ما هو؟ فقال مجاهد عن ابن عباس: مقام إبراهيم الحرم كله، وقيل: مقام إبراهيم الحج كله (منى ورمي الجمار والطواف بين الصفا والمروة)، وقال سفيان الثوري عن سعيد بن جبير: { وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } قال: الحجر مقام إبراهيم نبي الله قد جعله الله رحمة فكان يقوم عليه ويناوله إسماعيل الحجارة، وقال السدي: المقام الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم حتى غسلت رأسه. عن جعفر بن محمد عن أبيه: سمع جابراً يحدّث عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما طاف النبي صلى الله عليه وسلم قال له عمر: هذا مقام أبينا؟ قال: "نعم"، قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فأنزل الله عزّ وجلّ: { وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى }. وقال البخاري: باب قوله: { وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } مثابة يثوبون: يرجعون. قال عمر بن الخطّاب: وافقت ربي في ثلاث أو وافقني ربي في ثلاث: قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلّى، فنزلت: { وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى }، وقلت: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أُمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب. قال: وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه فدخلت عليهن فقلت: إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله خيراً منكن، حتى أتيت إحدى نسائه قالت: يا عمر أما في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت، فأنزل الله: { { عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ } [التحريم: 5] الآية.
وقال أنس: قال عمر رضي الله عنه: وافقت ربي عزّ وجلّ في ثلاث، قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت: { وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى }، وقلت: يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب. واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة فقلت لهن: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيرا منكن فنزلت كذلك. ورواه الإمام مسلم بن حجاج في صحيحه بسند آخر ولفظ آخر عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال: وافقت ربي في ثلاث: في الحجاب، وفي أسارى بدر، وفي مقام إبراهيم.
وروى ابن جريج عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعاً حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين، ثم قرأ: { وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } وقال ابن جرير عن جابر قال: استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً ثم نفذ إلى مقام إبراهيم فقرأ: { وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } فجعل المقام بينه وبين البيت فصلى ركعتين، وهذا قطعة من الحديث الطويل الذي رواه مسلم في صحيحه. فهذا كله مما يدل على أن المراد بالمقام إنما هو الحجر، الذي كان إبراهيم عليه السلام يقوم عليه لبناء الكعبة، لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه، ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار، وكلما كمل ناحية انتقل إلى الناحية الأُخرى يطوف حول الكعبة وهو واقف عليه كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها وهكذا حتى تم جدران الكعبة كما سيأتي بيانه في قصة إبراهيم وإسماعيل وكانت آثار قدميه ظاهرة فيه، ولم يزل هذا معروفاً تعرفه العرب في جاهليتها، ولهذا قال أبو طالب في قصيدته المعروفة اللامية:

وموطىء إبراهيم في الصخر رطبة على قدميه حافياً غير ناعل

وقد كان هذا المقام ملصقاً بجدار الكعبة قديماً ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب، مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب، في البقعة المستقلة هناك، وكان الخليل عليه السلام لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة، أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك، ولهذا - والله أعلم - أمر بالصلاة هناك عند الفراغ من الطواف، وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه وإنما أخّره عن جدار الكعبة أميرُ المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أحد الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين، الذين أمرنا باتباعهم، وهو أحد الرجلين اللذين قال فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" ، وهو الذي نزل القرآن بوفاقه في الصلاة عنده ولهذا لم ينكر ذلك أحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
عن عائشة رضي الله عنها أن المقام كان زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان أبي بكر رضي الله عنه ملتصقاً بالبيت ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وعن مجاهد قال: قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله لو صلّينا خلف المقام، فأنزل { وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } فكان المقام عند البيت فحوَّله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضعه هذا. وهو مخالف لما تقدم أن أول من أخَّر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهذا أصح من طريق ابن مردويه مع اعتضاد هذا بما تقدم، والله أعلم.
{ ... وَعَهِدْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَٱلْعَاكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ }.
قال الحسن البصري: قوله تعالى: { وَعَهِدْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ }: أمرهما الله أن يطهراه من الأذى والنجس، ولا يصيبه من ذلك شيء. وقال ابن جريج قلت لعطاء ما عهده؟ قال أمره. والظاهر أن هذا الحرف إنما عدّي بإلى لأنه في معنى أوحينا، قوله: { أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَٱلْعَاكِفِينَ } أي من الأوثان والرفث وقول الزور والرجس. قال مجاهد وعطاء وقتادة: { أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ } أي بلا إله إلا الله من الشرك، وأما قوله تعالى: { لِلطَّائِفِينَ } فالطواف بالبيت معروف، وعن سعيد بن جبير أنه قال: { لِلطَّائِفِينَ } يعني من أتاه من غربة { وَٱلْعَاكِفِينَ } المقيمين فيه. وهكذا روي عن قتادة والربيع بن أنَس أنَّهما فسَّرا العاكفين بأهله المقيمين فيه. وعن ابن عباس قال: إذا كان جالساً فهو من العاكفين، وعن ثابت قال: قلنا لعبد الله بن عبيد بن عمير ما أراني إلا مكلم الأمير أن امنع الذين ينامون في المسجد الحرام فإنهم يجنبون ويحدّثون قال: لا تفعل فإن ابن عمر سئل عنهم فقال: هم العاكفون. (قلت): وقد ثبت في الصحيح أن ابن عمر كان ينام في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عزب، وأما قوله تعالى: { وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ } فقال عطاء عن ابن عباس إذا كان مصلياً فهو من الركع السجود.
قال ابن جريررحمه الله فمعنى الآية: وأمرنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي للطائفين، والتطهيرُ الذي أمرهما به في البيت هو تطهيره من الأصنام وعبادة الأوثان فيه ومن الشرك، فإن قيل: فهل كان قبل بناء إبراهيم عند البيت شيء من ذلك الذي أمر بتطهيره منه؟ فالجواب من وجهين: (أحدهما): أنه أمرهما بتطهيره مما كان يعبد عنده زمان قوم نوح من الأصنام والأوثان، ليكون ذلك سنة لمن بعدهما إذ كان الله تعالى قد جعل إبراهيم إماماً يقتدى به. (قلت): وهذا الجواب مفرّعٌ على أنه كان يعبد عنده أصنام قبل إبراهيم عليه السلام، ويحتاج إثبات هذا إلى دليل عن المعصوم محمد صلى الله عليه وسلم. (الثاني): أنه أمرهما أن يخلصا في بنائه لله وحده لا شريك له فيبنياه مطهراً من الشرك والريب، كما قال جلّ ثناؤه:
{ { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ } [التوبة: 109] قال فكذلك قوله: { وَعَهِدْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ } أي ابنياه على طهر من الشرك بي والريب، وملخص هذا الجواب أن الله تعالى أمر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أن يبنيا الكعبة على اسمه وحده لا شريك له، للطائفين به والعاكفين عنده والمصلين إليه من الركع السجود كما قال تعالى: { { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلْقَآئِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ } [الحج: 26] الآيات.
وقد اختلف الفقهاء أَيَّمَا أفضل الصلاة عند البيت أو الطواف به؟ فقال مالكرحمه الله : الطواف به لأهل الأمصار أفضل، وقال الجمهور: الصلاة أفضل مطلقاً، وتوجيه كل منهما يذكر في كتاب الأحكام، والمراد من ذلك الرد على المشركين، الذين كانوا يشركون بالله عند بيته، المؤسس على عبادته وحده لا شريك له، ثم مع ذلك يصدون أهله المؤمنين عنه كما قال تعالى:
{ { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ٱلَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً ٱلْعَاكِفُ فِيهِ وَٱلْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [الحج: 25]، ثم ذكر أن البيت إنما أسس لمن يعبد الله وحده لا شريك له، إما بطواف أو صلاة، فذكر في سورة الحج أجزاءها الثلاثة (قيامها وركوعها وسجودها) ولم يذكر العاكفين لأنه تقدم { { سَوَآءً ٱلْعَاكِفُ فِيهِ وَٱلْبَادِ } [الحج: 25]، وفي هذه الآية الكريمة ذكر الطائفين والعاكفين، واكتفى بذكر الركوع والسجود عن القيام، لأنه قد علم أنه لا يكون ركوع ولا سجود إلا بعد قيام، وفي ذلك أيضاً رد على من لا يحجه من أهل الكتابين (اليهود والنصارى) لأنهم يعتقدون فضيلة إبراهيم الخليل وإسماعيل ويعلمون أنه بنى هذا البيت للطواف في الحج والعمرة وهم لا يفعلون شيئاً من ذلك، فكيف يكونون مقتدين بالخليل وهم لا يفعلون ما شرع الله له؟ وقد حج البيت موسى بن عمران وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما أخبر بذلك المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى { { إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ } [النجم: 4].
وتقدير الكلام إذن: { وَعَهِدْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ } أي تقدمنا بوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل { أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَٱلْعَاكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ } أي طهراه من الشرك والريب وابنياه خالصاً لله معقلاً للطائفين والعاكفين والركع السجود. وتطهير المساجد مأخوذ من هذه الآية الكريمة ومن قوله تعالى:
{ { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ } [النور: 36]، ومن السنّة من أحاديث كثيرة من الأمر بتطهيرها وتطييبها وغير ذلك من صيانتها من الأذى والنجاسات وما أشبه ذلك. ولهذا قال عليه السلام: "إنما بنيت المساجد لما بنيت له"، وقد جمعت في ذلك جزءاً على حدة ولله الحمد والمنة. وقد اختلف الناس في أول من بنى الكعبة؟ فقيل: الملائكة قبل آدم ذكره القرطبي وحكى لفظه وفيه غرابة، وقيل آدم عليه السلام رواه عطاء وسعيد بن المسيب وهذا غريب أيضاً. وروي عن ابن عباس وكعب الأحبار أن أول من بناه شيث عليه السلام، وغالب من يذكر هذا إنما يأخذه من كتب أهل الكتاب وهي مما لا يصدق ولا يكذب ولا يعتمد عليها بمجردها. وأما إذا صح حديث في ذلك فعلى الرأس والعين.
وقوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } قال ابن جرير عن جابر بن عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن إبراهيم حرَّم بيت الله وأَمَّنه، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها، فلا يصاد صيدها ولا يقطع عضاهها" . عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مُدّنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك وإنه دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه" ثم يدعو أصغر وليد له فيعطيه ذلك الثمر. وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة: "التمس لي غلاماً من غلمانكم يخدمني" ، فخرج بي أبو طلحة يردفني وراءه، فكنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما نزل. وقال في الحديث: ثم أقبل حتى إذا بدا له أحد قال: "هذا جبلٌ يحبنا ونحبه" ، فلما أشرف على المدينة قال: "اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثل ما حرم به إبراهيم مكة، اللهم بارك لهم في مدهم وصاعهم" ، وفي لفظ لهما: "اللهم بارك لهم في مكيالهم وبارك لهم في مدهم" زاد البخاري يعني: أهل المدينة. وعن أنَس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلته بمكة من البركة" . وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حراماً، وإني حرمت المدينة حراماً ما بين مأزميها، أن لا يهراق فيها دم، ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف، اللهم بارك لنا في مدينتنا، اللهم بارك لنا في صاعنا، اللهم بارك لنا في مُدّنا، اللهم اجعل مع البركة بركتين" ، والأحاديث في تحريم المدينة كثيرة وإنما أوردنا منها ما هو متعلق بتحريم إبراهيم عليه السلام لمكة لما في ذلك من مطابقة الآية الكريمة، وتمسك بها من ذهب إلى أن تحريم مكة إنما كان على لسان إبراهيم الخليل. وقيل: إنها محرمة منذ خلقت مع الأرض، وهذا أظهر وأقوى والله أعلم.
وقد وردت أحاديث أُخر تدل على أن الله تعالى حرّم مكة قبل خلق السماوات والأرض كما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة:
"إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرّفها ولا يختلى خلاها" ، فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقَيْنهم ولبيوتهم، فقال: "إلا الإذخر" . وعن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد - وهو يبعث البعوث إلى مكة - ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولاً قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح، سمعْته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي حين تكلم به، إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخَّص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إنَّ الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ليبلغ الشاهد الغائب" ، فقيل لأبي شريح ما قال لك عمرو؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فاراً بدم ولا فاراً بخربة.
فإذا علم هذا فلا منافاة بين هذه الأحاديث، الدالة على أن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، وبين الأحاديث الدالة على أن إبراهيم عليه السلام حرمها، لأن إبراهيم بلّغ عن الله حكمه فيها، وتحريمه إياها وأنها لم تزل بلداً حراماً عند الله قبل بناء إبراهيم عليه السلام لها، كما أنه قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوباً عند الله خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته، ومع هذا قال إبراهيم عليه السلام:
{ { رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ } [البقرة: 129] وقد أجاب الله دعاءه بما سبق في علمه وقدره.
وأما مسألة تفضيل مكة على المدينة كما هو قول الجمهور، أو المدينة على مكة كما هو مذهب مالك وأتباعه، فتذكر في موضع آخر بأدلتها إن شاء الله وبه الثقة. وقوله تعالى إخباراً عن الخليل: { رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً } أي من الخوف أي لا يرعب أهله، وقد فعل الله ذلك شرعاً وقدراً، كقوله تعالى:
{ { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } [آل عمران: 97]، وقوله: { { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [العنكبوت: 67] إلى غير ذلك من الآيات وقد تقدمت الأحاديث في تحريم القتال فيه، وفي صحيح مسلم عن جابر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح" ، وقال في هذه السورة: { رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً } أي اجعل هذه البقعة بلداً آمناً وناسب هذا لأنه قبل بناء الكعبة، وقال تعالى في سورة إبراهيم: { { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ آمِناً } [الآية: 35] وناسب هذا هناك لأنه - والله أعلم - كأنه وقع دعاء مرة ثانية بعد بناء البيت واستقرار أهله به، وبعد مولد إسحاق الذي هو أصغر سناً من إسماعيل بثلاث عشرة سنة، ولهذا قال في آخر الدعاء: { { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى ٱلْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ } [إبراهيم: 39].
وقوله تعالى: { وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ }. قال أبو جعفر الرازي عن أُبيّ بن كعب { قَالَ وَمَن كَفَرَ } الآية هو قول الله تعالى. وهذا قول مجاهد وعكرمة وهو الذي صوبه ابن جريررحمه الله ، قال: وقرأ آخرون: { قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } فجعلوا ذلك من تمام دعاء إبراهيم. قال ابن عباس: "كان إبراهيم يحجرها على المؤمنين دون الناس، فأنزل الله ومن كفر أيضاً أرزقهم كما أرزق المؤمنين، أأخلق خلقاً لا أرزقهم؟ أمتعهم قليلاً ثم اضطرهم إلى عذاب النار وبئس المصير" ثم قرأ ابن عباس:
{ { كُلاًّ نُّمِدُّ هَـٰؤُلاۤءِ وَهَـٰؤُلاۤءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً } [الإسراء: 20]، وهذا كقوله تعالى: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي ٱلدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ ٱلْعَذَابَ ٱلشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } [يونس: 69-70]، وكقوله تعالى: { { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَىٰ عَذَابٍ غَلِيظٍ } [لقمان: 24]، وقوله: { ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } أي ثم ألجئه بعد متاعه في الدنيا، وبسطنا عليه من ظلها { إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } ومعناه أن الله تعالى يُنْظرهم ويمهلهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر كقوله تعالى: { { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ } [الحج: 48] وفي الصحيح: "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته" ، ثم قرأ قوله تعالى: { { وَكَذٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [هود: 102].
وأما قوله تعالى: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } فالقواعد جمع قاعدة، وهي السارية والأساس، يقول تعالى: واذكر يا محمد لقومك بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام البيت، ورفعهما القواعد منه وهما يقولان: { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } فهما في عمل صالح وهما يسألان الله تعالى أن يتقبل منهما، وقال بعض المفسِّرين: الذي كان يرفع القواعدَ هو إبراهيم، والداعي إسماعيل، والصحيحُ أنهما كانا يرفعان ويقولان كما سيأتي بيانه. وقد روى البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أول ما اتخذ النساء المِنْطَق من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقاً لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبإبنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذٍ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك ووضع عندهما جِراباً فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفّى إبراهيم منطلقاً فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً وجعل لا يلتف إليها، فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً لا يضيعنا، ثم رجعت. فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهذه الدعوات ورفع يديه فقال:
{ { رَّبَّنَآ إِنَّيۤ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ } [إبراهيم: 37] حتى بلغ { { يَشْكُرُونَ } [إبراهيم: 37].
وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنُّها، وجعلت تنظر إليه يتلوّى - أو قال يتلبط - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً فلم تر أحداً، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحداً، فلم تر أحداً ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"فلذلك سعى الناس بينهما" ، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت: "صه" - تريد نفسها - ثم تسمَّعت فسمعت أيضاً، فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالمَلَك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه - أو قال بجناحه - حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف، قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم - أو قال لو لم تغرف من الماء - لكانت زمزم عيناً معيناً" .
قال: فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة فإن هٰهنا بيتاً لله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيّع أهله، وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم، أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائراً عائفاً، فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جرياً أو جريين فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبروهم بالماء، فأقبلوا، قال: وأُم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم ولكن لا حقَّ لكم في الماء عندنا، قالوا: نعم، قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فألقى ذلك أُم إسماعيل وهي تحب الأنس" ، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام وتعلم العربية منهم وأنفَسَهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوَّجوه امرأة منهم.
وماتت (أُم إسماعيل) فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت: نحن بشرٍّ، نحن في ضيق وشدة فشكت إليه، قال: إذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغيِّر عتبةَ بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه أنس شيئاً فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم جاءنا شيخ كذا وكذا فسألنا عنك فأخبرته وسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أننا في جهد وشدة، قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول غيِّرْ عتبة بابك، قال: ذاك أبي وقد أمرني أن أُفارقك فالحقي بأهلك، وطلَّقها وتزوج منهم بأُخرى. فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد فلم يجده فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله عزّ وجلّ، قال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم، قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء، قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"ولم يكن لهم يومئذٍ حَب ولو كان لهم لدعا لهم فيه" ، قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومريه يثبِّت عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أنَّا بخير، قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن ثبِّت عتبة بابك، قال: ذاك أبي وأنت العتبة أمرني أن أمسكك. ثم لبث عنهم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحة، قريباً من زمزم، فلما رآه قام إليه وصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، ثم قال: يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني هٰهنا بيتاً، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه، وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ }. قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان: { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ }.
ثم قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد أخبرنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو، أخبرنا إبراهيم بن نافع عن كثير بن كثير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان خرج بإسماعيل وأُم إسماعيل ومعهم شنة فيها ماء فجعلت أُم إسماعيل تشرب من الشنة فيدر لبنها على صبيها حتى قدم مكة فوضعهما تحت دوحة ثم رجع إبراهيم إلى أهله، فاتبعته أم إسماعيل حتى بلغوا كداء نادته من ورائه: يا إبراهيم إلى من تتركنا؟ قال: إلى الله، قالت: رضيت بالله. قال: فرجعت تشرب من الشنة ويدر لبنها على صبيها حتى لما فني الماء. قالت: لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحداً، فذهبت فصعدت الصفا. فنظرت هل تحس أحداً؟ فلم تحس أحداً، فلما بلغت الوادي سعت حتى أتت المروة وفعلت ذلك أشواطاً حتى أتمت سبعاً، ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل الصبي، فذهبت فنظرت فإذا هو على حاله كأنه ينشغ للموت فلم تقرها نفسها، فقالت: لو ذهبت فنظرتُ لعلي أحس أحداً، فذهبت فصعدت الصفا، فنظرت ونظرت فلم تحس أحداً حتى أتمت سبعاً، ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل، فإذا هي بصوت فقالت: أغث إن كان عندك خير، فإذا جبريل عليه السلام قال: فقال بعقبه هكذا وغمز عقبه على الأرض، قال: فانبثق الماء. فدهشت أم إسماعيل فجعلت تحفر قال: فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم:
"لو تركته لكان الماء ظاهراً" ، قال: فجعلت تشرب من الماء ويدرُّ لبنها على صبيها. قال: فمرّ ناس من جرهم ببطن الوادي فإذا هم بطير كأنهم أنكروا ذلك، وقالوا: ما يكون الطير إلا على ماء، فبعثوا رسولهم فنظر فإذا هو بالماء فأتاهم فأخبرهم، فأتوا إليها فقالوا: يا أم إسماعيل أتاذنين لنا أن نكون معك ونسكن معك؟
فبلغ ابنها ونكح منهم امرأة. قال: ثم إنه بدا لإبراهيم صلى الله عليه وسلم فقال لأهله: إني مطلع تركتي، قال: فجاءهم فسلّم فقال: أين إسماعيل؟ قالت امرأته: ذهب يصيد، قال: قولي له إذا جاء غيِّرْ عتبةَ بابك، فلما أخبرته قال: أنتِ ذاك فاذهبي إلى أهلك، قال: ثم إنه بدا لإبراهيم فقال: إني مطلع تركتي، قال، فجاء فقال: أين إسماعيل؟ فقالت امرأته: ذهب يصيد، فقالت: ألا تنزل فتطعم وتشرب؟ فقال: ما طعامكم وما شرابكم؟ قالت: طعامنا اللحم وشرابنا الماء. قال: اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم. قال: فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم:
"بركة بدعوة إبراهيم" . قال: ثم إنه بدا لإبراهيم صلى الله عليه وسلم، فقال لأهله: إني مطلع تركتي فجاء فوافق إسماعيل من وراء زمزم يصلح نبلاً له، فقال: يا إسماعيل إن ربك عزّ وجلّ أمرني أن أبني له بيتاً، فقال: أطع ربك عزّ وجلّ، قال: إنه أمرني أن تعينني عليه، فقال: إذن افعل - أو كما قال - قال: فقام فجعل إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، ويقولان: { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } قال: حتى ارتفع البناء، وضعف الشيخ عن نقل الحجارة، فقام على حجر المقام، فجعل يناوله الحجارة ويقولان: { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ }.
قال محمد بن إسحاق عن مجاهد وغيره من أهل العلم: إن الله لما بوأ إبراهيم مكان البيت، خرج إليه من الشام وخرج معه إسماعيل وأُمه هاجر، وإسماعيل طفل صغير يرضع، ومعه جبريل يدله على موضع البيت ومعالم الحرم، فكان لا يمر بقرية إلا قال: أبهذه أُمرتُ يا جبريل؟ فيقول جبريل: امضه، حتى قدم به مكة وهي إذ ذاك عضاه (سلم وسمر) وبها أناس يقال لهم العماليق خارج مكة وما حولها، والبيت يومئذٍ ربوة حمراء مدرة، فقال إبراهيم لجبريل: أهٰهنا أمرت أن أضعهما؟ قال: نعم، فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه، وأمر (هاجر) أُم إسماعيل أن تتخذ فيه عريشاً فقال:
{ { رَّبَّنَآ إِنَّيۤ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ } [إبراهيم: 37] إلى قوله: { { لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } [إبراهيم: 37]. وقال عبد الرزاق عن مجاهد: خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئاً بألفي سنة وأركانه في الأرض السابعة.
وقال البخاريرحمه الله قوله تعالى: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ } الآية: القواعد أساسه، واحدها قاعدة، والقواعد من النساء واحدتها قاعدة،
"عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألم تريْ أن قومك حين بنوا البيت اقتصروا عن قواعد إبراهيم؟ فقلت: يا رسول الله ألا تردها على قواعد إبراهيم؟ قال: لولا حدثان قومك بالكفر، فقال عبد الله بن عمر: لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر، إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم عليه السلام" . ورواه مسلم أيضاً من حديث نافع عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية - أو قال بكفر - لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله ولجعلت بابها بالأرض، ولأدخلت فيها الحِجْر" .
(ذكر بناء قريش الكعبة بعد إبراهيم الخليل عليه السلام وقبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس سنين)
وقد نقل معهم الحجارة وله من العمر خمس وثلاثون سنة صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين. قال محمد بن إسحاق في السيرة: ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وثلاثين سنة، اجتمعت قريش لبنيان الكعبة وكانوا يهابون هدمها، وإنما كانت رضماً فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك أن نفراً سرقوا كنز الكعبة. وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم فتحطمت، فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها، وكان بمكة رجل قبطي نجار فهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها، وكانت حية تخرج من بئر الكعبة فتشرف على جدار الكعبة وكانت مما يهابون، ذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزأَلَّت وكشت وفتحت فاها فكانوا يهابونها، فبينا هي يوماً تشرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع، بعث الله إليها طائراً فاختطفها فذهب بها، فقالت قريش: إنّا لنرجو أن يكون الله قد رضي ما أردنا، عندنا عامل رفيق وعندنا خشب وقد كفانا الله الحية، فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنيانها قام ابن وهب بن عمرو بن عائذ فتناول من الكعبة حجراً فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه، فقال: يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيباً، لا يدخل فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس.
ثم إن قريشاً تجزأت الكعبة فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة، وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم، وكان ظهر الكعبة لبني جمح وسهم، وكان شق الحجر لبني عبد الدار بن قصي ولبني أسد بن عبد العزى بن قصي ولبني عدي بن كعب بن لؤي وهو الحطيم، ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه، فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول ثم قام عليها وهو يقول: اللهم لم ترع، اللهم إنا لا نريد إلا الخير، ثم هدم من ناحية الركنين، فتربص الناس تلك الليلة وقالوا: ننظر فإن أُصيب لم نهدم منها شيئاً، ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيء فقد رضي الله ما صنعنا، فأصبح الوليد من ليلته غادياً على عمله. فهدم، وهدم الناس معه حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس - أساس إبراهيم عليه السلام - أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة آخذ بعضها بعضاً. قال: فحدثني بعض من يروي الحديث: أن رجلاً من قريش ممن كان يهدمها أدخل عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أيضاً أحدهما فلما تحرك الحجر انتفضت مكة بأسرها فانتهوا عن ذلك الأساس.
قال ابن إسحاق: ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها، كل قبيلة تجمع على حدة، ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الركن يعني (الحجر الأسود) فاختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأُخرى، حتى تحاوروا وتخالفوا وأعدوا للقتال، فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دماً، ثما تعاقدوا هم وبنوا عدي بن كعب بن لؤي على الموت وأدخلوا إيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة فسموا "لَعَقةَ الدم"، فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمساً، ثم إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا، فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة - وكان عامئذٍ أسنَّ قريش كلهم - قال: يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد، يقضي بينكم فيه ففعلوا، فكان أول داخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا... هذا محمد، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال صلى الله عليه وسلم:
"هلمَّ إليَّ بثوب، فأُتي به، فأخذ الركن - يعني الحجر الأسود - فوضعه فيه بيده ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعاً، ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم، ثم بنى عليه، وكانت قريش تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحي (الأمين)" .
قال ابن إسحاق: وكانت الكعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثماني عشر ذراعاً، وكان تكسى القباطي، ثم كسيت بعدُ البرود، وأول من كساها الديباج الحجّاج بن يوسف. (قلت): ولم تزل على بناء قريش حتى احترقت في أول إمارة عبد الله بن الزبير بعد سنة ستين وفي آخر ولاية يزيد بن معاوية لما حاصروا ابن الزبير، فحينئذٍ نقضها (ابن الزبير) إلى الأرض وبناها على قواعد إبراهيم عليه السلام، وأدخل فيها الحجر وجعل لها باباً شرقياً وباباً غربياً ملصقين بالأرض كما سمع ذلك من خالته عائشة أُم المؤمنين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم تزل كذلك مدة إمارته حتى قتله الحجّاج، فردّها إلى ما كانت عليه بأمر عبد الملك بن مروان له بذلك، كما قال مسلم عن عطاء: "لمَّا احترق البيت زمن (يزيد بن معاوية) حين غزاها أهل الشام فكان من أمره ما كان تركه ابن الزبير، حتى قدم الناس الموسم يريد أن يحزبهم أو يجيروهم على أهل الشام، فلما صدر الناس قال: يا أيها الناس أشيروا عليّ في الكعبة أنقضها ثم أبني بناءها أو أصلح ما وهَى منها؟ قال ابن عباس: إنه قد خرق لي رأي فيها أرى أن تصلح ما وهَى منها وتدع بيتاً أسلم الناس عليه، وأحجاراً أسلم الناس عليها وبعث عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال ابن الزبير: لو كان أحدهم احترق بيته ما رضي حتى يجدِّده فكيف بيت ربكم عزّ وجلّ؟ إني مستخير ربي ثلاثاً ثم عازم على أمري. فلما مضت ثلاث أجمع رأيه أن ينقضها، فتحاماها الناس أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمر من السماء حتى صعده رجل فألقى منه حجارة. فلما لم يره الناس أصابه شيء تتابعوا فنقضوه حتى بلغوا به الأرض. فجعل ابن الزبير أعمدة يستر عليها الستور حتى ارتفع بناؤه. وقال ابن الزبير: إني سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أن الناس حديثٌ عهدهم بكفر وليس عندي من النفقة ما يقويني على بنائه لكنت أدخلت فيه من الحجر خمسة أذرع ولجعلت له باباً يدخل الناس منه، وباباً يخرجون منه" ، قال: فأنا أجد ما أنفق ولست أخاف الناس. قال: فزاد منه خمسة أذرع من الحجر حتى أبدى له أساً فنظر الناس إليه فبنى عليه البناء، وكان طول الكعبة ثمانية عشر ذراعاً، فلما زاد فيه استقصره فزاد في طوله عشرة أذرع وجعل له بابين أحدهما يدخل منه، والآخر يخرج منه. فلما قُتِلَ ابن الزبير كتب الحجّاج إلى عبد الملك يستجيزه بذلك، ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أسٍّ نظر إليه العدول من أهل مكة. فكتب إليه عبد الملك: إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء، أما ما زاده في طوله فأقره، وأما ما زاد فيه من الحِجْر فردّه إلى بنائه وسد الباب الذي فتحه، فنقضه وأعاده إلى بنائه".
وقد كانت السُنَّة إقرار ما فعله عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما لأنه هو الذي ودّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن خشي أن تنكره قلوب بعض الناس لحداثة عهدهم بالإسلام وقرب عهدهم من الكفر، ولكن خفيت هذه السنة على (عبد الملك بن مروان) ولهذا لما تحقق ذلك عن عائشة أنها روت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وددنا أنا تركناه وما تولى". فدل هذا على صواب ما فعله ابن الزبير، فلو ترك لكان جيداً.
ولكنْ بعدما رجع الأمر إلى هذا الحال فقد كره بعض العلماء أن يغيَّر عن حاله، كما ذكر عن أمير المؤمنين هارون الرشيد أو أبيه المهدي، أنه سأل الإمام مالكاً عن هدم الكعبة وردها إلى ما فعله ابن الزبير، فقال له مالك: يا أمير المؤمنين لا تجعل كعبة الله ملعبة للملوك لا يشاء أحد أن يهدمها إلا هدمها!! فترك ذلك الرشيد، نقله عياض والنووي. ولا تزال - والله أعلم - هكذا إلى آخر الزمان إلى أن يخربها (ذو السُّويقتين) من الحبشة كما ثبت ذلك في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة" . وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كأني به أسود أفحج يقلعها حجراً حجراً" . وعن مجاهد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة ويسلبها. حليتها ويجردها من كسوتها، ولكأني أنظر إليه أُصَيْلع، أُفَيْدع، يضرب عليها بمسحاته ومعوله" .
وهذا - والله أعلم - إنما يكون بعد خروج يأجوج ومأجوج لما جاء في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليُحجَنَّ البيتُ وليُعتَمرنَّ بعد خروج يأجوج ومأجوج" .
وقوله تعالى حكاية لدعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: { رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } قال ابن جرير: يعنيان بذلك واجعلنا مستسلمين لأمرك، خاضعين لطاعتك، لا نشرك معك في الطاعة أحداً سواك، ولا في العبادة غيرك. وقال عكرمة: { رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } قال الله: قد فعلت { وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } قال الله: قد فعلت. وقال السدي: { وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } يعنيان العرب. قال ابن جرير: والصواب أنه يعم العرب وغيرهم، لأن من ذرية إبراهيم بني إسرائيل، وقد قال الله تعالى: { { وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [الأعراف: 159].
(قلت) وهذا الذي قاله ابن جرير لا ينفيه السدي فإن تخصيصهم بذلك لا ينفي من عداهم، والسياق إنما هو في العرب، ولهذا قال بعده:
{ { رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ } [البقرة: 129] الآية. والمراد بذلك محمد صلى الله عليه وسلم، وقد بعث فيهم كما قال تعالى: { { هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ } [الجمعة: 2]، ومع هذا لا ينفي رسالته إلى الأحمر والأسود لقوله تعالى: { { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } [الأعراف: 158] وغير ذلك من الأدلة القاطعة، وهذا الدعاء من إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كما أخبرنا الله تعالى عن عباده المتقين المؤمنين في قوله: { { وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَٱجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } [الفرقان: 74]. وهذا القدر مرغوب فيه شرعاً فإنَّ من تمام محبة عبادة الله تعالى أن يحب أن يكون من صلبه من يعبد الله وحده. لا شريك له. ولهذا لما قال الله تعالى لإبراهيم عليه السلام: { { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً } [البقرة: 124] قال: { { وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ } [البقرة: 124]، وهو قوله: { { وَٱجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأَصْنَامَ } [إبراهيم: 35]. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علم ينتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له" .
{ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } قال عطاء: أخرجها لنا، علمناها، وقال مجاهد: { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } مذابحنا. وقال أبو داود الطيالسي عن أبي الطفيل عن ابن عباس قال: "إن إبراهيم لما أُري أوامر المناسك عرض له الشيطان عند المسعى، فسابقه إبراهيم، ثم انطلق به جبريل حتى أتى به (منى) فقال: هذا مناخ الناس، فلما انتهى إلى (جمرة العقبة) تعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم أتى به إلى (الجمرة الوسطى) فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم أتى به إلى (الجمرة القصوى) فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، فأتى به جمعاً فقال: هذا المشعر، ثم أتى به عرفة فقال: هذه عرفة، فقال له جبريل: أعرفت؟".