التفاسير

< >
عرض

أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ ٱلْقَوْلَ أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ ٱلأَوَّلِينَ
٦٨
أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ
٦٩
أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَآءَهُمْ بِٱلْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ
٧٠
وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ
٧١
أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ
٧٢
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
٧٣
وَإِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ عَنِ ٱلصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ
٧٤
وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
٧٥
-المؤمنون

مختصر تفسير ابن كثير

يقول تعالى منكراً على المشركين، في عدم تفهمهم للقرآن العظيم وإعراضهم عنه، مع أنهم قد خصوا بهذا الكتاب الذي لم ينزل الله على رسول الله أكمل منه ولا أشرف، فكان اللائق بهؤلاء أن يقابلوا النعمة التي أسداها الله عليهم بقبولها، والقيام بشكرها وتفهمها والعمل بمقتضاها آناء الليل وأطراف النهار، ثم قال منكراً على الكافرين من قريش: { أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } أي أنهم لا يعرفون محمداً وصدقه وأمانته وصيانته التي نشأ بها فيهم، ولهذا قال (جعفر بن أبي طالب) رضي الله عنه للنجاشي ملك الحبشة: أيها الملك إن الله بعث فينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه وأمانته، وهكذا قال (المغيرة بن شعبة) لنائب كسرى حين بارزهم، وكذلك قال (أبو سفيان) لملك الروم هرقل حين سأله وأصحابه عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم، ونسبه وصدقه وأمانته، وكانوا بعد كفاراً لم يسلموا، ومع هذا لم يمكنهم إلا الصدق فاعترفوا بذلك. وقوله: { أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ } يحكي قول المشركين عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه تقوَّل القرآن أي افتراه من عنده، أو أن به جنوناً لا يدري ما يقول، وأخبر عنهم أن قلوبهم لا تؤمن به، وهم يعلمون بطلان ما يقولون في القرآن، وقد تحداهم وجميع أهل الأرض أن يأتوا بمثله إن استطاعوا ولا يستطيعون أبد الآبدين، ولهذا قال: { بَلْ جَآءَهُمْ بِٱلْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ }، قال قتادة: ذكر لنا "أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لقي رجلاً فقال: أسلم فقال الرجل: إنك لتدعوني إلى أمر أنا له كاره، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: وإن كنت كارهاً" . وذكر لنا أنه لقي رجلاً فقال له: "أسلم فتصعده ذلك وكبر عليه، فقال له نبي الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت لو كنت في طريق وعر وعث، فلقيت رجلاً تعرف وجهه وتعرف نسبه، فدعاك إلى طريق واسع سهل أكنت تتبعه؟ قال: نعم، قال: فوالذي نفس محمد بيده إنك لفي أوعر من ذلك الطريق لو قد كنت عليه، وإني لأدعوك لأسهل من ذلك لو دعيت إليه" . وقوله: { وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ } قال مجاهد والسدي: الحق هو الله عزَّ وجلَّ، والمراد لو أجابهم الله إلى ما في أنفسهم من الهوى، وشرع الأمور على وفق ذلك، لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن أي لفساد أهوائهم واختلافهم، كما أخبر عنهم في قولهم: { { لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31]، وقال تعالى: { { قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ ٱلإِنْفَاقِ } [الإسراء: 100] الآية.
ففي هذا كله تبيين عجز العباد واختلاف آرائهم وأهوائهم، وأنه تعالى هو الكامل في جميع صفاته وأقواله وأفعاله وتدبيره لخلقه تعالى وتقدس، ولهذا قال: { بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ } أي القرآن { فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ }، وقوله: { أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً } قال الحسن: أجراً، وقال قتادة: جُعْلا { فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ } أي أنت لا تسألهم أجرة ولا جعلاً ولا شيئاً على دعوتك إياهم إلى الهدى، بل أنت في ذلك تحتسب عند الله جزيل ثوابه، كما قال
{ { قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ } [سبأ: 47]، وقال: { { قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ ٱلْمُتَكَلِّفِينَ } [ص: 86]، وقال: { { ٱتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً } [يس: 21]، وقوله: { وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ عَنِ ٱلصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ }. عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه فيما يرى النائم، ملكان، فقعد أحدهما عند رجليه، والآخر عند رأسه، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: اضرب مَثَل هذا ومثل أمته، فقال: إن مثل هذا ومثل أمته كمثل قوم سفر انتهوا إلى رأس مفازة، فلم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة ولا ما يرجعون به، فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجل في حلة حبرة، فقال: أرأيتم إن أوردتكم رياضاً معشبة وحياضاً رواء تتبعوني؟ فقالوا: نعم، قال: فانطلق بهم وأوردهم رياضاً معشبة وحياضاً رواء، فأكلوا وشربوا وسمنوا، فقال لهم: ألم ألفَكم على تلك الحال، فجعلتم لي إن وردت بكم رياضاً معشبة وحياضاً رواء أن تتبعوني؟ قالوا: بلى، قال: فإن بين أيديكم رياضاً أعشب من هذه، وحياضاً هي أروى من هذه، فاتبعوني، قال: فقالت طائفة: صدق والله لنتبعنه، وقالت طائفة: قد رضينا بهذا نقيم عليه. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني ممسك بحجزكم هلمَّ عن النار، هلمَّ عن النار وتغلبونني، تتقاحمون فيها تقاحم الفراش والجنادب، فأوشك أن أرسل حجزكم وأنا فرطكم على الحوض، فتردون عليّ معاً وأشتاتاً، أعرفكم بسيماكم وأسمائكم كما يعرف الرجل الغريب من الإبل في إبله، فيذهب بكم ذات اليمين وذات الشمال، فأناشد فيكم رب العالمين أي رب قومي، أي رب أمتي، فيقال: يا محمد إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم كانوا يمشون بعدك القهقرى على أعقابهم" . وقوله: { وَإِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ عَنِ ٱلصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ } أي لعادلون جائرون منحرفون، تقول العرب: نكب فلان عن الطريق إذا زاغ عنها، وقوله: { وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } يخبر تعالى عن غلظهم في كفرهم، بأنه لو أزاح عنهم الضر وأفهمهم القرآن لما انقادوا له، ولاستمروا على كفرهم وعنادهم وطغيانهم، كما قال تعالى: { { وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } [الأنفال: 23] فهذا من باب علمه تعالى بما لا يكون لو كان كيف يكون، قال ابن عباس: كل ما فيه (لو) فهو مما لا يكون أبداً.