التفاسير

< >
عرض

وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً
٦٣
وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً
٦٤
وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً
٦٥
إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً
٦٦
وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً
٦٧
-الفرقان

مختصر تفسير ابن كثير

هذه صفات عباد الله المؤمنين { ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً } أي بسكينة ووقار من غير تجبر ولا استكبار، كقوله تعالى: { { وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً } [الإسراء: 37] الآية. وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى تصنعاً ورياء، فقد كان سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنما ينحطُّ من صَبَب وكأنما الأرض تطوى له، وقد كره بعض السلف المشي بتضعف وتصنع، حتى روي عن عمر أنه رأى شاباً يمشي رويداً فقال: ما بالك! أأنت مريض؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، فعلاه بالدرة، وأمره أن يمشي بقوة، وإنما المراد بالهون هنا السكينة والوقار، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة فما أدركتم منها فصلوا وما فاتكم فأتموا" ، وقوله تعالى: { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } أي إذا سفه عليهم الجهال بالقول السيء لم يقابلوهم عليه بمثله، بل يعفون ويصفحون ولا يقولون إلاّ خيراً، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تزيده شدة الجاهل عليه إلاّ حلماً، وكما قال تعالى: { { وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ } [القصص: 55] الآية، وقال مجاهد: { قَالُواْ سَلاَماً }: يعني قالوا سداداً، وقال سعيد بن جبير: ردوا معروفاً من القول، وقال الحسن البصري: قالوا سلام عليكم، إن جهل عليهم حلموا، يصاحبون عباد الله نهارهم بما يسمعون، ثم ذكر أن ليلهم خير ليل، فقال تعالى: { وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً } أي في طاعته وعبادته، كما قال تعالى: { { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [الذاريات: 17-18]، وقوله: { { تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ } [السجدة: 16] الآية، وقال تعالى: { { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ ٱلَّيلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ ٱلآخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ } [الزمر: 9] الآية، ولهذا قال تعالى: { وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } أي ملازماً دائماً كما قال الشاعر:

إِنْ يُعذّبْ يكنْ غراماً وإن يعــطِ جزيلاً فإنه لا يبالي

ولهذا قال الحسن في قوله { إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً }: كل شيء يصيب ابن آدم ويزول عنه فليس بغرام، وإنما الغرام اللازم ما دامت الأرض والسماوات. { إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } أي بئس المنزل منزلاً وبئس المقيل مقاماً، وروى ابن أبي حاتم عن مجاهد عن عبيد بن عمير قال: إن في النار لجباباً فيها حيات أمثال البُخْت، وعقارب أمثال البغال الدُّهْم. فإذا قذف بهم في النار خرجت إليهم من أوطانها، فأخذت بشفاههم وأبشارهم وأشعارهم، فكشطت لحومهم إلى أقدامهم، فإذا وجدت حر النار رجعت. وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن عبداً في جهنم لينادي ألف سنة: يا حنان يا منان، فيقول الله عزَّ وجلَّ لجبريل: اذهب فأتني بعبدي هذا، فينطلق جبريل، فيجد أهل النار مكبين يبكون، فيرجع إلى ربه عزَّ وجلَّ فيخبره، فيقول الله عزَّ وجلَّ: ائتني به فإنه في مكان كذا وكذا، فيجئ به، فيوقفه على ربه عزَّ وجلَّ، فيقول له: يا عبدي كيف وجدت مكانك ومقيلك؟ فيقول: يا رب شر مكان وشر مقيل، فيقول الله عزَّ وجلَّ: ردوا عبدي، فيقول: يا رب ما كنت أرجو إذا أخرجتني منها أن تردني فيها، فيقول الله عزَّ وجلَّ: دعوا عبدي" . وقوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ } الآية، أي ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم، فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم، بل عدلاً خياراً، وخير الأمور أوسطها لا هذا ولا هذا { وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً }، كما قال تعالى: { { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } [الإسراء: 29] الآية. وفي الحديث: "من فقه الرجل فصده في معيشته" ، وعن عبد الله بن مسعود قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما عال من اقتصد" ، وقال الحسن البصري: ليس في النفقة في سبيل الله سرف، وقال إياس بن معاوية: ما جاوزت به أمر الله تعالى فهو سرف، وقال غيره: السرف النفقة في معصية الله عزَّ وجلَّ.