التفاسير

< >
عرض

هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ ٱلشَّيَاطِينُ
٢٢١
تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ
٢٢٢
يُلْقُونَ ٱلسَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ
٢٢٣
وَٱلشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ ٱلْغَاوُونَ
٢٢٤
أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ
٢٢٥
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ
٢٢٦
إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱنتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ وَسَيَعْلَمْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ
٢٢٧
-الشعراء

مختصر تفسير ابن كثير

يقول تعالى مخاطباً لمن زعم من المشركين أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بحق، وأنه شيء افتعله من تلقاء نفسه، أو أنه أتاه به رِئي الجان، فنزه الله سبحانه وتعالى جناب رسوله عن قولهم وافترائهم، ونبه أن ما جاء به إنما هو من عند الله، وأنه تنزيله ووحيه نزل به ملك كريم أمين عظيم، وأنه ليس من قبل الشياطين، فإنهم ليس لهم رغبة في مثل هذا القرآن العظيم وإنما ينزلون على من يشاكلهم ويشابههم من الكهان الكذبة. ولهذا قال الله تعالى: { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ } أي أخبركم { عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ ٱلشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } أي كذوب في قوله وهو الأفاك { أَثِيمٍ } وهو الفاجر في أفعاله، فهذا هو الذي تنزل عليه الشياطين من الكهان وما جرى مجراهم من الكذبة الفسقة فإن الشياطين أيضاً كذبه فسقة { يُلْقُونَ ٱلسَّمْعَ } أي يسترقون السمع من السماء فيسمعون الكلمة من علم الغيب، فيزيدون معها مائة كذبة ثم يلقونها إلى أوليائهم من الإنس، فيحدثون بها فيصدقهم الناس في كل ما قالوه بسبب صدقهم في تلك الكلمة التي سمعت من السماء، كما روى البخاري عن عروة بن الزبير قال، قالت عائشة رضي الله عنها: "سأل ناس النبي صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال: إنهم ليسوا بشيء، قالوا: يا رسول الله فإنهم يحدثون بالشيء يكون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرقرها في أذن وليه كقرقرة الدجاج فيخلطون معها أكثر من مائة كذبة" . وروى البخاري أيضاً عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كأنها سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترقو السمع، ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض - وصفه سفيان بيده فحرفها وبدد بين أصابعه - فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء" .
وقوله تعالى: { وَٱلشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ ٱلْغَاوُونَ } قال ابن عباس: يعني الكفار يتبعهم ضلال الإنس والجن؛ وكذا قال مجاهدرحمه الله ، وقال عكرمة: كان الشاعران يتهاجيان فينتصر لهذا فئام من الناس، ولهذا فئام من الناس، فأنزل الله تعالى: { وَٱلشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ ٱلْغَاوُونَ }. وقال الإمام أحمد عن أبي سعيد قال: بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج إذ عرض شاعر ينشد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خذوا الشيطان - أو أمسكوا الشيطان -، لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً" . وقوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ } قال ابن عباس: في كل لغو يخوضون، وقال الضحاك عن ابن عباس: في كل فن من الكلام، وكذا قال مجاهد وغيره. وقال الحسن البصري: قد والله رأينا أوديتهم التي يخوضون فيها مرة في شتيمة فلان ومرة في مديحة فلان، وقال قتادة: الشاعر يمدح قوماً بباطل ويذم قوماً بباطل، وقوله تعالى: { وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ } قال ابن عباس: كان رجلان على عهد رسول الله أحدهما من الأنصار والآخر من قوم آخرين، وإنهما تهاجيا فكان مع كل واحد منهما غواة من قومه وهم السفهاء، فقال الله تعالى: { وَٱلشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ ٱلْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ }، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أكثر قولهم يكذبون فيه، وهذا الذي قاله ابن عباس رضي الله عنه هو الواقع في نفس الأمر، فإن الشعراء يتبجحون بأقوال وأفعال لم تصدر منهم ولا عنهم فيتكثرون بما ليس لهم، ولهذا جاء في الحديث: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً يريه خير له من أن يمتلئ شعراً" ، والمراد من هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه هذا القرآن ليس بكاهن ولا بشاعر، لأن حاله مناف لحالهم من وجوه ظاهرة، كما قال تعالى: { { وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ } [يس: 69]، وقال تعالى: { { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [الحاقة: 40-43] وهكذا قال هٰهنا { { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } [الشعراء: 192-195] إلى أن قال: { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ ٱلشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ ٱلسَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ } [الشعراء: 210-212]، إلى أن قال: { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ ٱلشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ ٱلسَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَٱلشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ ٱلْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ }. وقوله: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً } الآية.
قال محمد بن إسحاق:
"لما نزلت { وَٱلشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ ٱلْغَاوُونَ } جاء حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يبكون قالوا: قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنا شعراء، فتلا النبي صلى الله عليه وسلم: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } قال: أنتم { وَذَكَرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً } قال: أنتم، { وَٱنتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } قال: أنتم" . وروى أيضاً عن عروة قال: لما نزلت { وَٱلشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ ٱلْغَاوُونَ }، إلى قوله: { وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ } قال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله قد علم الله أني منهم، فأنزل الله تعالى: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } الآية، وهكذا قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وغير واحد من أن هذا استثناء مما تقدم. ولهذا قال تعالى: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً } قيل: معناه ذكروا الله كثيراً في كلامهم، وقيل: في شعرهم، وكلاهما صحيح مكفر لما سبق، وقوله تعالى: { وَٱنتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } قال ابن عباس: يردون على الكفار الذين كانوا يهجون به المؤمنين؛ وهذا كما ثبت في "الصحيح" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حسان: "اهجهم - أو قال - هاجهم وجبريل معك" . وقال الإمام أحمد عن عبد الرحمٰن بن كعب بن مالك عن أبيه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن الله عزَّ وجلَّ قد أنزل في الشعراء ما أنزل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل" وقوله تعالى: { وَسَيَعْلَمْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ }، كقوله تعالى: { { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ ٱلظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ } [غافر: 52] الآية، وفي "الصحيح" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة" ، قال قتادة: يعني من الشعراء وغيرهم وقيل: المراد بهم أهل مكة، وقيل الذين ظلموا من المشركين، والصحيح أن هذه الآية عامة في كل ظالم، كما قال ابن أبي حاتم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كتب أبي في وصيته سطرين: بسم الله الرحمٰن الرحيم هذا ما وصى به أبو بكر بن أبي قحافة عند خروجه من الدنيا حين يؤمن الكافر، وينتهي الفاجر، ويصدق الكاذب، إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، فإن يعدل فذاك ظني به ورجائي فيه، وإن يجر ويبذل فلا أعلم الغيب { وَسَيَعْلَمْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ }.