التفاسير

< >
عرض

وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى ٱلّجَنَّةِ زُمَراً حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُـمْ طِبْتُمْ فَٱدْخُلُوهَا خَالِدِينَ
٧٣
وَقَـالُواْ ٱلْحَـمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا ٱلأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَامِلِينَ
٧٤
-الزمر

مختصر تفسير ابن كثير

وهذا إخبار عن حال السعداء المؤمنين، حين يساقون على النجائب وفداً إلى الجنة، { زُمَراً } أي جماعة بعد جماعة: المقربون، ثم الأبرار، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كل طائفة مع من يناسبهم: الأنبياء مع الأنبياء، والصديقون مع أشكالهم، والعلماء مع أقرانهم، وكل صنف مع صنف، وكل زمرة تناسب بعضها بعضاً. { حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوهَا } أي وصلوا إلى أبواب الجنة بعد مجاوزة الصراط، حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فاقتص لهم مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذَّبوا ونقوا، أذن لهم في دخول الجنة، وقد ثبت في "صحيح مسلم" عن أنس رضي الله عنه قال؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أول شفيع في الجنة" ؛ وفي لفظ: "وأنا أول من يقرع باب الجنة" . وروى الإمام أحمد عن أنَس بن مالك رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آتي باب الجنة يوم القيامة، فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد ـ قال ـ فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك" ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر لا يبصقون فيها ولا يمتخطون فيها ولا يتفلون فيها، آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة ومجامرهم الأََلُوَّة، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقهما من وراء اللحم من الحُسْنِ، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم على قلب واحد يسبِّحون الله تعالى بكرة وعشياً" . وروى الحافظ أبو يعلى: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على ضوء أشد كوكب دري في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتفلون ولا يمتخطون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوّة، وأزواجهم الحور العين، أخلاقهم على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعاً في السماء" .
وقوله تعالى: { حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُـمْ طِبْتُمْ فَٱدْخُلُوهَا خَالِدِينَ } لم يذكر الجواب هٰهنا، وتقديره: إذا كان هذا سعدوا وطابوا وسروا وفرحوا بقدر كل ما يكون لهم فيه نعيم، وإذا حذف الجواب هٰهنا ذهب الذهن كل مذهب في الرجاء والأمل، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أنفق زوجين من ماله في سبيل الله تعالى دعي من أبواب الجنة وللجنة أبواب، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريّان، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله: ما على أحد من ضرورة دعي من أيها دعي، فهل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم وأرجوا أن تكون منهم" ، وفي "صحيح مسلم" عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إلٰه إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء" ، وعن معاذ رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مفتاح الجنة لا إلٰه إلا الله" .
وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث الشفاعة الطويل: "فيقول الله تعالى: يا محمد أدخل من لا حساب عليه من أمتك من الباب الأيمن، وهم شركاء الناس في الأبواب الأخر، والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة ما بين عضادتي الباب لكما بين مكة أو هجر ـ وهجر مكة ـ وفي رواية ـ مكة وبصرى" ، وفي "صحيح مسلم" عن عتبة بن غزوان أنه خطبهم خطبة فقال فيها، ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام، وقوله تبارك وتعالى: { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُـمْ طِبْتُمْ } أي طابت أعمالكم وأقوالكم وطاب سعيكم وجزاؤكم، وقوله: { فَٱدْخُلُوهَا خَالِدِينَ } أي ماكثين فيها أبداً لا يبغون عنها حولاً، { وَقَـالُواْ ٱلْحَـمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ } أي يقول المؤمنون إذا عاينوا في الجنة ذلك الثواب الوافر، والعطاء العظيم، والنعيم المقيم والملك الكبير يقولون عند ذلك: { ٱلْحَـمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ } أي الذي كان وعدنا على ألسنة رسله الكرام كما دعوا في الدنيا { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ } [آل عمران: 194]، { وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِيۤ أَذْهَبَ عَنَّا ٱلْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * ٱلَّذِيۤ أَحَلَّنَا دَارَ ٱلْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } [فاطر: 34-35]، وقوله: { وَأَوْرَثَنَا ٱلأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَامِلِينَ }. قال أبو العالية وقتادة والسدي: أي أرض الجنة، فهذه الآية كقوله تعالى: { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي ٱلزَّبُورِ مِن بَعْدِ ٱلذِّكْرِ أَنَّ ٱلأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّالِحُونَ } [الأنبياء: 105]، ولهذا قالوا: { نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ } أي أين شئنا حللنا فنعم الأجر أجرنا على عملنا. وفي "الصحيحين" عن أنَس رضي الله عنه في قصة المعراج قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك" ، وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: إن ابن صائد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تربة الجنة فقال: "درمكة بيضاء مسك خالص" .
وروى ابن أبي حاتم، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله تعالى: { وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى ٱلّجَنَّةِ زُمَراً } قال: سيقوا حتى انتهوا إلى باب من أبواب الجنة، فوجدوا عندها شجرة يخرج من تحت ساقها عينان، فعمدوا إلى إحداهما فتطهروا منها، فجرت عليهم نضرة النعيم، فلم تغير أبشارهم بعدها أبداً، ولم تشعث أشعارهم بعدها أبداً، فإنما دهنوا بالدهان ثم عمدوا إلى الأُخْرى، كأنما أمروا بها فشربوا منها فأذهب ما كان في بطونهم من أذى أو قذى، وتلقتهم الملائكة على أبواب الجنة: { سَلاَمٌ عَلَيْكُـمْ طِبْتُمْ فَٱدْخُلُوهَا خَالِدِينَ }، وتلقى كل غلمان صاحبهم يطوفون به فعل الولدان بالحميم جاء من الغيبة، أبشر قد أعد الله لك من الكرامة كذا وكذا، قد أعد الله لك من الكرامة كذا وكذا، قال: وينطلق غلام من غلمانه إلى أزواجه من الحور العين، فيقول: هذا فلان باسمه في الدنيا، فيقلن: أنت رأيته، فيقول: نعم، فيستخفهن الفرح حتى تخرج إلى أسكفة الباب، قال: فيجيء فإذا هو بنمارق مصفوفة وأكواب موضوعة وزرابي مبثوثة، قال، ثم ينظر إلى تأسيس بنيانه، فإذا هو قد أسس على جندل اللؤلؤ بين أحمر وأخضر وأصفر وأبيض، ومن كل لون ثم يرفع طرفه إلى سقفه، فلولا أن الله تعالى قدره له لألم أن يذهب ببصره إنه لمثل البرق، ثم ينظر إلى أزواجه من الحور العين، ثم يتكىء إلى أريكة من أرائكه ثم يقول: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي هَدَانَا لِهَـٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاۤ أَنْ هَدَانَا ٱللَّهُ } [الأعراف: 43].