التفاسير

< >
عرض

وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَٱلصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ ٱلأنْفُسُ ٱلشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً
١٢٨
وَلَن تَسْتَطِيعُوۤاْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ ٱلنِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ ٱلْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَٱلْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
١٢٩
وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ ٱللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ ٱللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً
١٣٠
-النساء

مختصر تفسير ابن كثير

يقول تعالى مخبراً ومشرعاً من حال الزوجين تارة في حال نفور الرجل عن المرأة، وتارة في حال اتفاقه معها، وتارة في حال فراقه لها، فالحالة الأولى: ما إذا خافت المرأة من زوجها أن ينفر عنها أو يعرض عنها، فلها أن تسقط عنه حقها أو بعضه من نفقة أو كسوة أو مبيت أو غير ذلك من حقوقها عليه، وله أن يقبل ذلك منها فلا حرج عليها في بذلها ذلك له، ولا عليه في قبوله منها، ولهذا قال تعالى: { فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً }. ثم قال: { وَٱلصُّلْحُ خَيْرٌ } أي من الفراق، وقوله: { وَأُحْضِرَتِ ٱلأنْفُسُ ٱلشُّحَّ }: أي الصلح عند المشاحة خير من الفراق، ولهذا لما كبرت (سودة بنت زمعة) عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فراقها، فصالحته على أن يمسكها وتترك يومها لعائشة، فقبل ذلك منها وأبقاها على ذلك. (ذكر الرواية بذلك): عن عكرمة عن ابن عباس قال: خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: لا تطلقني واجعل يومي لعائشة، ففعل ونزلت هذه الآية: { وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ } الآية. قال ابن عباس: فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز. وفي الصحيحين عن عائشة قالت: لما كبرت سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لها بيوم سودة. وعن عروة عن عائشة، أنها قالت له يا ابن أختي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضاً على بعض في مكثه عندنا، وكان قلَّ يوم إلا وهو يطوف علينا فيدنو من كل امرأة من غير مسيس، حتى يبلغ إلى من هو يومها فيبيت عندها، ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسنت، وفرقت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله يومي هذا لعائشة، فقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت عائشة، ففي ذلك أنزل الله: { وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً }.
وروى ابن جرير عن عائشة: { وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَٱلصُّلْحُ خَيْرٌ } قالت: هذا في المرأة تكون عند الرجل، فلعله لا يكون بمستكثر منها، ولا يكون لها ولد، ويكون لها صحبة فتقول: لا تطلقني وأنت في حل من شأني، وفي رواية أخرى عن عائشة: هو الرجل له المرأتان إحداهما قد كبرت والأخرى دميمة وهو لا يستكثر منها فتقول: لا تطلقني وأنت في حل من شأني. وعن ابن سيرين قال: جاء رجل إلى عمر ابن الخطاب فسأله عن آية فكرهه فضربه بالدرة، فسأله آخر عن هذه الآية: { وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً } ثم قال مثل هذا فاسألوا: ثم قال: هذه المرأة تكون عند الرجل قد خلا من سنها فيتزوج المرأة الشابة يلتمس ولدها، فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز. وقال ابن أبي حاتم عن خالد بن عرعرة قال: جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فسأله عن قول الله عزَّ وجلَّ: { وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ } قال علي: يكون الرجل عنده المرأة فتنبو عيناه عنها من دمامتها، أو كبرها، أو سوء خلقها، أو قذذها فتكره فراقه، فإن وضعت له من مهرها شيئاً حل له، وإن جعلت له من أيامها فلا حرج.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: عن الزهري أخبرني سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار: أن السنّة في هاتين الآيتين اللتين ذكر الله فيهما نشوز الرجل وإعراضه عن امرأته في قوله: { وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً } إلى تمام الآيتين، أن المرء إذا نشز عن امرأته وآثر عليها، فإن من الحق أن يعرض عليها أن يطلقها أو تستقر عنده على ما كانت من أثرة في القسم من ماله ونفسه، صلح له ذلك وكان صلحها عليه، كذلك ذكر (سعيد بن المسيب) و (سليمان) الصلحَ الذي قال الله عزَّ وجلَّ: { فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَٱلصُّلْحُ خَيْرٌ } وقد ذكر لي أن رافع بن خديج الأنصاري - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - كانت عنده امرأة حتى إذا كبرت تزوج عليها فتاة شابة وآثر عليها الشابة، فناشدته الطلاق فطلقها تطليقة، ثم أمهلها حتى إذا كادت تحل راجعها، ثم عاد فآثر عليها الشابة فناشدته الطلاق، فقال لها: ما شئت إنما بقيت لك تطليقة واحدة، فإن شئت استقررت على ما ترين من الأثرة وإن شئت فارقتك، فقالت: لا بل أستقر على الأثرة، فأمسكها على ذلك فكان ذلك صلحهما، ولم ير رافع عليه إثماً حين رضيت أن تستقر عنده على الأثرة فيما آثر به عليها.
وقوله تعالى: { وَٱلصُّلْحُ خَيْرٌ } قال ابن عباس: يعني التخيير، وهذه هي الحالة الثانية: أن يخير الزوج لها بين الإقامة والفراق خير من تمادي الزوج على أثرة غيرها عليها، والظاهر من الآية أن صلحهما على ترك بعض حقها للزوج وقبول الزوج ذلك خير من المفارقة بالكلية، كما أمسك النبي صلى الله عليه وسلم (سودة بنت زمعة) على أن تركت يومها لعائشة رضي الله عنها، ولم يفارقها بل تركها من جملة نسائه، وفعله ذلك لتتأسى به أمته في مشروعية ذلك وجوازه، فهو أفضل في حقه عليه الصلاة والسلام، ولما كان الوفاق أحب إلى الله من الفراق قال: { وَٱلصُّلْحُ خَيْرٌ }، بل الطلاق بغيض إليه سبحانه وتعالى، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجه عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أبغض الحلال إلى الله الطلاق" .
وقوله تعالى: { وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً }، وإن تتجشموا مشقة الصبر على ما تكرهون منهن، وتقسموا لهن أسوة أمثالهن فإن الله عالم بذلك وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء، وقوله تعالى: { وَلَن تَسْتَطِيعُوۤاْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ ٱلنِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ } أي لن تستطيعوا أيها الناس أن تساووا بين النساء من جميع الوجوه، فإنه وإن وقع القسم الصوري ليلة وليلة فلا بد من التفاوت في المحبة والشهوة والجماع كما قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك. وجاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن عبد الله بن يزيد عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" ، يعني القلب. وقوله: { فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ ٱلْمَيْلِ } أي فإذا ملتم إلى واحدة منهن فلا تبالغوا في الميل بالكلية { فَتَذَرُوهَا كَٱلْمُعَلَّقَةِ } أي فتبقى هذه الأخرى معلقة، قال ابن عباس وآخرون: معناه لا ذات زوج ولا مطلقة؛ وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط" .
وقوله تعالى: { وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } أي وإن أصلحتم في أموركم، وقسمتم بالعدل فيما تملكون، واتقيتم الله في جميع الأحوال غفر الله لكم ما كان من ميل إلى بعض النساء دون بعض، ثم قال تعالى: { وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ ٱللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ ٱللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً } وهذه هي الحالة الثالثة: وهي حالة الفراق: وقد أخبر الله تعالى أنهما إذا تفرقا فإن الله يغنيه عنها ويغنيها عنه، بأن يعوضه الله من هو خير له منها ويعوضها عنه بمن هو خير لها منه، { وَكَانَ ٱللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً } أي واسع الفضل عظيم المن حكيماً في جميع أفعاله وأقداره وشرعه.