التفاسير

< >
عرض

لاَّ يَسْتَوِي ٱلْقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ وَٱلْمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَٰهِدِينَ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى ٱلْقَٰعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلْقَٰعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً
٩٥
دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
٩٦
-النساء

مختصر تفسير ابن كثير

قال البخاري عن البراء قال: لما نزلت { لاَّ يَسْتَوِي ٱلْقَاعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً فكتبها، فجاء ابن أم مكتوم فشكا ضرارته، فأنزل الله { غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ } وقال البخاري أيضاً عن سهل بن سعد الساعدي: أنه رأى مروان بن الحكم في المسجد قال: فأقبلت حتى جلست إلى جنبه، فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملي عليَّ: { لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله }، فجاءه ابن أم مكتوم وهو يمليها عليَّ، قال يا رسول الله: والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت وكان أعمى، فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وكان فخذه على فخذي فثقلت عليَّ حتى خفت أن تُرضَّ فخذي ثم سري عنه فأنزل الله: { غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ }.
وعن ابن عباس قال: { لاَّ يَسْتَوِي ٱلْقَاعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ }، عن بدر والخارجون إلى بدر، ولما نزلت غزوة بدر قال عبد الله بن جحش وابن أم مكتوم: إنا أعميان يا رسول الله فهل لنا رخصة؟ فنزلت: { لاَّ يَسْتَوِي ٱلْقَاعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ } وفضل الله المجاهدين على القاعدين درجة فهؤلاء القاعدون غير أولي الضرر { وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَاهِدِينَ عَلَى ٱلْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً * دَرَجَاتٍ مِّنْهُ } على القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر. فقوله: { لاَّ يَسْتَوِي ٱلْقَاعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } كان مطلقاً فلما نزل بوحي سريع { غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ } صار ذلك مخرجاً لذوي الأعذار المبيحة لترك الجهاد من العمى والعرج والمرض عن مساواتهم للمجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم.
ثم أخبر تعالى بفضيلة المجاهدين على القاعدين قال ابن عباس: { غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ } وكذا ينبغي أن يكون كما ثبت في صحيح البخاري عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إن بالمدينة أقواماً ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه قالوا: وهم بالمدينة يا رسول الله؟ قال: نعم حبسهم العذر" وفي رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقد تركتم بالمدينة أقواماً ما سرتم من مسير ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه قالوا: وكيف يكونون معنا فيه يا رسول الله؟ قال: نعم حبسهم العذر" قال الشاعر في هذا المعنى:

يا راحلين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا
إنا أقمنا على عذر وعن قدر ومن أقام على عذر فقد راحا

وقوله تعالى: { وَكُـلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ } أي الجنة والجزاء الجزيل، وفيه دلالة على أن الجهاد ليس بفرض عين بل هو فرض على الكفاية، قال تعالى: { وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَاهِدِينَ عَلَى ٱلْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً } ثم أخبر سبحانه بما فضلهم به من الدرجات، في غرف الجنات العاليات، ومغفرة الذنوب والزلات، وأحوال الرحمة والبركات، إحساناً منه وتكريماً ولهذا قال: { دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }.
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض" .