التفاسير

< >
عرض

بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ
٩
فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ
١٠
يَغْشَى ٱلنَّاسَ هَـٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ
١١
رَّبَّنَا ٱكْشِفْ عَنَّا ٱلْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ
١٢
أَنَّىٰ لَهُمُ ٱلذِّكْرَىٰ وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ
١٣
ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ
١٤
إِنَّا كَاشِفُواْ ٱلْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ
١٥
يَوْمَ نَبْطِشُ ٱلْبَطْشَةَ ٱلْكُبْرَىٰ إِنَّا مُنتَقِمُونَ
١٦
-الدخان

مختصر تفسير ابن كثير

يقول تعالى: بل هؤلاء المشركون في شك يلعبون أي قد جاءهم الحق اليقين، وهم يشكون فيه ويمترون ولا يصدقون به، ثم قال عزَّ وجلَّ متوعداً لهم ومهدداً: { فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } قال مسروق: دخلنا المسجد، يعني مسجد الكوفة، فإذا رجل يقص على أصحابه { يَوْمَ تَأْتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } تدرون ما ذلك الدخان؟ ذلك دخان يأتي يوم القيامة فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم، ويأخذ المؤمنين منه شبه الزكام، قال: فأتينا ابن مسعود رضي الله عنه فذكرنا ذلك له، وكان مضطجعاً ففزع فقعد، وقال: إن الله عزّ وجلّ قال لنبيكم صلى الله عليه وسلم: { قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ ٱلْمُتَكَلِّفِينَ } [ص: 86]، إن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم: الله أعلم، سأحدثكم عن ذلك: إن قريشاً لما أبطأت عن الإسلام واستعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم من الجهد والجوع، حتى أكلوا العظام والميتة، وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء، فلا يرون إلا الدخان، وفي رواية: فجعل الرجل ينظر إلى السماء، فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، قال الله تعالى: { فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى ٱلنَّاسَ هَـٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ }، فأُتِي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل: يا رسول الله، استسق الله لمضر، فإنها قد هلكت، فاستسقى صلى الله عليه وسلم لهم، فسقوا، فنزلت: { إِنَّا كَاشِفُو ٱلْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ }، قال ابن مسعود رضي الله عنه: أفيكشف عنهم العذاب يوم القيامة؟ فلما أصابهم الرفاهية عادوا إلى حالهم، فأنزل الله عزّ وجلّ: { يَوْمَ نَبْطِشُ ٱلْبَطْشَةَ ٱلْكُبْرَىٰ إِنَّا مُنتَقِمُونَ } قال: يعني يوم بدر. قال ابن مسعود رضي الله عنه، فقد مضى خمسة: الدخان والروم والقمر والبطشة واللزام. وقال آخرون: لم يمض الدخان بعد، بل هو من أمارات الساعة، كما تقدم من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه قال: أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة، ونحن نتذاكر الساعة، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدخان والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج عيسى ابن مريم، والدجال، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس - أو تحشر الناس - تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا" . وفي "الصحيحين" " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن صياد: إني خبأت لك خبأ قال: هو الدُّخ، فقال صلى الله عليه وسلم له: إخسأ فلن تعدو قدرك قال: وخبأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: { فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ }" . وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ربكم أنذركم ثلاثاً: الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة، ويأخذ الكافر، فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه، والثانية الدابة، والثالثة الدجال" .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يهيج الدخان بالناس، فأما المؤمن فيأخذه كالزكمة، وأما الكافر فينفخه حتى يخرج من كل مسمع منه" ، وقال ابن أبي حاتم، عن علي رضي الله عنه قال: لم تمض آية الدخان بعد، يأخذ المؤمن كهيئة الزكام وتنفخ الكافر حتى ينفذ، وروى ابن جرير، عن عبد الله بن أبي مليكة قال: غدوت على ابن عباس رضي الله عنهما ذات يوم فقال: ما نمت الليلة حتى أصبحت، قلت: لِمَ؟ قال، قالوا: طلع الكوكب ذو الذنب، فخشيت أن يكون الدخان قد طرق فما نمت حتى أصبحت، وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة وترجمان القرآن، وهكذا قول من وافقه من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين من الأحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان وغيرهما التي أوردوها، مما فيه مقنع ودلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة مع أنه ظاهر القرآن، قال الله تبارك وتعالى: { فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } أي بين واضح يراه كل أحد، وعلى ما فسر به ابن مسعود رضي الله عنه إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد، وهكذا قوله تعالى: { يَغْشَى ٱلنَّاسَ } أي يتغشاهم ويعمهم، ولو كان أمراً خيالياً يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه { يَغْشَى ٱلنَّاسَ }، وقوله تعالى: { هَـٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً كقوله عزّ وجلّ: { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَـٰذِهِ ٱلنَّارُ ٱلَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ } [الطور: 13-14]، أو يقول بعضهم لبعض ذلك. وقوله سبحانه وتعالى: { رَّبَّنَا ٱكْشِفْ عَنَّا ٱلْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ } أي يقول الكافرون إذا عاينوا عذاب الله وعقابه سائلين رفعه وكشفه عنهم كقوله جلت عظمته: { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى ٱلنَّارِ فَقَالُواْ يٰلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [الأنعام: 27]، وكذا قوله جل وعلا: { وَأَنذِرِ ٱلنَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ٱلْعَذَابُ فَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ ٱلرُّسُلَ } [إبراهيم: 44]، وهكذا قال جلّ وعلا هٰهنا: { أَنَّىٰ لَهُمُ ٱلذِّكْرَىٰ وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ }. يقول: كيف لهم بالتذكر وقد أرسلنا إليهم رسولاً بيِّن الرسالة والنذارة، ومع هذا تولوا عنه وما وافقوه، بل كذبوه وقالوا معلم مجنون، وهذا كقوله جلَّت عظمته: { يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ ٱلذِّكْرَىٰ } [الفجر: 23]؟.
وقوله تعالى: { إِنَّا كَاشِفُو ٱلْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ } يحتمل معنيين: (أحدهما): أنه يقول تعالى: ولو كشفنا عنكم العذاب ورجعناكم إلى الدار الدنيا، لعدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب. كقوله تعالى:
{ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [الأنعام: 28]. (والثاني): أن يكون المراد: إنا مؤخرو العذاب عنكم قليلاً بعد انعقاد أسبابه ووصوله إليكم، وأنتم مستمرون فيما أنتم فيه من الطغيان والضلال، ولا يلزم من الكشف عنهم أن يكون باشرهم كقوله تعالى: { إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ٱلخِزْيِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ } [يونس: 98] ولم يكن العذاب باشرهم واتصل بهم بل كان قد انعقد سببه عليهم، ولا يلزم أيضاً أن يكونوا قد أقلعوا عن كفرهم ثم عادوا إليه، قال الله تعالى إخباراً عن شعيب عليه السلام أنه قال لقومه حين قالوا: { لَنُخْرِجَنَّكَ يٰشُعَيْبُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ ٱفْتَرَيْنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا ٱللَّهُ مِنْهَا } [الأعراف: 88-89]، وشعيب عليه السلام لم يكن قط على ملتهم وطريقتهم وقال قتادة: إنكم عائدون إلى عذاب الله. وقوله عزّ وجلّ: { يَوْمَ نَبْطِشُ ٱلْبَطْشَةَ ٱلْكُبْرَىٰ إِنَّا مُنتَقِمُونَ }: فسر ذلك ابن مسعود رضي الله عنه بيوم بدر، وروي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو محتمل، والظاهر أن ذلك يوم القيامة وإن كان يوم بدر يوم بطشة أيضاً، روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال، قال ابن مسعود رضي الله عنه { ٱلْبَطْشَةَ ٱلْكُبْرَىٰ } يوم بدر، وأنا أقول هي يوم القيامة. وهذا إسناد صحيح عن ابن عباس، والله أعلم.