التفاسير

< >
عرض

وَعَدَكُمُ ٱللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَـٰذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ ٱلنَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً
٢٠
وَأُخْرَىٰ لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ ٱللَّهُ بِهَا وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً
٢١
وَلَوْ قَـٰتَلَكُمُ ٱلَّذِينَ كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً
٢٢
سُنَّةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً
٢٣
وَهُوَ ٱلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً
٢٤
-الفتح

مختصر تفسير ابن كثير

قال مجاهد في قوله تعالى: { وَعَدَكُمُ ٱللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا } هي جميع المغانم إلى اليوم { فَعَجَّلَ لَكُمْ هَـٰذِهِ } يعني فتح خيبر، وروى العوفي عن ابن عباس { فَعَجَّلَ لَكُمْ هَـٰذِهِ } يعني صلح الحديبية { وَكَفَّ أَيْدِيَ ٱلنَّاسِ عَنْكُمْ } أي لم ينلكم سوء مما كان أعداؤكم أضمروه لكم من المحاربة والقتال، وكذلك كف أيدي الناس عنكم الذين خلفتموهم وراء ظهوركم عن عيالكم وحريمكم { وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ } أي يعتبرون بذلك، فإن الله تعالى حافظهم وناصرهم على سائر الأعداء مع قلة عددهم، وليعلموا بصنيع الله هذا بهم أنه العالم بعواقب الأمور، وأن الخيرة فيما يختاره لعباده المؤمنين وإن كرهوه في الظاهر، كما قال عزَّ وجلَّ: { وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } [البقرة: 216]، { وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } أي بسبب انقيادكم لأمره واتباعكم طاعته وموافقتكم رسوله صلى الله عليه وسلم، وقوله تبارك وتعالى: { وَأُخْرَىٰ لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ ٱللَّهُ بِهَا وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } أي وغنيمة أخرى وفتحاً آخر معيناً لم تكونوا تقدرون عليها، قد يسرها الله عليكم وأحاط بها لكم، فإنه تعالى يرزق عباده المتقين من حيث لا يحتسبون، وقد اختلف المفسرون في هذه الغنيمة ما المراد بها؟ فقال ابن عباس: هي خيبر، وقال الضحاك وقتادة: هي مكة، واختاره ابن جرير، وقال الحسن البصري: هي فارس والروم، وقال مجاهد هي كل فتح وغنيمة إلى يوم القيامة، وقوله تعالى: { وَلَوْ قَـٰتَلَكُمُ ٱلَّذِينَ كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } يقول عزَّ وجلَّ مبشراً لعباده المؤمنين، بأنه لو ناجزهم المشركون لنصر الله رسوله وعباده المؤمنين عليهم، ولانهزم جيش الكفر فاراً مدبراً { لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } لأنهم محاربون لله ولرسوله ولحزبه المؤمنين، ثم قال تبارك وتعالى: { سُنَّةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً } أي هذه سنة الله وعادته في خلقه، ما تقابل الكفر والإيمان في موطن فيصل، إلا نصر الله الإيمان على الكفر، فرفع الحق ووضع الباطل، كما فعل تعالى يوم بدر بأوليائه المؤمنين، نصرهم على أعدائه من المشركين، مع قلة عدد المسلمين وكثرة المشركين، وقوله سبحانه وتعالى: { وَهُوَ ٱلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } هذا امتنان من الله تعالى على عباده المؤمنين، حين كف أيدي المشركين عنهم، فلم يصل إليهم منهم سوء، وكف أيدي المؤمنين عن المشركين فلم يقاتلوهم عند المسجد الحرام، بل صان كلاً من الفريقين وأوجد بينهم صلحاً، فيه خيرة للمؤمنين وعاقبة لهم في الدنيا والآخرة، روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما كان يوم الحديبية هبط على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثمانون رجلاً من أهل مكة بالسلاح، من قبل جبل التنعيم، يريدون غرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا عليهم، فأخذوا، قال عفان: فعفا عنهم، ونزلت هذه الآية: { وَهُوَ ٱلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ }. وقال أحمد أيضاً عن عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصل الشجرة التي قال الله تعالى في القرآن، وكان يقع من أغصان تلك الشجرة على ظهر رسول الله صلى الله عليه سلم وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وسهيل بن عمرو بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: اكتب بسم الله الرحمٰن الرحيم فأخذ سهيل بيده، وقال: ما نعرف الرحمٰن الرحيم، اكتب في قضيتنا ما نعرف، فقال: اكتب باسمك اللهم - وكتب - هذا ما صالح عليه محمد رسول الله أهل مكة فأمسك سهيل بن عمرو بيده، وقال: لقد ظلمناك إن كنت رسوله! اكتب في قضيتنا ما نعرف، فقال: اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله فبينا نحن كذلك، إذ خرج علينا ثلاثون شاباً عليهم السلاح، فثاروا في وجوهنا فدعا عليهم رسول الله صلى عليه وسلم، فأخذ الله بأسماعهم فقمنا إليهم فأخذناهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل جئتم في عهد أحد؟ أو هل جعل لكم أحد أماناً؟ فقالوا: لا، فخلى سبيلهم فأنزل الله تعالى: { وَهُوَ ٱلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ }" الآية.
وروى ابن إسحاق عن عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنه قال: إن قريشاَ بعثوا أربعين رجلاً منهم أو خمسين، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبوا من أصحابه أحداً، فأخذوا أخذاً، فأُتي بهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فعفا عنهم، وخلى سبيلهم، وقد كانوا رموا إلى عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة والنبل، قال ابن إسحاق: وفي ذلك أنزل الله تعالى: { وَهُوَ ٱلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم } الآية.