التفاسير

< >
عرض

مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً
٢٩
-الفتح

مختصر تفسير ابن كثير

يخبر تعالى عن محمد صلى الله عليه وسلم أنه رسوله حقاً بلا شك ولا ريب فقال: { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ } وهو مشتمل على كل وصف جميل، ثم ثنَّى بالثناء على أصحابه رضي الله عنهم فقال: { وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ }، كما قال عزّ وجلّ: { أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [المائدة: 54] وهذه صفة المؤمنين، أن يكون أحدهم شديداً على الكفار، رحيماً بالأخيار، عبوساً في وجه الكافر، بشوشاً في وجه المؤمن، كما قال تعالى: { وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً } [التوبة: 123]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" . وفي الصحيح: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" ، وشبّك بين أصابعه.
وقوله سبحانه وتعالى: { تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً } وصفهم بكثرة الصلاة، وهي خير الأعمال، ووصفهم بالإخلاص فيها لله عزّ وجلّ، والاحتساب عند الله تعالى جزيل الثواب، وهو (الجنة) المشتملة على فضل الله عزَّ وجلَّ، ورضاه تعالى عنهم وهو أكبر من الأول، كما قال جل وعلا:
{ وَرِضْوَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ أَكْبَرُ } [التوبة: 72] وقوله جل جلاله: { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ } قال ابن عباس: يعني السمت الحسن، وقال مجاهد: يعني الخشوع والتواضع، وقال السدي: الصلاة تحسّن وجوههم، وقال بعض السلف: من كثرت صلاته بالليل حَسُن وجهه بالنهار. وقال بعضهم: إن للحسنة نوراً. في القلب، وضياء في الوجه، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الناس. وقال عثمان رضي الله عنه: "ما أسرّ أحد سريرة إلاّ أبداها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه" والغرض أن الشيء الكامن في النفس يظهر على صفحات الوجه، فالمؤمن إذا كانت سريرته صحيحة مع الله تعالى، أصلح الله عزَّ وجلَّ ظاهره للناس، كما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "من أصلح سريرته أصلح الله تعالى علانيته"، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أسر أحد سريرة إلاّ ألبسه الله تعالى رداءها إن خيراً فخير وإن شراً فشر" . وفي الحديث: "إن الهدي الصالح، والسمت الصالح، والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة" ، فالصحابة رضي الله عنهم خلصت نياتهم وحسنت أعمالهم، فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم، وقال مالك رضي الله عنه: بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة رضي الله عنهم الذين فتحوا الشام يقولون: والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا، وصدقوا في ذلك، فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة، وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نوّه الله تبارك وتعالى بذكرهم، في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة، ولهذا قال سبحانه وتعالى هٰهنا: { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ }، ثم قال: { وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ } أي فراخه { فَآزَرَهُ } أي شدّه { فَٱسْتَغْلَظَ } أي شبّ وطال { فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ } أي فكذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، آزروه وأيدوه ونصروه، فهم معه كالشطء مع الزرع { لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ }، ومن هذه الآية انتزع الإمام مالكرحمه الله بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله عنهم، قال: لأنهم يغيظونهم، ومن غاظ الصحابة فهو كافر لهذه الآية، ووافقه طائفة من العلماء رضي الله عنهم على ذلك.
والأحاديث في فضل الصحابة رضي الله عنهم، والنهي عن التعرض لهم بمساويهم كثيرة، ويكفيهم ثناء الله عليهم، ورضاه عنهم، ثم قال تبارك وتعالى: { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنْهُم } من هذه لبيان الجنس { مَّغْفِرَةً } أي لذنوبهم { وَأَجْراً عَظِيماً } أي ثواباً جزيلاً، ورزقاً كريماً، ووعد الله حق وصدق، لا يخلف ولا يبدل، وكل من اقتفى أثر الصحابة رضي الله عنهم فهو في حكمهم، ولهم الفضل والسبق والكمال، الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة، رضي الله عنهم وأرضاهم، وجعل جنات الفردوس مأواهم. ورى مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً، ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه" .