التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاۤئِمٍ ذٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
٥٤
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ
٥٥
وَمَن يَتَوَلَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْغَالِبُونَ
٥٦
-المائدة

مختصر تفسير ابن كثير

يقول تعالى مخبراً عن قدرته العظيمة: إنه من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته، فإن الله سيستبدل به من هو خير لها منه، وأشد منعة وأقوم سبيلاً كما قال تعالى: { { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوۤاْ أَمْثَالَكُم } [محمد: 38]، وقال تعالى: { { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا ٱلنَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ } [النساء: 133]، وقال تعالى: { { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٍ } [إبراهيم: 19-20] أي بممتنع ولا صعب. وقال تعالى هٰهنا: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ } أي يرجع عن الحق إلى الباطل. قال محمد بن كعب: نزلت في الولاة من قريش، وقال الحسن البصري: نزلت في أهل الردة أيام أبي بكر. { فَسَوْفَ يَأْتِي ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } قال الحسن: هو والله أبو بكر وأصحابه، وقال ابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري قال: لما نزلت { فَسَوْفَ يَأْتِي ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هم قوم هذا" ، ورواه ابن جرير بنحوه. وقوله تعالى: { أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } هذه صفات المؤمنين الكُمَّل، أن يكون أحدكم متواضعاً لأخيه ووليه متعززاً على خصمه وعدوه كما قال تعالى: { { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } [الفتح: 29]، وفي صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الضحوك القتال، فهو ضحوك لأوليائه، قتال لأعدائه. وقوله عزَّ وجل: { يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاۤئِمٍ } أي لا يردهم عما هم فيه من طاعة الله، وإقامة الحدود، وقتال أعدائه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يردهم عن ذلك رادّ ولا يصدهم عنه صاد. قال الإمام أحمد عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال: "أمرني خليلي صلى الله عليه وسلم بسبع: أمرني بحب المساكين والدنو منهم، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني، ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت، وأمرني أن لا أسأل أحداً شيئاً، وأمرني أن أقول الحق وإن كان مراً، وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم، وأمرني أن أكثر من قول: لا حول ولا قوة إلاّ بالله، فإنهن من كنز تحت العرش" . وقال الإمام أحمد أيضاً عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا لا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده، فإنه لا يقرّب من أجل، ولا يباعد من رزق أن يقول بحق أو أن يذكر بعظيم" . وقال أحمد عن أبي سعيد الخدري قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمراً لله فيه مقال فلا يقول فيه، فيقال له يوم القيامة: ما منعك أن تكون قلت في كذا وكذا؟ فيقول: مخافة الناس: فيقول: إياي أحق أن تخاف" ، وثبت في الصحيح: " ما ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه قالوا: وكيف يذل نفسه يا رسول الله؟ قال: يتحمل من البلاء ما لا يطيق" ، { ذٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } أي من اتصف بهذه الصفات فإنما هو من فضل الله عليه وتوفيقه له، { وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } أي واسع الفضل عليم بمن يستحق ذلك ممن يحرمه إياه.
وقوله تعالى: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ } أي ليس اليهود بأوليائكم، بل ولايتكم راجعة إلى الله ورسوله والمؤمنين، وقوله: { ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ } أي المؤمنون المتصفون بهذه الصفات من إقام الصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام، وهي له وحده لا شريك له، وإيتاء الزكاة التي هي حق المخلوقين ومساعدة للمحتاجين من الضعفاء والمساكين، وأما قوله: { وَهُمْ رَاكِعُونَ } فقد توهم بعض الناس أن هذه الجملة في موضع الحال من قوله: { وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ } أي في حال ركوعهم، ولو كان هذا كذلك لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره لأنه ممدوح، وليس الأمر كذلك عند أحد من العلماء. قال السدي: نزلت هذه الآية في جميع المؤمنين ولكن عليّ بن أبي طالب مر به سائل وهو راكع في المسجد فأعطاه خاتمه، وقد تقدم في الأحاديث التي أوردناها أن هذه الآيات نزلت في عبادة بن الصامت رضي الله عنه حين تبرأ من حلف اليهود، ورضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين، ولهذا قال تعالى بعد هذا كله: { وَمَن يَتَوَلَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْغَالِبُونَ } كما قال تعالى:
{ { كَتَبَ ٱللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِيۤ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ * لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوۤاْ آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ } [المجادلة: 21-22] الآية. فكل من رضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين فهو مفلح في الدنيا والآخرة ومنصور في الدنيا والآخرة، ولهذا قال تعالى في هذه الآية الكريمة: { وَمَن يَتَوَلَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْغَالِبُونَ }.