التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ ٱمْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ
٢١
وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ
٢٢
يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ
٢٣
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ
٢٤
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ
٢٥
قَالُوۤاْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِيۤ أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ
٢٦
فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ ٱلسَّمُومِ
٢٧
إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْبَرُّ ٱلرَّحِيمُ
٢٨
-الطور

مختصر تفسير ابن كثير

يخبر تعالى عن فضله وكرمه وامتنانه، ولطفه بخلقه وإحسانه، أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذرياتهم في الإيمان، يلحقهم بآبائهم في المنزلة، وإن لم يبلغوا عملهم لتقر أعين الآباء بالأبناء، فيجمع بينهم على أحسن الوجوه بأن يرفع الناقص العمل بكامل العمل، ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته للتساوي بينه وبين ذاك، ولهذا قال: { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ }، قال ابن عباس: إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل لتقرَّ بهم عينه، ثم قرأ { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ }. وروى ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله الله تعالى: { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ }، قال: هم ذرية المؤمن يموتون على الإيمان، فإن كانت منازل آبائهم أرفع من منازلهم ألحقوا بآبائهم ولم ينقصوا من أعمالهم التي عملوها شيئاً، وروى الحافظ الطبراني عن ابن عباس أظنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال: إنهم لم يبلغوا درجتك، فيقول: يا رب قد عملت لي ولهم، فيؤمر بإلحاقهم به" ، وقرأ ابن عباس { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ } الآية، هذا فضله تعالى على الأبناء ببركة عمل الآباء، وأما فضله على الآباء ببركة دعاء الأبناء، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول: يا رب أنى لي هذه؟ فيقول؛ باستغفار ولدك لك" . وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" .
وقوله تعالى: { كُلُّ ٱمْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } لما أخبر عن مقام الفضل وهو رفع درجة الذرية إلى منزلة الآباء من غير عمل يقتضي ذلك، أخبر عن مقام العدل، وهو أنه لا يؤاخذ أحداً بذنب أحد، فقال تعالى: { كُلُّ ٱمْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } أي مرتهن بعمله لا يحمل عليه ذنب غيره من الناس، سواء كان أباً أو ابناً، كما قال تعالى: { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلاَّ أَصْحَابَ ٱلْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ ٱلْمُجْرِمِينَ } [المدثر: 38-41]، وقوله: { وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } أي وألحقناهم بفواكه ولحوم من أنواع شتى مما يستطاب ويشتهى، وقوله: { يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً } أي يتعاطون فيها كأساً أي من الخمر، قاله الضحّاك: { لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ } أي لا يتكلمون فيها بكلام لاغ، أي هذيان، ولا إثم، أي فحش كما يتكلم به الشربة من أهل الدنيا. قال ابن عباس: اللغو الباطل، والتأثيم الكذب، وقال مجاهد: لا يستبون ولا يؤثمون؛ وقال قتادة: كان ذلك في الدنيا مع الشيطان، فنزه الله خمر الآخرة عن قاذورات خمر الدنيا وأذاها، فنفى عنها صداع الرأس ووجع البطن وإزالة العقل بالكلية، وأخبر أنها لا تحملهم على الكلام السيء الفارغ عن الفائدة المتضمن هذياناً وفحشاً، وأخبر بحسن منظرها وطيب طعمها ومخبرها فقال: { بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ * لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ } [الصافات: 46-47] وقال: { لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ } [الواقعة: 19]. وقال هٰهنا: { يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ }. وقوله تعالى: { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ } إخبار عن خدمهم وحشمهم في الجنة، كأنهم اللؤلؤ الرطب المكنون، في حسنهم وبهائهم ونظافتهم وحسن ملابسهم، كما قال تعالى: { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ } [الواقعة: 17-18]. وقوله تعالى: { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } أي أقبلوا يتحادثون ويتساءلون عن أعمالهم وأحوالهم في الدنيا، كما يتحادث أهل الشراب على شرابهم، { قَالُوۤاْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِيۤ أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ } أي كنا في الدار الدنيا ونحن بين أهلينا خائفين من ربنا، مشفقين من عذابه وعقابه { فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ ٱلسَّمُومِ } أي فتصدق علينا وأجارنا مما نخاف، { إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ } أي نتضرع إليه فاستجاب لنا وأعطانا سؤالنا { إِنَّهُ هُوَ ٱلْبَرُّ ٱلرَّحِيمُ }، عن أنَس قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أهل الجنة الجنة اشتاقوا إلى الإخوان فيجيء سرير هذا حتى يحاذي سرير هذا، فيتحدثان، فيتكىء هذا ويتكىء هذا فيتحدثان بما كان في الدنيا، فيقول أحدهما لصاحبه: يا فلان تدري أي يوم غفر الله لنا؟ يوم كنا في موضع كذا وكذا فدعونا الله عزّ و جلّ فغفر لنا" . وعن مسروق عن عائشة أنها قرأت هذه الآية: { فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ ٱلسَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْبَرُّ ٱلرَّحِيمُ } فقالت: اللهم منّ علينا، وقنا عذاب السموم، إنك أنت البر الرحيم: قيل للأعمش: في الصلاة؟ قال: نعم.