التفاسير

< >
عرض

عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ
٥
ذُو مِرَّةٍ فَٱسْتَوَىٰ
٦
وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ
٧
ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ
٨
فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ
٩
فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ
١٠
مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ
١١
أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ
١٢
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ
١٣
عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ
١٤
عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ
١٥
إِذْ يَغْشَىٰ ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ
١٦
مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ
١٧
لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ
١٨
-النجم

مختصر تفسير ابن كثير

يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أنه علَّمه { شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ } وهو جبريل عليه الصلاة والسلام، كما قال تعالى: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلْعَرْشِ مَكِينٍ } [التكوير: 19-20]. وقال هاهنا: { ذُو مِرَّةٍ } أي ذو قوة، قاله مجاهد، وقال ابن عباس: ذو منظر حسن، وقال قتادة: ذو خَلْق طويل حسن، ولا منافاة بين القولين فإنه عليه السلام ذو منظر حسن وقوة شديدة، وقد ورد في الحديث الصحيح: "لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مِرّة سوي" ، وقوله تعالى: { فَٱسْتَوَىٰ } يعني جبريل عليه السلام { وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ } يعني جبريل استوى في الأفق الأعلى، قال عكرمة { ِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ } الذي يأتي منه الصبح، وقال مجاهد: هو مطلع الشمس، قال ابن مسعود: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير جبريل في صورته إلا مرتين: أما واحدة فإنه سأله أن يراه في صورته فسد الأُفق، وأما الثانية فإنه كان معه حيث صعد، فذلك قوله: { وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ }" . وهذه الرؤية لجبريل لم تكن ليلة الإسراء بل قبلها ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض، فهبط عليه جبريل عليه السلام وتدلى إليه، فاقترب منه وهو على الصورة التي خلقه الله عليها له ستمائة جناح، ثم رآه بعد ذلك نزلة أُخْرى عند سدرة المنتهى يعني ليلة الإسراء، وكانت هذه الرؤية الأولى في أوائل البعثة بعد ما جاءه جبريل عليه السلام أول مرة، فأوحى الله إليه صدر سورة اقرأ، روى الإمام أحمد، عن عبد الله أنه قال: "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته، وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأُفق يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم" .
وقوله تعالى: { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } أي فاقترب جبريل إلى محمد لما هبط عليه إلى الأرض، حتى كان بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم { قَابَ قَوْسَيْنِ } أي يقدرهما إذا مدّا، قال مجاهد وقتادة. وقوله: { أَوْ أَدْنَىٰ } هذه الصيغة تستعمل في اللغة لإثبات المخبر عنه، ونفي ما زاد عليه كقوله تعالى: { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَهِيَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [البقرة: 74] أي ما هي بألين من الحجارة بل هي مثلها أو تزيد عليها في الشدة والقسوة، وكذا قوله: { يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } [النساء: 77]، وقوله: { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [الصافات: 147] أي ليسوا أقل منها بل هم مائة ألف حقيقة أو يزيدون عليها، فهذا تحقيق للمخبر به لا شك، وهكذا هذه الآية { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } وهذا الذي قلناه من أن هذا المقترب الداني إنما هو جبريل عليه السلام، هو قول عائشة وابن مسعود وأبي ذر كما سنورد أحاديثهم قريباً إن شاء الله تعالى. وروى مسلم في "صحيحه" عن ابن عباس أنه قال: "رأى محمد ربه بفؤاده مرتين" فجعل هذه إحداهما، وجاء في حديث الإسراء: "ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى" ولهذا قد تكلم كثير من الناس في متن هذه الرواية، فإن صح فهو محمول على وقت آخر وقصة أُخْرَى، لا أنها تفسير لهذه الآية، فإن هذه كانت ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض لا ليلة الإسراء، ولهذا قال بعده: { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ * عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ } فهذه هي ليلة الإسراء والأولى كانت في الأرض، وقال ابن جرير، قال عبد الله بن مسعود في هذه الآية: { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت جبريل له ستمائة جناح" . وروى البخاري، عن الشيباني قال: سألت زراً عن قوله: { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ * فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ } قال: حدثنا عبد الله أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح. فعلى ما ذكرناه يكون قوله: { فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ } معناه فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد ما أوحى، أو فأوحى الله إلى عبده محمد ما أوحى بواسطة جبريل؛ وكلا المعنيين صحيح، وقوله تعالى: { مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ } قال مسلم، عن أبي العالية، عن ابن عباس { مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ }، { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ } قال: رآه بفؤاده مرتين، وقد خالفه ابن مسعود وغيره، ومن روى عنه بالبصر فقد أغرب، وقول البغوي في "تفسيره": وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه وهو قول أنَس والحسن وعكرمة فيه نظر، والله أعلم.
وروى الترمذي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: رأى محمد ربه، قلت: أليس الله يقول:
{ لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَارَ } [الأنعام: 103]؟ قال: ويحك ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره، وقد رأى ربه مرتين. وقال أيضاً: لقي ابن عباس كعباً بعرفة فسأله عن شيء فكبّر حتى جاوبته الجبال، فقال ابن عباس: إنا بنو هاشم، فقال كعب: إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى، فكلم موسى مرتين، ورآه محمد مرتين، وقال مسروق: دخلت على عائشة فقلت: هل رأى محمد ربه؟ فقالت: لقد تكلمت بشيء وقف له شعري، فقلت: رويداً، ثم قرأت: { لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ }، فقالت: أين يذهب بك؟ إنما هو جبريل، من أخبرك أن محمداً رأى ربه، أو كتم شيئاً مما أمر به، أو يعلم الخمس التي قال الله تعالى: "{ إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ } فقد أعظم على الله الفرية، ولكنه رأى جبريل؛ لم يره في صورته إلا مرتين؛ مرة عند سدرة المنتهى، ومرة في أجياد، وله ستمائة جناح قد سد الأفق" . وروى النسائي، عن ابن عباس قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد عليهم السلام؟ وفي "صحيح مسلم"، عن أبي ذر قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هل رأيت ربك؟ فقال: نورٌ أنّى أراه" ؟ وفي رواية: "رأيت نوراً" ، وروى ابن أبي حاتم، عن عباد بن منصور قال: سألت عكرمة عن قوله: { مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ } فقال عكرمة: تريد أن أخبرك أنه قد رآه؟ قلت: نعم، قال: قد رآه، ثم قد رآه، قال: فسألت عنه الحسن، فقال: قد رأى جلاله وعظمته ورداءه". فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت ربي عزّ وجلّ" ، فإنه حديث إسناده على شرط الصحيح، لكنه مختصر من حديث المنام، كما رواه أحمد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني ربي الليلة في أحسن صورة - أحسبه يعني في النوم - فقال: يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال، قلت: لا، فوضع يده بين كتفيَّ حتى وجدت بردها بين ثدييَّ - أو قال نحري - فعلمت ما في السماوات وما في الأرض، ثم قال: يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال، قلت: نعم، يختصمون في الكفارات والدرجات، قال: وما الكفارات؟ قال، قلت: المكث في المساجد بعد الصلوات، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإبلاغ الوضوء في المكاره، من فعل ذلك عاش بخير ومات بخير وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه. وقال: قل يا محمد إذا صليت: اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك: فتنة أن تقبضني إليك غير مفتون، وقال: والدرجات، بذل الطعام وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام" .
وقوله تعالى: { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ * عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ * عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ } هذه هي المرة الثانية التي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها جبريل على صورته التي خلقه الله عليها وكانت ليلة الإسراء، روى الإمام أحمد، عن عامر قال: "أتى مسروق عائشة فقال: يا أُم المؤمنين هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه عزّ وجلّ؟ قالت: سبحان الله لقد قفَّ شعري لما قلت! أين أنت من ثلاث، من حدثكهن فقد كذب؟ من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت: { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَارَ }، { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ }، ومن أخبرك أنه يعلم ما في غد، فقد كذب، ثم قرأت { إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلأَرْحَامِ } الآية، ومن أخبرك أن محمداً قد كتم فقد كذب، ثم قرأت { يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ }؛ ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين" ، وروى الإمام أحمد أيضاً عن مسروق قال: "كنت عند عائشة فقلت أليس الله يقول { وَلَقَدْ رَآهُ بِٱلأُفُقِ ٱلْمُبِينِ }، { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ } فقالت: أنا أول هذه الأمة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال: إنما ذاك جبريل لم يره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين، رآه منهبطاً من السماء إلى الأرض ساداً عظم خلقه ما بين السماء والأرض" .
وقال مجاهد في قوله: { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ } قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته مرتين، وقوله تعالى: { إِذْ يَغْشَىٰ ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ } قد تقدم في أحاديث الإسراء أنه غشيتها الملائكة مثل الغربان، وغشيها نور الرب، وغشيها ألوان ما أدري ما هي. روى الإمام أحمد، عن عبد الله بن مسعود قال: "لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السابعة إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها، { إِذْ يَغْشَىٰ ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ } قال: فراش من ذهب، قال: وأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لا يشرك بالله شيئاً من أمته المقحمات" . وعن مجاهد قال: "كان أغصان السدرة لؤلؤاً وياقوتاً وزبرجداً، فرآها محمد صلى الله عليه وسلم ورأى ربه بقلبه، وقال ابن زيد: قيل يا رسول الله أي شيء رأيت يغشى تلك السدرة؟ قال: رأيت يغشاها فراش من ذهب، ورأيت على كل ورقة من ورقها ملكاً قائماً يسبح الله عزّ وجلّ" . وقوله تعالى: { مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ } قال ابن عباس: ما ذهب يميناً ولا شمالاً، { وَمَا طَغَىٰ } ما جاوز ما أمر به، ولا سأل فوق ما أعطي، وما أحسن ما قال الناظم:

رأى جنة المأوى وما فوقها ولو رأى غيره ما قد رآه لتاها

وقوله تعالى: { لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ } كقوله: { لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ } [الإسراء: 1] أي الدالة على قدرتنا وعظمتنا.