التفاسير

< >
عرض

ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ
١
وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ
٢
وَكَذَّبُواْ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ
٣
وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ ٱلأَنبَآءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ
٤
حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ ٱلنُّذُرُ
٥
-القمر

مختصر تفسير ابن كثير

يخبر تعالى عن اقتراب الساعة وفراغ الدنيا وانقضائها، كما قال تعالى: { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } [النحل: 1]، وقال: { ٱقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ } [الأنبياء: 1]، وقد وردت الأحاديث بذلك، روى الحافظ أبو بكر البزار، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب أصحابه ذات يوم وقد كادت الشمس أن تغرب فلم يبق منها إلا سف يسير فقال: "والذي نفسي بيده ما بقي من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه وما نرى من الشمس إلا يسيراً" ، وقال الإمام أحمد، عن سهل بن سعد قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بعثت أنا والساعة هكذا وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى" ، وفي لفظ: "بعثت أنا والساعة كهذه من هذه إن كادت لتسبقني" وجمع الأعمش بين السبابة والوسطى، وقال الإمام أحمد، عن خالد بن عمير، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد، فإن الدنيا قد آذنت بصُرْم وولت حَذَّاءَ، ولم يبق منها إلا صُبابة الإناء يتصابها صاحبها، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا منها بخير ما يحضرنكم، فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عاماً ما يدرك لها قعراً، والله لتملؤنه أفعجبتم؟ والله لقد ذكرنا لنا أن ما بين مصراعي الجنة مسيرة أربعين عاماً، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام" . وذكر تمام الحديث. وعن عبد الرحمٰن السلمي قال: نزلنا المدائن فكنا منها على فرسخ فجاءت الجمعة فحضر أبي وحضرت معه، فخطبنا حذيفة فقال: ألا إن الله يقول: { ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ }، ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشق، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، ألا وإن اليوم المضمار وغداً السباق، فقلت لأبي أيستبق الناس غداً؟ فقال: يا بني إنك لجاهل إنما هو السباق بالأعمال، وقوله تعالى: { وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ } قد كان هذا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ورد ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة، وقد ثبت في الصحيح عن ابن مسعود أنه قال: "خمس قد مضين: الروم والدخان واللزام والبطشة والقمر" ، وهذا أمر متفق عليه بين العلماء أن انشقاق القمر قد وقع في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات.
(ذكر الأحاديث الواردة في ذلك)
(رواية أنَس بن مالك): روى الإمام أحمد عن أنَس بن مالك قال:
"سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم آية فانشق القمر بمكة مرتين، فقال: { ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ }" ، وعن أنَس بن مالك "أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم القمر شقين حتى رأوا حِراء بينهما" . وروى الإمام أحمد، عن جبير بن مطعم قال: "انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين فرقة على هذا الجبل، وفرقة على هذا الجبل، فقالوا: سحرنا محمد، فقالوا: إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم" . وروى البخاري، عن ابن عباس قال: انشق القمر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن جرير، عن ابن عباس في قوله تعالى: { ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ }، { وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } قال: قد مضى ذلك، كان قبل الهجرة انشق القمر حتى رأوا شقيه، وقال الحافظ البيهقي، "عن عبد الله بن عمر في قوله تعالى: { ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ } قال: وقد كان ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم انشق فلقتين، فلقة من دون الجبل، وفلقة من خلف الجبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اشهد" . وقال الإمام أحمد، عن ابن مسعود قال: "انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقتين حتى نظروا إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اشهدوا" ، وعن عبد الله بن مسعود قال: "انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة، قال: فقالوا: انظروا ما يأتيكم به السفَّار، فإن محمداً لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم، قال: فجاء السفّار، فقالوا ذلك" . وفي لفظ "انظروا السفّار، فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق، وإن كانوا لم يروا مثل ما رأيتم فهو سحر سحركم به، قال: فسئل السفار، قال: وقدموا من كل وجهة، فقالوا: رأينا، فأنزل الله عزّ وجلّ: { ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ }" . وروى الإمام أحمد، عن عبد الله قال: "انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى رأيت الجبل من بين فرجتي القمر" . وقال ليث عن مجاهد: "انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: اشهد يا أبا بكر، فقال المشركون: سحر القمر حتى انشق" ، وقوله تعالى: { وَإِن يَرَوْاْ آيَةً } أي دليلاً وحجة وبرهاناً { يُعْرِضُواْ } أي لا ينقادوا له بل يعرضوا عنه، ويتركونه وراء ظهورهم { وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } أي ويقولون هذا الذي شاهدناه من الحجج سحرٌ سحرنا به، ومعنى { مُّسْتَمِرٌّ } أي ذاهب باطل مضمحل لا دوام له، { وَكَذَّبُواْ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ } أي كذبوا بالحق إذ جاءهم، واتبعوا ما أمرتهم به أراؤهم وأهواؤهم، من جهلهم وسخافة عقلهم، وقوله: { وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ } قال قتادة: معناه أن الخير واقع بأهل الخير، والشر واقع بأهل الشر، وقال ابن جريج: مستقر بأهله، وقال مجاهد: { وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ } أي يوم القيامة، وقال السدي: مستقر أي واقع. وقوله تعالى: { وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ ٱلأَنبَآءِ } أي من الأخبار عن قصص الأمم المكذبين بالرسل، وما حل بهم من العقاب والنكال والعذاب مما يتلى عليهم في هذا القرآن { مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } أي ما فيه واعظ لهم عن الشرك والتمادي على التكذيب، وقوله تعالى: { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ } أي في هدايته تعالى لمن هداه وإضلاله لمن أضله { فَمَا تُغْنِ ٱلنُّذُرُ } يعني أي شيء تغني النذر عمن كتب الله عليه الشقاوة وختم على قلبه؟ فمن الذي يهديه من بعد الله؟ وهذه الآية كقوله تعالى: { وَمَا تُغْنِي ٱلآيَاتُ وَٱلنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } [يونس: 101].