التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ
٢٦
ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ رِضْوَانِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ
٢٧
-الحديد

مختصر تفسير ابن كثير

يخبر تعالى أنه منذ بعث نوحاً عليه السلام، لم يرسل بعده رسولاً ولا نبياً إلا من ذريته، وكذلك إبراهيم عليه السلام خليل الرحمٰن، لم يرسل رسولاً إلا وهو من سلالته، كما قال تعالى في الآية الأُخْرَى: { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَابَ } [العنكبوت: 27] حتى كان آخر أنبياء بني إسرائيل: { عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ } [البقرة: 87] الذي بشر من بعده بمحمد صلوات الله وسلامه عليهما، ولهذا قال تعالى: { ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ } وهو الكتاب الذي أوحاه الله إليه، { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ } وهم الحواريون { رَأْفَةً } أي رقة وهي الخشية { وَرَحْمَةً } بالخلق، وقوله: { وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا } أي ابتدعها أمّة النصارى، { مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } أي ما شرعناها وإنما هم التزموها من تلقاء أنفسهم، وقوله تعالى: { إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ رِضْوَانِ ٱللَّهِ } فيه قولان (أحدهما): أنهم قصدوا بذلك رضوان الله، قاله سعيد بن جبير وقتادة، (والآخر): ما كتبنا عليهم ذلك إنما كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله، وقوله تعالى: { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } أي فما قاموا بما التزموه حق القيام، وهذا ذم لهم من وجهين: (أحدهما): الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله، (والثاني): في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله عزّ وجلّ. وقد روى ابن أبي حاتم، عن ابن مسعود قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا ابن مسعود قلت: لبيك يا رسول الله، قال: هل علمت أن بني إسرائيل افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة؟ لم ينج منها إلا ثلاث فرق، قامت بين الملوك والجبابرة بعد عيسى ابن مريم عليه السلام، فدعت إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم، فقاتلت الجبابرة فقتلت فصبرت ونجت، ثم قامت طائفة أُخْرَى لم تكن لها قوة بالقتال فقامت بين الملوك والجبابرة، فدعوا إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فقتلت وقطعت بالمناشير وحرقت بالنيران فصبرت ونجت، ثم قامت طائفة أُخْرَى لم يكن لها قوة ولم تطق القيام بالقسط فلحقت بالجبال فتعبّدت وترهبت وهم الذين ذكر الله تعالى: { وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ }" . وروى الإمام أحمد، عن إياس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لكل نبي رهبانية، ورهبانية هذه الأمّة الجهاد في سبيل الله عزّ وجلّ" . وفي رواية: "لكل أمّة رهبانية، ورهبانية هذه الأُمة الجهاد في سبيل الله" . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه "أن رجلاً جاءه فقال: أوصني، فقال: سألت عما سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبلك، أوصيك بتقوى الله فإنه رأس كل شيء، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن، فإنه روحك في السماء وذكرك في الأرض" .