التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ ٱللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ ٱلْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ
٢
وَٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
٣
فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٤
-المجادلة

مختصر تفسير ابن كثير

روى الإمام أحمد، عن خولة بنت ثعلبة، قالت: "فيّ والله وفي أوس بن الصامت أنزل الله صدر سورة المجادلة قالت: كنت عنده، وكان شيخاً كبيراً قد ساء خلقه، قالت: فدخل عليّ يوماً فراجعته بشيء فغضب، فقال: أنتِ عليَّ كظهر أُمي؛ قالت: ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة، ثم دخل عليّ، فإذا هو يريدني عن نفسي، قالت، قلت: كلا والذي نفس خويلة بيده لا تخلص إليّ وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه، قالت: فواثبني فامتنعت بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف، فألقيته عني، قالت: ثم خرجت إلى بعض جاراتي فاستعرت منها ثياباً، ثم خرجت حتى جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست بين يديه، فذكرت له ما لقيت منه وجعلت أشكو إليه ما ألقى من سوء خلقه، قالت: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول؛ يا خويلة ابن عمك شيخ كبير فاتقي الله فيه قالت: فوالله ما برحت، حتى نزل فيّ قرآن، فتغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتغشاه، ثم سري عنه فقال لي: يا خويلة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك قرآناً ثم قرأ عليّ { قَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِيۤ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } إلى قوله تعالى: { وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } قالت، فقال رسول الله صلى الله عليه سلم: مريه فليعتق رقبة قالت، فقلت: يا رسول الله ما عنده ما يعتق، قال: فليصم شهرين متتابعين، قالت: فقلت: والله إنه لشيخ كبير ما به من صيام، قال: فليطعم ستين مسكيناً وسقاً من تمر، قالت، فقلت: والله يا رسول الله ما ذاك عنده، قالت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإنا سنعينه بفرق من تمر، قالت، فقلت: يا رسول الله وأنا سأعينه بفرق آخر، قال: قد أصبت وأحسنت فاذهبي فتصدقي به عنه ثم استوصي بابن عمك خيراً. قالت: ففعلت" . هذا هو الصحيح في سبب نزول هذه السورة؛ قال ابن عباس: "أول من ظاهر من امرأته (أوس بن الصامت) أخو عبادة بن الصامت وامرأته (خولة بنت ثعلبة بن مالك) فلما ظاهر منها خشيت أن يكون ذلك طلاقاً، فأتت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن أوساً ظاهر مني، وإنا إن افترقنا هلكنا. وقد نثرت بطني منه وقدمت صحبته، وهي تشكو ذلك وتبكي، ولم يكن جاء في ذلك شيء، فأنزل الله تعالى: { قَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِيۤ إِلَى ٱللَّهِ } إلى قوله تعالى: { وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتقدر على رقبة تعتقها؟ قال: لا والله يا رسول الله ما أقدر عليها، قال، فجمع له رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أعتق عتقه، ثم راجع أهله" .
وقوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ } أصل الظهار مشتق من الظهر، وذلك أن الجاهلية كانوا إذا ظاهر أحدهم من امرأته قال لها: أنت عليّ كظهر أُمّي، وكان الظهار عند الجاهلية طلاقاً فأرخص الله لهذه الأُمّة وجعل فيه كفارة ولم يجعله طلاقاً كما كانوا يعتمدونه في جاهليتهم. هكذا قال غير واحد من السلف، وقال سعيد بن جبير: كان الإيلاء والظهار من طلاق الجاهلية فوقّت الله الإيلاء أربعة أشهر، وجعل في الظهار الكفارة، وقوله تعالى: { مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ ٱللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ } أي لا تصير المرأة بقول الرجل أنت عليّ كأُمّي، أو مثل أُمي، أو كظهر أُمي وما أشبه ذلك، لا تصير أُمه بذلك إنما أمه التي ولدته، ولهذا قال تعالى: { وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ ٱلْقَوْلِ وَزُوراً } أي كلاماً فاحشاً باطلاً، { وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } أي عما كان منكم في حال الجاهلية، وهكذا أيضاً عما خرج من سبق اللسان ولم يقصد إليه المتكلم، كما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول لامرأته: يا أُختي، فقال: أختك هي؟" فهذا إنكار، ولكن لم يحرمها عليه بمجرد ذلك لأنه لم يقصده، ولو قصده لحرمت عليه، لأنه لا فرق على الصحيح بين الأُم وبين غيرها من سائر المحارم من أُخت وعمَّة وخالة وما أشبه ذلك.
وقوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ } اختلف السلف والأئمة في المراد بقوله تعالى { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ } فقال بعض الناس: العود هو أن يعود إلى لفظ الظهار فيكرره، وهذا القول باطل، وهو اختيار ابن حزم، وقال الشافعي: هو أن يمسكها بعد المظاهرة زماناً يمكنه أن يطلق فيه فلا يطلق، وقال أحمد بن حنبل: هو أن يعود إلى الجماع أو يعزم عليه فلا تحل له حتى يكفر بهذه الكفارة، وقد حكي عن مالك أنه العزم على الجماع أو الإمساك وعنه أنه الجماع، وقال أبو حنيفة: هو أن يعود إلى الظهار بعد تحريمه ورفع ما كان عليه أمر الجاهلية، فمتى ظاهر الرجل من امرأته فقد حرمها تحريماً لا يرفعه إلا الكفارة، وعن سعيد بن جبير { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ } يعني يريدون أن يعودوا في الجماع الذي حرموه على أنفسهم. وقال الحسن البصري: يعني الغشيان في الفرج وكان لا يرى بأساً أن يغشى فيما دون الفرج قبل أن يكفّر. وقال ابن عباس: { مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } والمس النكاح. وقال الزهري: ليس له أن يقبلها ولا يمسها حتى يكفر، وقد روى أهل السنن من حديث عكرمة، عن ابن عباس
"أن رجلاً قال: يا رسول الله إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر، فقال: ما حملك على ذلك يرحمك الله؟ قال: رأيت خلخالها في ضوء القمر، قال: فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله عزّ وجلّ" . وقوله تعالى: { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } أي فإعتاق رقبة كاملة من قبل أن يتماسا، فهٰهنا الرقبة مطلقة غير مقيدة بالإيمان، وفي كفارة القتل مقيدة بالإيمان، فحمل الشافعيرحمه الله ما أطلق هٰهنا على ما قيّد هناك لاتحاد الموجب، وهو عتق الرقبة، وقوله تعالى: { ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ } أي تزجرون به، { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي خبير بما يصلحكم { عَلِيمٌ } بأحوالكم، وقوله تعالى: { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً } قد تقدمت الأحاديث الآمرة بهذا على الترتيب، كما ثبت في الصحيحين في قصة الذي جامع امرأته في رمضان { ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } أي شرعنا هذا لهذا، وقوله تعالى: { وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ } أي محارمه فلا تنتهكوها. وقوله تعالى: { وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي الذين لم يؤمنوا ولا التزموا بأحكام هذه الشريعة، لا تعتقدوا أنهم ناجون من البلاء، كلا ليس الأمر كما زعموا، بل لهم عذاب أليم أي في الدنيا والآخرة.