التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىۤ أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَٰدِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ
١٢١
-الأنعام

مختصر تفسير ابن كثير

استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب إلى أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها وإن كان الذابح مسلماً، وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: فمنهم من قال لا تحل هذه الذبيحة بهذه الصفة وسواء ترك التسمية عمداً أو سهواً، وهو رواية عن الإمام مالك وأحمد بن حنبل، وهو اختيار أبي ثور وداود الظاهري، واحتجوا لمذهبهم هذا بهذه الآية وبقوله في آية الصيد: { { فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهِ } [المائدة: 4]، ثم قد أكد في هذه الآية بقوله: { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ }، والضمير قيل: عائد على الأكل وقيل: عائد على الذبح لغير الله، وبالأحاديث الواردة في الأمر بالتسمية عند الذبيحة والصيد كحديثي عدي بن حاتم: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل مما أمسك عليك" وهو في الصحيحين، وحديث رافع بن خديج: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه" وهو في الصحيحين أيضاً، وحديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للجن: "لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه" ؛ وعن عائشة رضي الله عنها "أن ناساً قالوا: يا رسول الله إن قوماً يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ قال: سموا عليه أنتم وكلوا قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر" . ووجه الدلالة أنهم فهموا أن التسمية لا بد منها وخشوا أن لا تكون وجدت من أولئك لحداثة إسلامهم، فأمرهم بالاحتياط بالتسمية عند الأكل لتكون كالعوض عن المتروكة عند الذبح إن لم تكن وجدت، وأمرهم بإجراء أحكام المسلمين على السداد، والله أعلم.
والمذهب الثاني في المسألة: أنه لا يشترط التسمية، بل هي مستحبة، فإن تركت عمداً أو نسياناً لا يضر، وهذا مذهب الإمام الشافعيرحمه الله وجميع أصحابه، ورواية عن الإمام أحمد نقلها عنه حنبل، وهو رواية عن الإمام مالك، وحمل الشافعي الآية الكريمة: { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } على ما ذبح لغير الله كقوله تعالى:
{ { أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ } [الأنعام: 145]، وقال عطاء { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ } ينهي عن ذبائح كانت تذبحها قريش للأوثان وينهى عن ذبائح المجوس، وهذا المسلك الذي طرقه الإمام الشافعي قوي، وقال ابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ } قال: هي الميتة. وقد استدل لهذا المذهب بما رواه أبو داود قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله أو لم يذكر إنه أن ذكر، لم يذكر إلاّ اسم الله" وهذا مرسل يعضد بما رواه الدارقطني عن ابن عباس أنه قال: "إذا ذبح المسلم ولم يذكر اسم الله فليأكل فإن المسلم فيه اسم من أسماء الله" ، واحتج البيهقي أيضاً بحديث عائشة رضي الله عنها المتقدم أن ناساً قالوا: "يا رسول الله إن قوماً حديثي عهد بجاهلية يأتوننا بلحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال: سموا أنتم وكلوا" قال: فلو كان وجود التسمية شرطاً لم يرخص لهم إلاّ مع تحققها والله أعلم.
المذهب الثالث في المسألة: إن ترك البسملة على الذبيحة نسياناً لم يضر، وإن تركها عمداً لم تحل، هذا هو المشهور من مذهب الإمام مالك وأحمد وبه يقول أبو حنيفة وإسحاق بن راهويه، وقال ابن جريررحمه الله : من حرم ذبيحة الناسي فقد خرج من قول جميع الحجة، وخالف الخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، يعني ما رواه الحافظ البيهقي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"المسلم يكفيه اسمه إن نسي أن يسمي حين يذبح فليذكر اسم الله وليأكله" ، ثم نقل ابن جرير وغيره عن الشعبي ومحمد بن سيرين: أنهما كرها متروك التسمية نسياناً، والسلف يطلقون الكراهة على التحريم كثيراً، والله أعلم، إلاّ أن من قاعدة ابن جرير أنه لا يعتبر قول الواحد ولا الاثنين مخالفاً لقول الجمهور فيعده إجماعاً، فليعلم هذا، والله الموفق. واحتج لهذا المذهب بالحديث المروي من طرق عند ابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" ، وعن أبي هريرة قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:اسم الله على كل مسلم" .
وقوله تعالى: { وَإِنَّ ٱلشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىۤ أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ }، قال ابن أبي حاتم عن أبي زميل قال: كنت قاعداً عند ابن عباس وحج (المختار بن أبي عبيد) فجاءه رجل، فقال: يا ابن عباس زعم أبو إسحاق أنه أوحي إليه الليلة، فقال ابن عباس: صدق، فنفرت، وقلت: يقول ابن عباس صدق؟ فقال ابن عباس: هما وحيان، وحي الله، ووحي الشيطان، فوحي الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم، ووحي الشيطان إلى أوليائه، ثم قرأ: { وَإِنَّ ٱلشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىۤ أَوْلِيَآئِهِمْ }. وقد تقدم عن عكرمة في قوله: { { يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً } [الأنعام: 112] نحو هذا. وقوله: { لِيُجَادِلُوكُمْ }، عن سعيد بن جبير قال: خاصمت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: نأكل مما قتلنا ولا نأكل مما قتل الله؟ فأنزل الله: { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ }، وعن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نزلت: { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ } أرسلت فارس إلى قريش أن خاصموا محمداً وقولوا له: فما تذبح أنت بيدك بسكين فهو حلال وما ذبح الله عزَّ وجلَّ بشمشير من ذهب يعني الميتة فهو حرام؟ فنزلت هذه الآية: { وَإِنَّ ٱلشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىۤ أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } أي وإن الشياطين من فارس ليوحون إلى أوليائهم من قريش، وقال أبو داود عن ابن عباس في قوله: { وَإِنَّ ٱلشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىۤ أَوْلِيَآئِهِمْ } يقولون: ما ذبح الله فلا تأكلوه وما ذبحتم أنتم فكلوه، فأنزل الله: { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ }، وقال السدي في تفسير هذه الآية: إن المشركين قالوا للمسلمين: كيف تزعمون أنكم تتبعون مرضاة الله فما قتل الله فلا تأكلونه وما ذبحتم أنتم تأكلونه؟ فقال الله تعالى: وإن أطعتموهم - في أكل الميتة { إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } وهكذا قال مجاهد والضحاك وغير واحد من علماء السلف. وقوله تعالى: { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } أي حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره فقدمتم عليه غيره، فهذا هو الشرك، كقوله تعالى: { { ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ } [التوبة: 31] الآية، وقد روى الترمذي في تفسيرها عن عدي بن حاتم أنه قال: يا رسول الله ما عبدوهم، فقال: "بلى إنهم أحلوا لهم الحرام، وحرموا عليهم الحلال، فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم" .