التفاسير

< >
عرض

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
١
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ
٢
كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ
٣
إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ
٤
-الصف

مختصر تفسير ابن كثير

قد تقدم الكلام على قوله تعالى: { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } غير مرة بما أغنى عن إعادته، وقوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } إنكار على من يعد وعداً، أو يقول قولاً لا يفي به، وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "آية المنافق ثلاث: إذا وعد أخلف، وإذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان" ، ولهذا أكد الله تعالى هذا الإنكار عليهم بقوله تعالى: { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } نزلت حين تمنوا فريضة الجهاد عليهم، فلما فرض نكل عنه بعضهم، كقوله تعالى: { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } [النساء: 77]، وقوله تعالى: { فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا ٱلْقِتَالُ رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ ٱلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ } [محمد: 20] الآية، وهكذا هذه الآية كما قال ابن عباس: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لوددنا أن الله عزّ وجلّ دلنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به، فأخبر الله نبيّه أن أحب الأعمال إيمان به لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا بالإيمان ولم يقروا به، فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين، وشق عليهم أمره، فقال الله سبحانه وتعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ }؟ وقال مقاتل بن حيان: قال المؤمنون لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لعملنا به، فدلهم الله على أحب الأعمال إليه فقال: { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً } فبين لهم، فابتلوا يوم أُحُد بذلك فولوا عن النبي صلى الله عليه وسلم مدبرين، فأنزل الله في ذلك: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ }، وقال قتادة والضحّاك: نزلت توبيخاً لقوم كانوا يقولون: قتلنا، ضربنا، طعنا، وفعلنا؛ ولم يكونوا فعلوا ذلك. وقال ابن زيد: نزلت في قوم من المنافقين كانوا يعدون المسلمين النصر ولا يفون لهم بذلك، وقال مجاهد: نزلت في نفر من الأنصار فيهم (عبد الله بن رواحة)، قالوا في مجلس: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا به حتى نموت؟ فأنزل الله تعالى هذا فيهم، فقال عبد الله بن رواحة: لا أبرح حبيساً في سبيل الله حتى أموت، فقتل شهيداً.
ولهذا قال تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ } فهذا إخبار من الله تعالى بمحبته عباده المؤمنين، إذا صفوا مواجهين لأعداء الله في حومة الوغى، يقاتلون في سبيل الله من كفر بالله، لتكون كلمة الله هي العليا، ودينه هو الظاهر العالي على سائر الأديان، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ثلاثة يضحك الله إليهم: الرجل يقوم من الليل، والقوم إذ صفوا للصلاة، والقوم إذا صفوا للقتال" . وقال مطرف: "كان يبلغني عن أبي ذر حديث كنت أشتهي لقاءه، فلقيته فقلت: يا أبا ذر كان يبلغني عنك حديث فكنت أشتهي لقاءك، فقال: لله أبوك، فقد لقيت فهات، فقلت: كان يبلغني عنك أنك تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثكم أن الله يبغض ثلاثة ويحب ثلاثة، قال: أجل فلا أخالني أكذب على خليلي صلى الله عليه وسلم، قلت: فمن هؤلاء الثلاثة الذين يحبهم الله عزّ وجلّ؟ قال: رجل غزا في سبيل الله خرج محتسباً مجاهداً، فلقي العدو فقتل، وأنتم تجدونه في كتاب الله المنزل، ثم قرأ: { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ }" وذكر الحديث. وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً } قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقاتل العدو إلا أن يصافهم، وهذا تعليم من الله للمؤمنين، وقوله تعالى: { كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ } أي ملتصق بعضه في بعض، من الصف في القتال، وقال مقاتل بن حيان: ملتصق بعضه إلى بعض، وقال ابن عباس: { كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ } مثبت لا يزول ملصق بعضه ببعض، وقال ابن جرير، عن يحيى بن جابر الطائي، عن أبي بحرية قال: كانوا يكرهون القتال على الخيل، ويستحبون القتال على الأرض لقول الله عزّ وجلّ: { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ } قال، وكان أبو بحرية يقول: إذا رأيتموني التفت في الصف فجأوا في لحيي.